كان الرئيس جمال عبد الناصر معتاداً علي سماع أم كلثوم، مساء كل يوم في الإذاعة، وفوجئ بتوقفها، فاتصل لسؤال الضابط المسئول عن السبب، فقال له »إنها من العصر البائد»، فرد ناصر »إذن خذ دبابة صباح غد واهدم الهرم».. إزاي يا فندم ؟.. لأنه من العصر البائد. حنكة عبد الناصر جعلته يحافظ علي السياج الناعم للأمة المصرية، الذي تشكل في عصر الملكية، ولم يمنع أم كلثوم وكان عاشقاً لفنها، رغم أنها غنت في عيد ميلاد الملك »الليلة عيد، لاح نور الفجر» و»ارفعي يا مصر أعلام السرور». كان مستحيلاً أن تنتمي أم كلثوم لأحد غير مصر، التي تربت في قراها وبنت أمجادها من حب المصريين لها، فأصبحت ملهمة للثورة في الأفراح والآلام. لم يحدث ذلك مع أم كلثوم فقط، فكل الذين صنعوا مجد الثورة، كانوا خريجي عهد الملكية.. نجيب محفوظ وطه حسين والعقاد وعلي الجارم ومحمد حسنين هيكل وزكي نجيب محمود، وآلاف العظماء الذين سطروا المجد لمصر، ورفعوا رايتها خفاقة في سماء العروبة. وكان الوعي الثقافي هو السياج الآمن الذي أحاط بمصر في أحلك الأزمات، وفي حرب 1967 خرج مارد الفن صارخاً بأعلي صوته »أنا إن قدر الإله مماتي، لا تري الشرق يرفع الرأس بعدي، ما رماني رام وراح سليماً، من قديم عناية الله جندي»، واستطاعت أن تقف علي قدميها، وتحقق معجزات في الصمود والنصر، نادراً ما تتحقق لغيرها من الدول. الفن الراقي والثقافة المتسامحة، هما المخزون الإستراتيجي الذي تستدعيه الأمة في أوقات الشدة، ليحصن الناس ضد الهزائم النفسية والفشل والإحباط، وما أروع ائتلاف القوتين الناعمة والخشنة، ليصدا عن البلاد هجمات المعتدين. ما أحوجنا إلي استعادة القوة الناعمة، التي تزرع الابتسامة علي الشفاه، وتضيء الأمل في القلوب، فمصر لم تكن »هبة النيل» فقط، بل أيضا »هبة التسامح والوعي»، وتنهل ثقافتها من »جريان النيل»، الذي يفيض خيراً علي ضفتيه. لسنا دولة صحراوية، تتقاتل قبائلها علي آبار المياه، ويهاجر سكانها من مكان لمكان بحثاً عن بئر جديد، فيفتقدون الولاء للأرض، وإذا حطت علي بلادنا ثقافة الصحراء، فلا منفذ إلا باستعادة ثقافة الوعي. الوعي بأن هذا الوطن ولد في قلب الصراع، لموقعه المتميز بين الشرق والغرب، فيتعرض لمكائد ومؤامرات، لإحباط عزيمته وإفساد ثقافته، حتي لا يشع نورها في سائر دول المنطقة، كما فعل عبد الناصر، الذي جعل المنطقة كلها مشدودة لتيارات الاستقلال والتنوير. الوعي بأن الغارات التكفيرية التي تهب علي البلاد، هي نفسها توابع الغارة الكبري المستمرة منذ مئات السنين، لوقف النهضة المصرية التي تشيد الأرض، وتقوم بتعمير العقول. الوعي بأن الخارجين من كهوف التطرف، لا يختلفون عن أي معتد آثم، يريدون أن يسجنوا الوطن وراء قضبانهم، ولن يكون النصر إلا للمصريين.