نتفق جميعا أن شجرة الإبداع فى مصر تشهد ذبولا مستمرا على مستوى الأجيال المتتابعة ورغم هذا التراجع الشديد إلا أن هذه الشجرة قررت أن تموت وهى واقفة تشجع ما ينبت فى أطراف أغصانها من أدباء وكتاب جدد لكنهم بحجم ابداعهم لم يستطيعوا إحياء هذه الشجرة كما لم يستطيعوا أن يملأوا الفراغ الهائل الذى تركه خلفهم جيل الرواد الأوائل مثل عباس العقاد ولطفى السيد والدكتور طه حسين ويوسف إدريس ويوسف السباعى ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وغيرهم ممن صاغوا الوعى المصرى بكل ما تحمله الكملة من معانى وصنعوا لمصر مكانة عالمية بأدبهم الرفيع .. لكن المفاجأة التى نعرضها فى السطور التالية أن الدكتور طه حسين بنفسه حذر من هذا التراجع مبكرا لدرجة أنه اشتكى من تلامذته ومن الأباء الكبار المعاصرين له الذين أصبحوا عمالقة فيما بعد ووصفهم بأنهم قليلو القراءة وتخيلوا أنه كان يقول هذا الكلام لأدباء وكتاب بحجم ثروت عكاشة ونجيب محفوظ ويوسف السباعى وأنيس منصور وتوفيق الحكيم وكامل زهيرى ومحمد العالم وغيرهم ممن لم نستطع أن نستدل عليهم فى هذا الفيديو .. ففى هذا التسجيل النادر استشعر الدكتور طه حسين الخطر نتيجة تراجع اهتمام الأجيال الجديدة بالقراءة والتهديد الذى شكلته وسائل الإعلام على المعرفة وتدنى مستوى الثقافة حتى بين المبدعين .. كان عميد الأدب العربى يرى أن هناك خطورة على الابداع نتيجة انصراف الكتاب والأدباء والمثقفين عن قراءة الأدب القديم والتعمق فى الأدب الحديث وذكر عميد الأدب العربى أن من حبه لهذه الأجيال الجديدة أصدر هذا الحكم حتى ينبههم ويوقظهم .. ربما نتفق منذ البداية أن لكل زمان نجومه ومبدعيه فى مجال الأدب والفن والمعرفة والثقافة بشكل عام وهؤلاء هم الذين يرسموم صورا حية فى أعمالهم للمجتمع بكل ظروفه لكن الاختلاف الحقيقي بين الأجيال يكمن فى مستوى الموهبة والنجومية الحقيقية النابعة من عظمة الابداع فهناك تراجع شديد بشهادة الكثير من الفلاسفة والكتاب فى مصر وهذا التراجع بدأ منذ عصر الانفتاح الاقتصادى وسيطرة الحياة المادية .. قال الدكتور طه حسين واصفا حال الجيل الجديد الذى كان يضم فى ذلك الوقت عمالقة كبار فى حجم الأديب العالمى الراحل نجيب محفوظ والأستاذ أنيس منصور وكامل زهيرى وثروت أباظة ويوسف السباعى وغيرهم أنه يأخذ عليهم أنهم قليلو القراءة جدا ولا يحبون أن يتعمقوا فى شىء وأن هؤلاء الكتاب الجدد قاطعوا الأدب العربى القديم ومن يعرف من هؤلاء لغة أجنبية ربما لا يقرأون فى آداب هذه اللغة أو بعض ما ترجم منها من هذه الآداب وعلى كل حال نجد أن ما يكتبوه لا يدل على ثقافة واسعة أو عميقة.. وكانت كلمات عميد الأدب العربى صادمة للعمالقة الجالسين فقد هز الكاتب أنيس منصور رأسه وكان أنيس منصور من تلاميذ الكاتب عباس العقاد وكان دائم الهجوم على أدب الدكتور طه حسين لكنه أبدى ندمه بعد وذلك حينما قال أنه