"النواب" يوافق على طلب المجلس القومي لحقوق الإنسان بالحصول على منحة بالصحة الإنجابية    «النواب» يوافق على طلب «القومي لحقوق الإنسان» بشأن منحة الصحة الإنجابية    منسق الأمم المتحدة في القاهرة: مصر من أكثر الدول تأثرا بالأحداث الإقليمية    تباين مؤشرات البورصة في ختام تعاملات الإثنين    وزير خارجية اليونان: وساطة مصر مهمة للغاية.. ويجب الوصول لحل الدولتين    إسبانيا تستدعي السفير الأرجنتيني في مدريد    إحصائية .. الأهلي لا يعرف الخسارة من الترجي في مصر    رسميا.. غياب إيدرسون عن كوبا أمريكا    إجراءات عاجلة من السكة الحديد بشأن حركة القطارات مع ارتفاع الحرارة    استفسارات المواطنين حول مواعيد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    بعد تحسن حالتهم.. خروج 8 مصابين في حادث «الأتوبيس الطائش» بدائري بهتيم    تأجيل محاكمة المتهم بالشروع فى قتل زوجته ونجله بالتجمع ل 18 أغسطس    كواليس جلسة معارضة المتسبب فى وفاة الفنان أشرف عبد الغفور    ضبط 4 متهمين بتجميع خام الذهب الناتج عن تنقيب غير مشروع بأسوان    حسن الرداد يحيي ذكرى الفنان الراحل سمير غانم.. «اللهم ارحمه واغفر له»    حصريًا على dmc.. موعد عرض مسلسل "الوصفة السحرية"    مهرجان المسرح المصري ينظم 5 ورش فنية ضمن فعاليات دورته ال17    «النواب» يحيل مشروع قانون جديد للتأمين الصحي الشامل إلى لجنة مختصة    تغلب على حرارة الجو الشديدة بالبطيخ والكنتالوب.. واحذر اللحوم المصنعة والمخللات    تظاهرة للمركبات في شارع أيلون بتل أبيب تطالب بصفقة تبادل الأسرى فورًا    تشافي ولابورتا.. تأجيل الاجتماع الحاسم في برشلونة    سلمى أبو ضيف تنشر جلسة تصوير لها بفرنسا.. ومنى زكي تعلق (صور)    «السرب» الأول في قائمة إيرادات الأفلام.. حقق 622 ألف جنيه خلال 24 ساعة    وكر عمليات الإجهاض.. تأجيل محاكمة طبيب نساء وتوليد وآخرين بالجيزة    إطلاق أول استراتيجية عربية موحدة للأمن السيبراني الشهر المقبل    5 نصائح هامة للأمهات الحوامل للتغلب على حرارة الطقس    7 تعديلات مرتقبة في قانون مزاولة مهنة الصيدلة.. أبرزها رسوم الترخيص والورثة    شيخ الأزهر يستقبل سفير بوروندي بالقاهرة لبحث سبل تعزيز الدعم العلمي والدعوي لأبناء بوروندي    نائب رئيس نادى السيارات: مسيرات للدراجات النارية ومسابقات سيارات بالعلمين أغسطس 2024    طلب إحاطة بشأن تكرار أزمة نقل الطلاب بين المدارس    بروتوكول تعاون بين التأمين الصحي الشامل وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية لتطوير البحث العلمي فى اقتصادات الصحة    رئيس النواب: التزام المرافق العامة بشأن المنشآت الصحية لا يحتاج مشروع قانون    تفاصيل أغنية نادرة عرضت بعد رحيل سمير غانم    إكسترا نيوز تعرض تقريرا عن محمد مخبر المكلف بمهام الرئيس الإيرانى.. فيديو    فتح باب التقدم لبرنامج "لوريال - اليونسكو "من أجل المرأة فى العلم"    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    ضبط المتهمين بسرقة خزينة من مخزن في أبو النمرس    محافظ أسيوط: التدريب العملي يُصقل مهارات الطلاب ويؤهلهم لسوق العمل    تطوير المزلقانات على طول شبكة السكك الحديدية.. فيديو    