قدمت الكاتبة اعتدال عثمان الديوان الأول للشاعرة أماني أنور حزين »غراب يتحدث العبرية» بطريقة شيقة تساعد علي التفاعل مع لغته المتمردة الصادمة، حيث وصفتها بطاقة شعرية متفجرة بالتمرد، تعمد لاقتحام أسوار الواقع المغلقة علي المسكوت عنه، في محاولة لتنفس هواء جديد منعش، يكشف عوار الواقع المفروض علينا. ولا أخفيكم أنني عندما قرأت عنوان الديوان، الذي هو عنوان القصيدة الأولي، أدركت أن الشاعرة تسبق سنها الصغيرة بمعان كبيرة، يحاول البعض أن يتجاوزها متسلحا بروح اليأس والقنوط، وبقدر ما أسعدتني هذه القصيدة بقدر ما حاصرتني الكثير من معانيها، وأتصور وقعها المؤلم علي من يتحدثون العبرية، لأنهم فوجئوا بعهد التميمي تقف ثائرة في وجههم، والشابة المصرية أماني حزين تقف أيضا ثائرة في وجههم تخبرهم بحقيقتهم دون تجميل، رغم أنها في مقتبل عمرها ولم تعش تلك الحقبة التي فجرت طاقات الغاضبين، لكنها تعلن أن قضيتنا عادلة، وتدرك كنهها وتعرف تركيبة عدوها حيث تقول : وأشار إلي من بعيد- بأصابع تسبح في دم المسيح- تعلق رؤوس الأطفال- في أشجار الميلاد- تسحب الدفء من أوراقي- تكرهني بحجم حرائق النازية. أماني أدركت تماما لب القضية والظلم المستمر وردود أفعالنا المستفزة والتي لا تليق بمن يتحدث العربية و يريد أن يبقي علي قيد الحياة الكريمة ! وقد دفعتني أماني بقصائدها المتمردة للتساؤل: يا صغيرة السن من أين لك بكل هذه المفردات والمعاني؟ ففي قصيدة" صفحة الوفيات" تتساءل: لماذا تُعذب بذنب لم تقترفه يداها وهي لم تبلغ من من العمر إلا العقد الثاني؟! بل وتصدمنا بأن ملامحها سقطت من وجهها فأصبحت بوجه ولسان عجوز! وفي قصيدة »أرملة العنكبوت» تُصرح بأن أرملة العنكبوت تكتب علي جسدها طقوسا وثنية، بل وتتجرأ وتضع علي رأسها طائر الموت ليحيك لها من لحمها النيء أساورها فيزداد جنونها وتتكاثر مخاوفها، وتُصرّح باغتيال براءتها وما من أحد يسمع توسلاتها، بل وتزيد بأن ألف فخ ينصب لأحلامها. أين؟ في أمعاء قبر جائع متلهف لاحتسائها! وفي قصيدة »حزمة من الفل» تكرّس معاناة البشر الذين لا يسمع بهم أحد، فقط لأنهم لا يريدون، فتقول عنهم ،لعاب الشارع – يلهث علي ردائها – يدهس بحذائه ظلها – أقدامها – عشش النمل بها – واستباحها الليل – تبلع ريقها كفأر – جائع وعندما يسألها أحد من المارة من أبوك .. تجيب بصوت ثابت.. أبي الشارع. وتتواصل صرخاتها في وجه الخوف بقصائدها:»ساحرة تتلذذ بالحريق»، »مائدة الخوف»، »أحدب نوتردام»، و»وجه الخرس»، وتتعدد الصرخات طلبا للنجاة والحياة في قصائد: »الكابوس»، »أطفال يطبخون النعاس»، و»الخوف المبين». وفي قصيدة »مئذنة حرمت البوح» تتدفق المعاني لتعلن أنه لا يوجد ما يمنع أن تتحقق( شجاعة الإبداع )، حيث يقرر روللو ماي أن منابع الإنتاج الإبداعي تتدفق من التوتر بين التلقائية والحدود .. فيقول في كتابه» شجاعة الإبداع» إن الحدود ضرورية ضرورة الضفاف للنهر. وقد حددت الشاعرة كل الحدود، وصنعت شاطئين وضعت بينهما كل ما تعانيه النفس المعاصرة من آلام ومعاناة، بل حاصرت كل ما تعتبره قبيحا. لم تصمت أماني ولم تستسلم. يقولون إن الصمت يترجم لغة الأوجاع، لكن البوح يفضحها، وقد أبت أماني إلا أن تترك لرأسها كل أصناف الصداع، وجعلتنا نشاركها إياه! حتي نصرخ جميعا فيتراجع القبيح للوراء أكثر فأكثر! لكنها تركت لنفسها الأمل في الحب، وأعلنت أن هناك بصيصا من الضوء في قصيدتها »ماء الحب»، حيث تقول: »جالسه أنا بين ذراعيك- أشدو نبوءتي- وأحرر»بقبلاتك عذاباتي- يتوضأ بماء الحب". هربت أماني من سيطرة القسوة بهذه القصيدة الأمل، وكان حتما عليها أن تكتب ففي عدم الكتابة استسلام العقل للهزيمة، وأعلنت أننا معها نستحق الحياة وأكثر. ففي الكلمة المكتوبة خلود، وهي أهدت ما كتبته لمن تحب، فصار لزاما عليهم أن يحبوها لأنها قالت الحقيقة المؤلمة دون تزييف.