كانت أيام الطفولة اللاهية .. والقلوب الخالية .. والآمال الصغيرة .. متع الحياة تتمثل في إشباع الاحتياجات الغريزية للصغار من مآكل ومشرب وملعب وفراش .. النوم بعمق شديد يتحسر عليه الكبار الآن ويتمنون لمحة منه غلمان الشارع يبدو لهم وكأن غاية الحياة الكبري ومثلها الأعلي إنما يتحققان باللهو بتفان وإخلاص شديد طوال اليوم من الصباح حتي المساء ، ننقطع نحن أطفال المدارس عن ألعابهم مرغمين فترة الصباح خلال الدراسة .. ونشاركهم ألعابهم بعد الخروج من سجن المدرسة متحسرين علي الوقت الثمين الذي ضاع داخل أسوارها ! رفقاء الطفولة يبدأون يومهم غالبا بمباراة مفتوحة في كرة القدم تبدأ من الصباح , ولا تنتهي إلا مع قدوم الليل أو حدوث طاريء يطلق صفارة نهايتها علي غير رغبة منهم ، تبدأ المباراة كل يوم بتحد مألوف بين اثنين من زعماء الشارع أيهما سوف يهزم الآخر في مباراة الكرة , ويقبل الآخر التحدي ثم يبدأ كل منهما في اختيار أعضاء فريقه , فيقف أحدهما في جانب , ويقف الخصم في الجانب الآخر , ويبدأ كل منهما في اختيار المحظوظين الذين سيشاركونه متعة اللعب والمنافسة , ونقف نحن بين الزعيمين يراودنا الأمل في أن يقع اختيار أحدهما علينا , فيخيب الأمل في معظم الأحيان , وتجود الأيام بالبهجة المرتقبة في مرات شحيحة . يختار رئيس كل فريق زملاءه فيهرولون ناحيته فخورين بالاختيار ومبتهجين به .. ويخطئنا نحن في أغلب الأحوال اختيار الزعيمين .. فنتجرع غصة الحسرة .. ونرجع لمقاعد المتفرجين كالبضاعة البائرة التي لم يشترها أحد . انتهي التشكيل , لكن اللعب لم يبدأ بعد بسبب المشكلة الأزلية والجدل العقيم حولها .. فأكثر اللاعبين وفي مقدمتهم الزعيمان من أبناء البسطاء الذين يسيرون في الأرض حفاة ، وقد اكتسبت أقدامهم العارية صلابة أشد من صلابة بعض الأحذية , لكنهم عند كل مباراة يطالبون القلة من معتادي ارتداء الأحذية بخلعها , خوفا علي أقدامهم من الاصابة , ويثور الجدل الشديد حول هذه القضية , ويرفض أهل الأحذية خلعها .. وحجتهم في ذلك أنهم لم يتعودوا السير حفاة .. وأن أقدام اللاعبين العارية لا تقل صلابة عن أحذيتهم . ويتمسك أهل الحفاة بمطلبهم إلي ما لا نهاية منوهين بما تحمله كعوب الأخذية من مسامير حادة يمكن أن تؤذي جلودهم , ويطول الجدل بين الفريقين , إلي أن يحسمه العقلاء بالتوصل لحل وسط يرتضيه الفريقان , فيجبر رئيس كل فريق بعض لاعبيه من أهل الأحذية ممن عرفوا باللعب العنيف علي خلع أحذيتهم , ويعفي من ذلك من يشهد له الخصوم باللعب النظيف البعيد عن العنف , وتنتهي الأزمة بسلام ويبدأ اللعب , فأما المرمي فقطعتان من الحجر تحتسب هدفا الكرة التي تعبر المسافة بينهما . وأما الجدل الآخر داخل كل فريق فحول من من بينهم الذي يقف حارسا للمرمي , والجميع يريدون أن يشاركوا في المحاورة والهجوم ونيل قصب السبق في إحراز الأهداف , ولا يريد أحدهم أن يقف في المرمي فلا يناله من شرف اللعب سوي محاولة صد الكرات وإبعادها عن مرماه .. فضلا عما يتعرض له دائما من غضب رئيس الفريق كلما دخل فيه هدف .. وربما اشتط في لومه إذا تكررت الأهداف فينهوه أو يسبه سبابا فاحشا .. أو يصفعه عند الضرورة ويحمله عار التسبب في هزيمة فريقه . وينتهي الأمر غالبا باستضعاف أقل اللاعبين كفاءة وإرغامه علي الوقوف في المرمي بعد التلويح له باستبداله بأحد الواقفين علي جانبي الشارع ممن يتلهفون علي المشاركة في اللعب , وتنتهي مشكلة حراسة المرمي , ويتهيأ اللاعبون للعب فيرفع كل منهم ذيل جلبابه ويربطه حول وسطه ليتيح لساقيه الرفيعتين حرية الحركة , أما من يرتدون البنطلون القصير مثلنا أو البيجامات , فلا مشكلة لديهم في ذلك , لكنهم لا يختارون غالبا للانضمام للفريق إلا لأسباب قهرية أو طارئة . وأما الكرة فهي جورب قديم يتبرع به غالبا أحد غير المحظوظين بالاختيار معظم الأحيان , وتم حشوه بالقطن وخياطته علي شكل دائري .. وحين ظهرت الكرات المصنوعة من المطاط واجه الرفاق مشكلة ارتفاع ثمنها الذي لم يكن يقل عن عشرة قروش , ثم حلت المشكلة ذات يوم بأن تطوعت لشراء كرة وقدمتها لزعماء الشارع , وتصورت