براتب خيالي.. جاتوزو يوافق على تدريب التعاون السعودي    توجيه هام من الخارجية بعد الاعتداء على الطلاب المصريين في قيرغيزستان    مجلس النواب يستكمل مناقشة قانون إدارة المنشآت الصحية    22 مايو.. المؤتمر السنوي الثالث لطلاب الدراسات العليا فى مجال العلوم التطبيقية ببنها    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    رئيس جامعة بنها يشهد ختام فعاليات مسابقة "الحلول الابتكارية"    وزير الري أمام المنتدى المياه بإندونيسيا: مصر تواجه عجزًا مائيًّا يبلغ 55% من احتياجاتها    مرعي: الزمالك لا يحصل على حقه إعلاميا.. والمثلوثي من أفضل المحترفين    معرض لتوزيع الملابس الجديدة مجانًا بقرى يوسف الصديق بالفيوم    بعد وصولها لمروحية الرئيس الإيراني.. ما هي مواصفات المسيرة التركية أقينجي؟    عواد: لا يوجد اتفاق حتى الآن على تمديد تعاقدي.. وألعب منذ يناير تحت ضغط كبير    الأسد: عملنا مع الرئيس الإيراني الراحل لتبقى العلاقات السورية والإيرانية مزدهرة    ماذا نعرف عن وزير خارجية إيران بعد مصرعه على طائرة رئيسي؟    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 20-5-2024    روقا: وصولنا لنهائي أي بطولة يعني ضرورة.. وسأعود للمشاركة قريبا    دعاء الرياح مستحب ومستجاب.. «اللهم إني أسألك خيرها»    وسائل إعلام رسمية: مروحية تقل الرئيس الإيراني تهبط إضطراريا عقب تعرضها لحادث غربي البلاد    معين الشعباني: تسديداتنا أمام الزمالك لم تكن خطيرة.. ولاعب الأبيض قدم مباراة رائعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجملة العربية في ضوء الدراسات اللسانية:الفن لا يمكن أن تحكمه الثنائيات!
نشر في أخبار السيارات يوم 24 - 11 - 2018

في كتاب »الجملة العربية في ضوء الدراسات اللسانية»‬ الصادر عام 2017 م يقدم د. ظافر كاظم خطوة جديدة ورصينة في اتجاه علمية الدراسات اللّغوية، وذلك بقدر قابلية الدراسات الإنسانية للمناهج العلمية. حيث اللّسانيات أو الألسنية هي »‬الدراسة العلمية للغة» في أبسط مفاهيمها.
في هذا المؤلف تتميز عدد من المحاور البحثية الهامة والحديثة التي تدفع بقراءات تأويلية في ذهن الباحثين حول الأنواع الأدبية حيث اللّغة مادتها الخام، وحول بعض النصوص التاريخية. كما يظهر تمكن المؤلف من آليات الكتابة، حيث تتجلي قدرة أستاذ الدراسات اللّغوية وتاريخها وفلسفتها في صياغة مادة الكتاب العلمية بأيسر لغة وأكثرها سلاسة ووضوح ، فتنساب جمله وفقراته ناصعة الصياغة، واضحة ودقيقة رغم حمولتها الفلسفية المستقصية المتبحرة، وعرضها لأحدث نظريات اللغة، وهو ما يشير لتمكنه التام من التتابع التاريخي لتطور الدراسات اللّغوية، والإلمام بكل الدراسات والنظريات والمناهج التي توالت علي دراسة اللغة، وماذا أضاف كل منهج لسابقه، وكيف عدل فيه وتلافي قصوره، والاستيعاب الفكري لكل رؤية فلسفية أصّلت لنظرية لغوية، وخاصة فيما يتعلق بالجملة في اللّغة التي هي محور بحثه.
قدم الكاتب مؤلفه في تمهيد وأربعة فصول كل فصل مقسم علي مبحثين، واستهل الفصول الأربعة بمقدمة وانتهي بخاتمة.
في التمهيد يقدم المؤلف العلاقة بين اللّسانيات واللغة العربية وأثر اللّسانيات في دراسة اللغة العربية والجملة العربية.
