من خلال سلسلة ديوان الشعر العامي بالهيئة العامة للكتاب يطل علينا الشاعر »حسام العقدة» بديوانه الثاني »نقوش فرعونية»، بعد عشرين عاما من إصداره الأول »القطة العميا» الصادر عن سلسلة أصوات أدبية في العام 1999. طال الغياب الذي لن أتوقف أمامه كثيرا بحثا عن أسبابه وملابساته، لكن ما يسترعي التوقف أمامه أن الديوان الثاني جاء كسابقه ممهورا بعنوان محرض علي القراءة والخوض في غمار القصائد بين دفتي الكتاب. لم يبتعد العنوان كثيرا عن هواية الشاعر الأولي كفنان تشكيلي مارس الرسم والنحت، فجاءت نقوشه الفرعونية تشي باحتفائه بالتشكيل. وبرزت الدراما في كثير من القصائد. يؤمن شاعرنا بالفن عموما، يستلهمه من كل ما تصيده عيناه، أويقرع أذنيه، أو يداعب أيا من حواسه.. من بائعة الفول، والموظف البسيط، من لعب الأطفال، وحوارات الشارع؛ فيهدي ديوانه بكل أريحية لكل من ألهمه الكتابة، بل وشاركه فيها. يشتبك الشاعر مع الناس والحياة والمحبوبة والوطن والفن والسياسة بصوت هادئ، دون صخب أو خطابية. يلقي أحجارا في مياه راكدة، فيكسب تعاطف المتلقي، دون أن يملي عليه إحساسه. فقط يقرع الأبواب، ويترك للآخرين التفاعل والانفعال. يفتتح ديوانه بقصيدة قصيرة تلج معه من خلالها إلي بداية الاشتباك، فيري نفسه طفلا بريئا يحاول أن يتجنب أوجاع العالم ظانا أنه يستطيع الوصول دون أن يصيبه شيء من أوحاله،أو دنسه.ويتكئ في قصيدة »ملامح» علي مفردات الفن التشكيلي، متصورا أنه يرسم بورترياً لوجهه، ويمارس حيلته في التخلص من سخافات العالم، ومعاناة الحياة بمقابلتها بفتور، دون انغماس أو تشبث أو تجاهل. يتعامل بتحفظ، فلا يبالغ في الفرح أو الحزن؛ إذ لا يجد أمامه حيلة إلا الحلم.» خلي العين بتبص بنظرة عميقة.../ شايفه لحد الحلم.../ مجنون لو فكرت تحط ملامح ضحكه ف بقك...» ص: 11. كثيرا ما يرسم العقدة بالكلمات دراما إنسانية عالية الجودة، لا تخلو من المؤثرات البصرية، والسمعية، والحسية؛كما في قصيدة »هامش البحر» حيث يمتد الخيط الدرامي متوغلا في أعماق بياعة الفول، المعذبة بالبحر، ولعب الأفلام مع زملاء أبنائها، وانتشائها بمياه المطر والبحر، ومحاولتها الانتحار بقطع شرايين يديها، والذي يخلف ندبة تواريها بفعل الساعة. وتعلو تفاصيل الدراما حين يتقمص دور فنان تشكيلي يرسم بورتريه0اً لبطلة القصيدة التي يرسم بالكلمات تفاصيل نظرتها، وتدخينها، وثرثرتهما معا حول سعاد حسني وجاهين. وفي عنوانه اللافت »عشبة اليباريح» يغوص بنا في تفاصيل المشايخ والأولياء، والأحجبة. ومن الجميل في شعر العقدة أن تلتقط كاميراه الشعرية ملامح غاية في الإنسانية؛ففي قصيدة »المالح» يعالج شخصية البنت التي قد تمارس عملا غير أخلاقي من أجل لقمة العيش. وهو هنا لا يحاكم سلوكها من منظور أخلاقي، بقدر ما يقترب من مساحات مسكوت عنها بداخلها بإنسانية تليق بفنان مهموم بالمعني المطلق للنفس البشرية. وفي قصيدة »مسرح» يصور تلك الحالة الانتقامية التي تمارسها بطلة العرض بمازوخية مقززة. وهكذا يترك لنا الشاعر في قصائده التي تعتمد علي الدراما نهايات مفتوحة، وزوايا منفرجة تحتمل تأويلات متعددة. الأنثي تحضر بقوة في شعر العقدة، وهو يمارس الغزل الصريح أحيانا، بشيء من التحفظ، وتأتي غزلياته في صورة اقتراحات، ومع ذلك تتمتع بخصوصية بعيدا عن الكلشيهات المكرورة، ظهر ذلك في قصيدة »كان ممكن»، وفي قصيدة »مش محتاج لجزيرة» حين يقول: »وبلاش تلوميني/ إني بابص لستات تانيه!