عرفت بلقب " حميدة القصيرة " .. لقصر قامتها الذي يلفت الأنظار .. بالرغم من أنها لم تكن " قزمة " بالمعني المفهوم . وعلي خلاف غيرها من الكادحات في بيوت الآخرين . كانت مالكة لبيت صغير يقع في الجوار القريب ورثته عن زوجها الراحل .. ولها حياتها كربة بيت , وأم لطفل يتيم تعوله عن طريق مساعدة بعض ربات البيوت في أعمالهن من حين لآخر .. فلا تخلو أذنها بالرغم من بساطة الحال من قرط ذهبي , ولا معصمها من سوار من الذهب من أثر العز القديم , تزور البيوت التي تتعامل معها في مواسم العمل المكثف بها , كيوم الخبز أو مناسبة زواج الابنة , أو عودة رب الأسرة من الحج , أو إقامة وليمة كبيرة للأ هل والأصدقاء .. ناهيك عن المناسبات الحزينة التي تحتاج إلي المساعدة الخارجية .. فتنهمك في العمل من الصباح حتي المساء , ثم ترجع إلي بيتها وطفلها .. لتعيش حياتها الأخري كربة بيت محترمة . ولقد ارتبطت في ذهني أول الأمر بمناسبة المولد النبوي الشريف .. فقد كانت المكلفة بتوزيع الشربات الذي تعده أمي للمناسبة السعيدة علي ا لسابلة عند مرور " الدورة " بنقطة التقاء شارعنا بالشارع الرئيسي للمدينة .. فتحمل الإناء الضخم , وتنتظر اقتراب الدورة وتزاحم الناس لمشاهدتها , فتملأ الأكواب وتهتف : اشرب وصل علي النبي .. ويتزاحم عليها العابرون .. فيرتوون ويشكرون .. وترجع هي في النهاية سعيدة بما وفقت إليه . أما " الدورة " .. فقد كانت " كرنفالا " شعبيا بسيطا يقام في مدينتنا كل سنة احتفالا بالمولد النبوي .. فيبدأ من أمام مركز الشرطة , ويمر بشوارع المدينة , وينتهي بالطواف عدة مرات حول مسجد سيدي إبراهيم الدسوقي .. وكان عبارة عن عدة قول من سيارات النقل المكشوفة وعربات الكارو والحناطير .. يعرض فيه أبناء الحرف نماذج لأعمالهم وفنونهم .. فتمر سيارة نقل تابعة لأحد المقاولين قوم العمال فيها بإقامة نموذج للشدات الخشبية التي تصب عليها الخرسانة .. وتمر سيارة ثانية تابعة لأحد تجار الفاكهة مزينة بأغصان الشجر التي تتدلي منها ثمار اليوسيفي والبرتقال , ويلقي راكبوها بعض هذه الثمار علي المارة احتفالا بالمناسبة الشريفة , وتمر سيارة ثالثة تابعة لأحد التجارة تعرض نموذجا عمليا لصنع الأواني الفخارية , ويوزع عمالها ما ينتجونه أولا بأول علي المارة .. ورابعة لعمال النجارة والموبيليا .. وخامسة لتاجر أقمشة مزينة بتكوينات جميلة من الأقمشة والألوان الزاهية .. وهكذا .. وكانت حميدة القصيرة حلوة اللسان , خفيفة الروح , يلفت نظري في وجنتيها دائما أخدودان غائران .. غير أني ألحظ ذات يوم أن صفحة وجهها قد امتلأت , واختفي منها هذان الأخدودان !.. وأسأل عن السر , فأسمع همسا باسما بأنها قد قامت بتركيب طقم أسنان جديد استعدادا لزواج قريب بعد طول ترمل ! وأشعر أنا بالإشفاق علي ابنها الذي يماثلني في العمر , وأتوجس خيفة مما قد يصيبه لو لم يكن زوج الأم المقبل عادلا ورحيما ، غير أن الأمور تمضي إلي غايتها المقدورة .. وتختفي حميدة عن بيتنا بعض الوقت , ثم ترجع وفي وجهها بقايا زينة غابرة , وتنهال عليها مداعبات سيدات الأسرة ومناوشاتهن .. وهي تغالب خجلها , وتحاول رد السهام الموجهة إليها .. ولا يمضي وقت طويل حتي تتحقق الهواجس التي راودتني حين سمعت بخبر زواجها .. وأشهدها تشكو لأمي من سوء معاملة زوجها لطفلها وغيرته منه .. فضلا عن تعطله شبه الدائم واعتماده عليها في نفقات الحياة , حتي في مصروفه اليومي بالمقهي !.. وتلوح لي النهاية الوشيكة لقصة الزواج المخيبة للآمال .. لكن الأيام تمضي و حميدة تشكو , ولا تبدو في نفس الوقت راغبة في إنهاء هذا الزواج أو التخلص منه ! وأسمعها ذات يوم تشكو لأمي من كثرة مطالب زوجها الذي يصغرها في السن المادية , وعجزها عن تلبيتها .. حتي لقد اضطرب لبيع مصاغها لتقديم ثمنه إليه .. ثم تجئ في يوم آخر مستاءة أشد الاستياء .. فتحكي عن خلاف جري في المقهي بين زوجها وبين رجل من رواد المقهي , عيره خلاله الرجل بأن زوجته تنفق عليه , وبأنها قد باعت مصاغها من أجل ذلك .. وتشاركها أمي الاستياء لذلك , وتقول لها مجاملة : ليس هذا بحق من شيم الرجال قاصدة بذلك زوجها الذي يعيش عالة علي كدها وعرقها .. فتؤيدها حميدة القصيرة بحماس .. وتقول : نعم .. نعم .. ليس هذا من شيم الرجال بحق .. لكن ماذا نفعل في حسد الحاسدين وغيرتهم؟ ! ويستغلق الأمر علي بعض الوقت .. ثم أتبين المفارقة بعد قليل !.. وهي أن أمي تلوم زوج حميدة الخائب علي استنزافه نقود زوجته .. أما حميدة فإنها تلوم الرجل الذي عير زوجها بذلك , ولا تلوم زوجها المحبوب في شئ مهما يفعل ! وأحتاج أنا إلي سنوات أخري من العمر لكي أفهم هذا اللغز الذي بدا لي غير قابل للفهم في حينه .. ويتطلب ذلك مني خبرة أكبر بالحياة , وفهما أعمق لأسرار النفس البشرية بصفة عامة .. ونفس المرأة علي وجه الخصوص ! وأقرأ أيضاً : الحكاية السادسة و العشرين ..البحث عن السعادة !