الفصل الأول بعنوان »‬الجملة العربية في ضوء الدراسات البنيوية وعلم العلامات» ويقسم علي مبحثين :
1. تاريخ نشأة البنيوية ومدارسها 2. نشأة علم العلامات وطبيعة العلاقة بينه وبين اللغة والتصور الذي يقيمه هذا العلم للجملة.
الفصل الثاني بعنوان الجملة العربية في ضوء النحو التوليدي التحويلي وينقسم علي مبحثين أيضا :
1. أسس النحو التوليدي عند تشومسكي رائده 2. الجملة العربية ومسائلها المختلفة من وجهة نظر هذا النحو.
الفصل الثالث المعنون بالجملة العربية في ضوء النحو الوظيفي وعلم لغة النص وهو في مبحثين أيضاً :
1. نشأة النحو الوظيفي ومدارسه، 2. الجملة العربية وعلم لغة النص.
الفصل الرابع الذي عنونه بالجملة العربية في ضوء علم الدلالة والحقل التداولي ينقسم علي :
1. النظريات الدلالية التي كان لها صلة بالجملة 2. الجملة العربية في ضوء الحقل التداولي.
ويتناول الكاتب دراسة الجملة العربية مستفيداً من نظريات اللّسانيات الغربية »‬المبادئ والأفكار» التي تتعلق باللّغة في إطارها العام والجملة علي نحو خاص، وتستوعب هذه الدراسة تطور الدراسات اللّغوية واللّسانية بصفة تنشد الدقة والشمول، وهي دراسة رائدة خاصة بعد اتساع آفاق البحث اللّساني وتعدد موضوعاته وانفتاح العلوم بعضها علي الآخر.
وللكاتب الأكاديمي ولع بعرض النظريات اللّغوية منذ نشأتها؛ لإتاحة الصورة كاملة للقارئ أو دارس اللغة، وعرض تاريخ تطور كل نظرية والإضافات التي أسهم بها كل عالم لتطوير النظرية نفسها؛ لإعطاء كل تيار بحثي حقه الكامل فيما أضافه علماؤه في تخصصات متكاملة مراكمين للفروض والأبحاث واختبارها ، وبيان الأصل الفلسفي والرؤية التي تنطلق منها كل نظرية، علي نحوٍ مما نجده في عرضه للتداولية – علي سبيل المثال - ودور الفلاسفة في نشأتها ثم ما استكمله علماء الاجتماع والانثروبولوجيا وعلماء اللغة وعلم النفس، إذ يتتبع الكاتب تطورها وإسهام كل تخصص في استيفاء النظرية ونضجها ص 480.
وللكاتب منهج محكم في دراسته للجملة لدي الغرب والعرب:
حيث وضع منهجاً منضبطاً لتقديم هذا المؤلف، وقام بأدوار متعددة ومتكاملة تدلل علي تمكنه من مادته العلمية وطريقة توظيفها لخدمة اللغة العربية ودراستها.
يلاحظ القارئ أولاً: قدرته علي الاستقصاء والإلمام بكل الدراسات اللّغوية الغربية القديمة والحديثة وخاصة فيما يتعلق بالجملة ودلالتها كما في الحديث عن نظريات المرجعية والإشارة أو نظريات السياق والتداولية والفضاء الذهني. ثانياً: يقوم بدور المدقق الفاحص للترجمات وكيف فهمها الباحثون اللّغويون العرب، وعلي أي نحو ترجموها ووظفوها واستخدموا مدلولاتها، وهل تم التعامل بدقة في ترجمتها و توظيفها ؟ ص 25. ثالثاً: يقوم بدور الشارح المحلّل للمادة العلمية، عارضاً بنود نظريات علوم اللغة الغربية وعناصرها التي نهضت بدراسة اللغة. رابعاً: يقوم بدور المطبق لآليات تلك النظريات علي الجمل العربية. خامساً: التتبع التاريخي لكل ما ورد في دراسات الباحثين العرب وهم يوظفون مقولات النظريات اللّغوية الغربية، وتحققه من المصطلحات ومحاولته الجادة في تنقيتها، مدققاً في صحة تجارب ترجماتها السابقة من قبل الباحثين العرب الذين سبق لهم استخدامها.
