لا تمثل عودة دار الكتب الواقعة بباب الخلق إلي سابق عهدها، مكسبا للحياة الثقافية المصرية والعربية فقط، بل مكسبا كبيرا لطبيعة هذه المنطقة الغنية بتراثها الحضاري والإنساني، إذ تقع وسط تركيبة قلما توجد في مكان آخر في العالم، فالدار التي يعود افتتاحها إلي عام 1904، تعيش في القلب من عالم غني بمفرداته، فهي في نهاية شارع محمد علي بما يمثله من ثراث فني، لازالت بقاياه موجودة حتي الآن، في بعض المحال التي تبيع الأدوات الموسيقية، ولهذا المكان تاريخ عريق، خلدته الكثير من الأفلام، وإذا كان الباب الرئيسي يقع في نهاية هذا الشارع، فإن جزءا كبيرا من الدار يطل علي شارع بورسعيد، بما يمثله هو الآخر من عراقة وتاريخ يشهد بالعديد من الأحداث الكبري التي غيرت معالم الحياة في مصر، وهذا الشارع الممتد يصل إلي مسجد السيدة زينب، بما لهذه المنطقة الشعبية من خصوصية وتفرد، وهو علي مقربة – أيضا – من منطقة الحسين ذات الدلالات الروحية العميقة. فهذه الدار لم تكن منعزلة في لحظة عن السياق المعرفي والتكوين الروحي لهذا الشعب، وكأن التاريخ يريد أن نتذكرها علي الدوام بربطها بالأحداث الكبري التي نمر بها، فقد طالها الإرهاب الغاشم، بعد ثورة 30 يونيو 2013، التي أنهت بقرار شعبي علي حكم الأخوان، الذي أراد أن يغير من هويتنا، ولم تكن دار الكتب ببعيدة عنه، فمنذ اللحظات الأولي قررت قيادات الأخوان أن يتولي رئاسة هذه الدار واحد منهم، وهو أمر قاومه الضمير الثقافي، باعتبار أنه لا يمكن أن يسيطر عليها فصيل هو في الأساس معاد للثقافة، لكن كان نصيبها أن يرأس مجلس إدارتها أحد الوجوه الإخوانية، وبعد أن يترك الإخوان الحكم تتعرض لبعض التلفيات الناتجة عن محاولة تدمير مبني مديرية أمن القاهرة الواقع بالقرب منها، ومنذ يناير 2014 تصاب الذاكرة ببعض العطب، لكن تتضافر الجهود، ويقدم حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان القاسمي دعمه المالي عن طريق مكتبه الاستشاري بالقاهرة ليتم دفع العمل علي قدم وساق منذ 2016، وها هي الدار تستعيد رونقها، بل ويتم تطويرها وإمدادها بأحدث الوسائل التكنولوجيا التي تسهم في إبراز خصوصية مقتنياتها، التي تشارك في كتابة جزء هام من تاريخ الإنسانية. لم يكن هذا هو التطوير الوحيد الذي شهدته الدار منذ افتتاحها في 1904، بل سبق أن تم تطويرها وتحديثها أثناء فترة فاروق حسني وزيرا للثقافة، وذلك في إطار مشروع خصص مهام دار الكتب بكورنيش النيل باعتبارها المكتبة الوطنية التي تقدم خدماتها للباحثين في كافة المجالات، بينما تم تخصيص دار الكتب بباب الخلق للتراث والمخطوطات والبرديات والمسكوكات وأوائل المطبوعات، وفي التطوير الأخير أدخل العديد من ملامح التحديث، لاسيما في العرض المتحفي، استفادة من أحدث النظم العالمية، وقد تم إضافة العديد من المميزات التفاعلية ليشعر الزائر بمدي القيمة التي أضافتها حضارتنا العربية والإسلامية للتراث الإنساني. تحية للدكتورة عايدة عبد الغني المشرف العام علي دار الكتب بباب الخلق، وهي من النماذج المتسلحة بالعلم والمعرفة وحسن الإدارة، فبفضل حماسها الكبير مع زملائها في الدار، نجحوا بالدعم الذي وفره سمو الشيخ د. سلطان القاسمي، وكذلك الحكومة المصرية في أن تعيد جزءا هاما من تاريخ هذا الوطن، بشكل يناسب مكانته وقيمته، والشكر موصول لعدد من المسئولين السابقين الذين دفعوا العمل خطوات في هذه الدار: د. أحمد الشوكي رئيس مجلس الإدارة السابق، د. عبد الواحد النبوي وزير الثقافة الأسبق، الكاتب الصحفي حلمي النمنم وزير الثقافة، الذي أشهد أنه كثيرا ما ذهب في زيارات ميدانية للدار لدفعها للأمام، وأتمني أن تقام احتفالية عالمية بهذه العودة، وهو أمر ليس ببعيد عن د. إيناس عبد الدايم وزير الثقافة الحالي.