أمضي فان جوخ ثلاث سنوات في لندن وسعد بالتراث الأدبي البريطاني، وهو حب تم استكشافه في معرض »تيت» الجديد، المقام حاليا في إنجلترا، تحت عنوان »فان جوخ وبريطانيا»، وفيه تعرض لوحته »ليلة مرصعة بالنجوم علي نهر الرون» التي ظلت معلقة في باريس علي مدي نصف قرن، وتغلب عليها ألوان البحر المتوسط، وُصفت بأنها مثل الزبرجد الأزرق الملكي والذهب الخمري، وتحمل القليل من التشابه مع غموض وقتامة نهر التايمز الذي تُعرض اللوحة علي ضفافه. رغم أنه لم يمض سوي ثلاث سنوات في بريطانيا، تحديدا بين عامي 1873 و1876 حينما كان في ريعان شبابه، إلا أن تأثره بها بدا واضحا، ومن الأمثلة علي ذلك، إذا نظرنا إلي ما وراء لوحته »ليلة مرصعة بالنجوم علي نهر الرون» التي رسمها فان جوخ عام 1888، قبل عامين من وفاته، سنلاحظ أن لوحة »أمسية» لجوستاف دوريه علي نهر التايمز تُظهر لندن من جسر ويستمنستر، وهو منظر عرفه فان جوخ عن كثب من تنقله بين مساكنه في الضواحي ومكتب كوفنت جاردن حيث عمل ككاتب. النمط المعتاد الذي صنعته الأضواء الكاشفة أثناء طيرانها عبر النهر هي ما جذبت فان جوخ إلي لوحة دوريه، وبعد مرور خمسة عشر عامًا، قام بنقل هذه الحداثة إلي لوحته »ليلة مرصعة»، وهي وجهة نظر لمدينة تتنافس فيها مصابيح الشوارع الجديدة ذات الفتيل مع النجوم المتفجرة والمتلألئة لتضيء السماء. خلال إقامته في لندن تواصلت علاقات فان جوخ مع الثقافة البريطانية بشكل أعمق. توضح كارول جاكوبي، رئيسة معرض تيت، أن الفنان الهولندي كان »فنان وأديب»، وأن الكتب التي قرأها خلال فترة وجوده في لندن كانت مهمة لتطويره لاحقًا. وأضافت: إن رسائل فان جوخ التي تعود إلي أسرته مكتظة بالإشارات إلي الكلاسيكيات التي التهمها خلال فترة وجوده في بريطانيا، بما في ذلك »الرحلة» لجون بونيانزوجريس، و»روبنسون كروز» لدانييل ديفو، و»جين آير» لشارلوت برونتي. إلا أن مؤلفه المفضل كان تشارلز ديكنز، وتلاه جورج إليوت. وقد أشار مؤرخو الفن ذوو الرؤية الثاقبة إلي أن سماء الليل في لوحة نهر الرون هي اقتباس مباشر من مشهد في رواية ديكنز »هارد تايمز»، حيث ينظر البطل الثانوي، ستيفن بلاكبول، مدعيا تأمله في نجمة بالسماء بينما كان يفكر في حياته الصعبة والموت الوشيك. لقد أحب الناس ديكنز وفان جوخ وإليوت بسبب الطريقة التي تعاملوا بها مع تفاصيل الحياة اليومية المتواضعة، حيث رفعوها إلي شيء مضئ، ومعهم كانت تتحول الواقعية الاجتماعية، بكل رعونتها، إلي نوع من العظمة الأخلاقية. بعد ذلك بسنوات قليلة، وهو في طريقه ليصبح ذلك الفنان الذي يستثمر الأحذية القديمة، وزهور عبّاد الشمس والفلاحين الذين يأكلون البطاطس بإحساس فني قوي، كتب فان جوخ إلي شقيقه: »أهدف إلي صنع الأشياء من الحياة اليومية التي وصفها ديكنز ورسمها هؤلاء الفنانون». وقد كان مفتونا بشكل خاص بمنطقة وايت شابل في شرق لندن، التي وصفها لأخيه ثيو بأنها »منطقة فقيرة للغاية ستقرأ عنها في كتب ديكنز»، أما الفنانون الذين أشار إليهم فهم صانعو نوع جديد من المواد الفنية والصور التي تخضع للتجار مثل جوبيل آند كو، ففي وقت وصول فان جوخ عام 1873، كانت لندن تؤسس نفسها كعاصمة عالمية لفنون الجرافيك، يغذيها مشهد أدبي مزدهر وطرق إنتاج حديثة وسوق عالمي ضخم. وقد استخدم فنانون مثل لوك فلدز وهوبرت فان هيركومر، جنبا إلي جنب مع دوريه، أشكالاً جريئة من الضوء والظل للتعبير عن مناحي الحياة في أكبر مدن العالم. بدلاً من مادونا أو السيدة مريم الهادئة والجنرالات اللامعين، صوروا رجالاً ونساء ينتظرون أن تفتح الحانة، بينما عمال النظافة في الشوارع يدفعون عرباتهم علي نحو مرهق، وحُكم علي سجناء نيوجيت بالسير في دائرة مستمرة. جمع فان جوخ 2000 من هذه المطبوعات والنقوش، المعروفة شعبياً باسم »الأسود والأبيض». كانت الجودة التي جذبته إلي هذا الفن الديمقراطي الجديد هي الدافع نفسه الذي دفعه نحو روايات ديكنز وإليوت. بدا أن كليهما كانا يقدمان صراعاً مع أسلوب حياة كان أكثر أصالة من أسلوبه، فأصبح يشعر بخيبة أمل متزايدة. كان ارتداء قبعة ووضع »بايب» في فمه باستمرار عند توجهه للعمل أمراً جديداً ومثيراً في البداية، إلا أن الأمر بدا بلا فائدة علي نحو متزايد، لا سيما عندما يواجهنا مشهد الفقر واليأس المستمر في شوارع المدينة. في قراءته للكتاب الأدبي الإنجليزي، كان فان جوخ منجذبًا بشكل خاص إلي أبطال الطبقة العاملة الذين اختاروا أن يكونوا مع مواطنيهم علي الرغم من امتلاكهم الموارد الفكرية للاستفادة من البرجوازية الصغيرة، إلا أنهم اختاروا البقاء بين أقرانهم. ستيفن بلاكبول بطل رواية هارد تايمز هو أحد هذه الشخصيات، وكذلك البطل المسمي في معظم روايات إليوت السياسية، فيليكس هولت، الراديكالي، بصفته نجل القس. كان فان جوخ دائمًا علي دراية بمحنة المهمشين والمسنين والفقراء.