خسر كثيرا لأنه لم يقترب بشكل كاف من عميد الأدب العربى .. أما نجيب محفوظ فقد بدت عليه الدهشة واكتفى بابتسامة هادئة وآثر الصمت. وعلى ما يبدو من هذا المقطع النادر فقد حاولت المذيعة أن تخفف من وطأة كلمات عميد الأدب العربى واصفة الحكم بأنه قاسيا لكنه استدرك وواصل حديثه قائلا " لست قاسيا لأن حبى لهؤلاء هو الذى يدفعنى لأن أتمنى أن يكونوا خيرا من هذا الحال الذين هم عليه" فقالت له المذيعة أن هذه دعوة للمعرفة والتعمق فى الفكر والقراءة المستمرة والبحث خاصة فى هذا العصر المادى. وأضاف طه حسين فى حديثه أن وسائل الإعلام الجديدة أثرت بشكل كبير للغاية على مستوى الثقافة والمعرفة لدى الأجيال الناشئة وقال " للأسف الشديد غزو التليفزيون والراديو والتمثيل يمنع الناس من القراءة ويأخذ أوقاتهم .. التليفزيون والصحف والسينما كل هذه أشياء سهلة جدا لا تكلف مشقة ولكنها تستغرق أوقات الناس وبذلك لا يقرأون .. لكن الكاتب الراحل يوسف السباعى تدخل فى الحوار وقال فى تواضع أمام عميد الأدب العربى معبرا عن اختلافه فى وجهة النظر " التليفزيون والسينما والمسرح لو اعتبرناهم أدوات غير مثقفة فقد يكون فى ذلك تجنى لكنى أعتبرها أدوات نشر لأنه جائز المسرحية المكتوبة إذا تم تقديمها على المسرح فقد تقدم نفس الثقافة وفى الإذاعة يمكن أن أستمع لكتاب أو مسرحية فاستماعى له فيه نوع من أنواع الثقافة". فرد عميد الأدب العربى قائلا أن السينما تفسد الرواية أو المسرحية أولا ثم تقدمها للجمهور. ثم انتقل عميد الأدب العربى للحديث عن معركة الفصحى والعامية فقال ناصحا تلاميذه من العمالقة " لا تكتب بالعامية الخالصة ولا الفصحى الخالصة وإنما بمزاج بين اللغتين ومازلت حتى الآن من أنصار الفصحى ومن خصوم العامية وليس معنى الخصومة أنى لا أحب أن تدخل جملة قليلة فى كتاب من الكتب باللغة العامية وإنما أكره أن تكون الكتابة كلها بالعامية .. وفى جمل معينة إذا أديت بالفصحى لن تؤدى الغرض الطبيعى الذى يطلبه المتكلم فهنا تستعمل بعض الألفاظ العامية وأن يكون الحوار بالعامية ولكن لا أحب أن يكون كل الحوار بالعامية .. والحاحظ نفسه تكلم عن استعمال ألفاظ عامية فى القرن الثالث الهجرى .. وتدخل الأستاذ كامل زهيرى فى الحوار متحدثا عن معركة الفصحى والعامية باعتبارها من أهم معارك الأدب فقال عميد الأدب العربى أن الفصحى هى الطريقة الوحيدة لتحقيق الوحدة بين الأمم العربية فبها يفهمك المغربى وغيره أما إذا كتبت بالعامية فلن يفهمك إلا عامة المصريين .. وذكر الدكتور طه حسين أنه زار المغرب الأقصى والتقى محمد الخامس ملك المغرب والذى استقبله فى قصره وقال له انه مسرور جدا بموقف مصر حيال استقلال المغرب وقال كلمة عامة فلم يفهما طه حسين فطلب من المستشار الثقافى المصرى بالمغرب تفسيرا للكلمة. والآن تخيلوا كيف كان الابداع فى مصر قبل نحو أربعين عاما وكيف كان حال المبدعين !! الفيديو