لغفلتي أن ملكيتي لها سوف من أسهمي لديهم عند الاختيار , فإذا بالزعماء يثبتون موضوعية مبكرة في التفكير ويفصلون بين ملكيتي للكرة , وبين أحقيتي في اللعب ضمن صفوف فريقهم .. فلا يتاح لي اللعب معهم إلا وفقا لقواعد الاختيار المقررة من قبل وهي الأكفأ .. فالأقل كفاءة , فالأقل .. وهكذا إلي أن يصل الترتيب إلي في ذيل القائمة ! وأما التحكيم خلال سير المباراة فعلي المشاع , ويشارك فيه رئيسا الفريقين واللاعبون أنفسهم والمتفرجون , ويتوقف سريان أحكامه علي قبول الخصم بها , فإذا اختلفوا حول حكم من أحكام اللعب وكثيرا كانوا يختلفون فمرده الي شهادة الشهود من أمثالنا .. وكل رئيس يعرض وجهة نظره ويستحلف الشهود أن يحكموا بالعدل بينهما فيحكم كل منا بما يراه , وتثبت التجربة لنا في وقت مبكر ثقل أمانة القضاء والحكم بالعدل بين الاخرين .. فمن يحكم منا بما يراه العدل والحق يناله من سخط الطرف الآخر عليه الكثير .. وليس بمستبعد أن يطوله رذاذ الاتهام بالممالأة وقلة الذمة , أملا في أن يرضي عنه من حكم له ويضمه لفريقه بعد حين , ومن يمتنع عن الحكم إشفاقا علي نفسه من الغضب أتهم بالجبن وانهدام الشجاعة الأدبية لنفس الغرض . وفي كل الأحوال فسوف يتوقف اللعب بعض الوقت ثم تحل الأزمة بشكل أو بأخر وتستأنف المباراة من جديد . وخلال سير اللعب , قد يستدعي أحد اللاعبين من جانب أهله فينسحب من الملعب كارها وراغما .. وقد يلمح أحدهم أباه مقبلا من بعيد فيسرع بالفرار قبل أن يضبطه متلبسا بجريمة اللعب طول النها ر بلا فائدة ولا جدوي , فتشرئب أعناقنا نحن من جانب المشاهدين ونتطلع الي رئيس الفريق الذي خسر أحد لاعبيه نترقب الاشارة السحرية منه , فيشير إلي أحدنا , وينزل سعيدا الي الملعب ومغبوطا من الآخرين , ويفاجأ غالبا بأن حارس المرمي الذي أجبر علي الوقوف فيه في بداية المباراة علي غير إرادته .. قد احتج علي رئيسه مطالبا بفرصته العادلة في المحاورة بعد طول الوقوف في هذا المركز غير المرموق , ويرضي عنه رئيس الفريق أخيرا ويشير له بالمشاركة في الهجوم , فلا يجد الوافد الجديد مكانا له إلا بين أحجار المرمي , حيث الخوف كل لحظة من العار .. أو سباب الرئيس ولومه ! وأما وقت اللعب , فليس محددا بزمن معين .. وإنما يتواصل الي أن ينسحب أحد الفريقين لأسباب قهرية .. والمباراة مفتوحة ين سحب منهما كل من يستدعيه أهله فيحل محله آخر من البدلاء المنتظرين , فلا يصمد للعب من البداية حتي النهاية غالبا سوي رئيسي الفريقين و النجباء من أعضائه ممن لا يبحث عنهم ذوويهم ! والأصل هو أن تستمر المباراة الي أن يحل الظلام وتتعذر رؤية الكرة والدفاع عن المرمي .. والاستثناء الذي يتكرر في كثير من الأحيان هو أن تنتهي المباراة لأسباب خارجية طارئة .. كأن تضيق بعض سيدات الشارع بعصيان الأبناء لندائهن عليهم للانسحاب من الفريق والعودة للبيت , فلا تجد إحداهن حلا لذلك سوي إفساد المباراة عليه وعلي زملائه بإلقاء سيل عارم من الماء من النافذة علي ساحة اللعب فيغمر رؤوس اللاعبين ، ويتفرق الصغار بعض الوقت ويلبي نداء الأهل من تجاهله طويلا استجابة لنداء اللعب , ثم يحل الظلام , ويتجمع الرفاق من جديد بعد فترة الراحة الاجبارية لبدء ألعاب المساء .. وأفضلها عندهم نطة الانجليز .. وهي لعبة مشابهة للعبة حصان القفز في الجمباز مع اختلاف بسيط هو أن الظهر الذي يقفز اللاعبون من فوقه .. هو ظهر حصان بشري من الصغار .. أما بقية ألعاب المساء فكثيرة وجميلة , من بينها الاستغماية .. ورواية الحكايات المثيرة وقصص مغامرات رعاة البقر التي تعرض علي حلقات مسلسلة في دار العرض الوحيدة بالمدينة , وهي ظاهرة انفرد بها جيلنا عن الأجيال الحالية , حيث اختفت الآن هذه الحلقات المسلسلة من دور السينما وكانت تعرض دائما قبل الفيلم الرئيسي وتستثير خيالنا بمغامراتها العجيبة وشجاعة بطلها وقدرته علي مواجهة الخصوم ولفرار من مطارديه الذين يلاحقونه علي ظهور الخيل المسرعة , وفي مثل هذه الحكايات والروايات كان الوقت المسحور يمضي بغير أن نشعر به . وأقرأ أيضاً : اللقاء الأخير ! الحكاية الأولى .. الانحناء !