/ أنا بس بأكد لعينيه إنك أجمل» ص: 51. »مش عايز اعيش في جزيره معاكي../ أنا أصلا مش شايف غيرك/ وهافاجئك كل شوية/ بخبطه علي الهانش» ص: 52. وفي قصيدة »مش نجم الحب» يرسم لوحته التشكيلية من خلال مفردات يومية بسيطة: » لما اشرب القهوه الاقي عينيكي مرسومه في وش فنجاني/ ودخان السجاير.. يرسمك بروفيل» ص: 72. وأما ثنائية الحب والحرب فقد أبرز تلك التيمة أكثر من مرة، ففي قصيدة »نقوش فرعونية» يحيلنا إلي الرواية الشهيرة »في الحب والحرب» لإرنست همنجواي فيقول همسا: »اصعب حاجه في الدنيا الحرب.. بس الحب كمان مش سهل» ص:29. ويعزف علي نفس الوتر في قصيدة» دقت طبول الحب» يقول: »فيا ريت تيجي لي../ نمارس العشق البريء../ قبل اما نلقي طريقنا مقفول بالبنادق/ قبل اما تتزرع الخنادق.. في الطريق». إلي أن يصل إلي ختام القصيدة قائلا: »دقت طبول الحب ميت مره علينا دقت طبول الحب قبل الحرب/ فتعالي نتقابل ونشرب شاي/ وتعالي نرقص رقصه هاديه/ ف أي ديسكو بعيد» ص: 48. ينوع العقدة في أساليبه؛ فيجنح إلي المراوحة بين الخبر والإنشاء؛ جذبا للمستمع واسترعاءً لانتباه القارئ؛ فيستخدم الإنشاء كثيرا، أحيانا يختار صيغة الأمر: »ارسم خط بسيط للوش..»، »خلي اللون الباهت سايد»، »خلي العين بتبص بنظرة عميقة» ص: 9. وأحيانا يتكئ علي النهي: »وما تهتمش بالتفاصيل»، »اوعي تحدد أي ملامح تافهة.. خير أو شر» ص: 9. وكثيرا ما تأتي القصيدة أو جزء منها في هيئة حوار، وهذا متكرر بشكل لافت: »تعرفي إني لأول مرة/ آخد بالي من رقة مناخيرك؟/ وان بلدنا غير سوريا.. وليبيا..و/نشرات الأخبار بتفكرني يوماتي بحادثة غرق العبارة» ص: 31. وكما يظهر جليا في المقطع السابق أنه يطرق أبوابا مغلقة، ويتماس مع قضايا سياسية واجتماعية في قصيدته التي تدور بالأساس حول محبوبته. ويظهر مثل ذلك في قصيدة »جربي مره تحبيني» : »حبيني/ حروف الشعر هتكتر/ وتخلي الإرهاب يرجع ويعيد حساباته!/ حبك هيخلي جرايم الناس تتلاشي/ والبورصة تحقق أرباح/ ويزيد الحد الأدني لأجور العمال/ ويعيد الاستقرار/ والأرض تدور بشوييييييييش» ص: 63. وأحيانا يثر قضايا عدمية ووجودية كقصيدة »السير بدون هدف». وتتجلي حالة العدمية تماما في قصيدة »البصمات»، والتي تأتي خطابا لشخص متخيل أو افتراضي، وهو هنا يستخدم تكنيك التجريد الذي اعتمده الجاهليون، ولكن بروح حداثية ومفردات يومية معيشة وعادية. يظل هكذا يطرق أبواب القضايا السياسية، والهموم الاجتماعية في سطور مفردة مدموجة داخل قصائده الإنسانية أو الغزلية، إلي أن يفتح الباب علي مصراعيه، في أكثر من قصيدة فيقول في »الدم نازف ع الأدان» : »مين العدو؟ مين الحبيب؟/ مين اللي عايش وسطنا؟ مين الغريب؟/ وجراحنا ليه رافضه تطيب؟!/ الدم نازف ع الأدان../ لكن كمان../ الدم نازف ع الصليب» ص: 70. إلي أن يصل إلي المباشرة، وعلو الصوت في تعبيره عن حب الوطن؛ فيقول في »نفتديكي»: »نرمي أرواحنا في أرضك/ وبدمانا نحمي عرضك/ خير جنود الأرض عندك/ تأمري.. نلبي نداكي» ص: 104. لا يكتب حسام من منطقة نرجسية، ولكني أستطيع أن أصفه بالشاعر المخادع –بالمعني الإيجابي- الذي يروغ منك في دهاليز متعددة، دون أن يصل بك إلي نهايات الأنفاق التي يدفع بك داخلها، فتخرج محتشدا بطاقات إنسانية متعددة، ومشاعر متباينة وأسئلة مفتوحة بلا إجابات محددة.