وللكاتب شخصيته النقدية التي لا تلاحق مقولات النظريات الغربية وتنبهر بها، بل تتوالي تعليقاته وتفسيراته علي بنود النظريات الغربية حينما يشعر أنّ هناك تزيد في التقسيمات، أو أنّ هناك استعراضات بيانية تلغز النظرية، وتستغرق في تفسير بعض شروحاتها، ولذا ندرك مدي وعي الباحث بالجوهري في النظرية الغربية، وإضافتها الحقيقية ، والأسلوب الأمثل الذي يجب أن تنقل به للمتلقي والباحث العربي، مخلصاً لها من تزايداتها التي قد تتسبب في استغلاقها علي المتلقي، مثل قوله معلقاً علي تقسيم k. Ammer لسياقات الحال :» وقد عدً هذا التقسيم تعسفاً ظاهراً وتفتيتاً متكلفاً لا حاجة للدرس اللغوي إليه ، لأنّ السياق نوعان لا ينفصلان ، سياق لغوي وسياق الحال. .» 418
كما يعرض الباحث النظريات اللّغوية مورداً كلّ ما دار حولها من نقاط استحسان أو استهجان، كما يناقش قيمة تلك الآراء وهل تؤثر علي جوهر النظرية اللّغوية أم هي محض استعراضات في البحث اللّغوي ص 424.
يقرن الباحث كل ما يعرض من نظريات وتفاصيلها الدقيقة أو محاورها البحثية بأمثلة من الجمل بلغتها الأم الأجنبية، أو مترجمة إلي اللغة العربية التي يتحري وضوحها التام، كما يتحري أن تكون في متناول دارسي اللّغة في المراحل الأولي.
في كل نظرية غربية يعرضها الكاتب يتحري ترتيباً منضبطاً تخيره لدراساته وهو أن يبدأ بعرض النظرية الغربية مثل استعراضه لنظرية السياق ص 414 ، ثم يثني بدراسة السياق عند الباحثين العرب وكيف أشاروا له في دلالة الجملة العربية قديماً ثم حديثاً، فيستعرض ما قاله سيبويه عن سياق الحال وعدم ورود أية إشارة عن اعتراض أو رفض لمراعاة السياق في التحليل اللّغوي، ويستعرض أيضاً آراء ابن جني وعبد القاهر الجرجاني، ويذكر أنّ الباحثين المحدثين لم تشتهر لديهم نظرية السياق انطلاقاً من التراث العربي بل اشتهرت في الأوساط الحديثة بمفهومها الغربي وانطلقت من الغرب. ومن هذا المنطلق يعودون إلي التراث ليحاول البعض إثبات معرفة علماء اللغة العرب وإلمامهم بتلك النظرات وهو ما يجد فيه تعسفاً، ومطالبة للقدماء بما كانوا لا يستطيعون التبحر فيه لظروف عصرهم والمستوي المعرفي المتاح وقتها.
ودائماً ما يتحدث الكاتب عن المنجز العربي في ضوء مرحلتين: التراث اللّغوي وجهد الباحثين العرب القدماء، ثم ينتقل للاستدلال بجهد الباحثين العرب المعاصرين المحدثين وبالطبع يرصد لتأثر المتأخرين بالنظريات الألسنية لدي الغرب، فيتحدث عن اسهامات تمام حسان ، حماسة عبد اللّطيف ، محمد محمد يونس ، وغيرهم. ويشير الباحث دائماً إلي أنّه ليس غريباً أن تنهض الدراسات اللّغوية الغربية علي اختلاف نظرياتها ومدارسها إلي مستوي المنهجية المرموقة بعد أن دارت عجلة الزمن علي نحو متسارع وشهد العالم تطوراً ملحوظاً علي جميع المستويات وفتحت العلوم الناشئة نوافذ جديدة يطل منها الباحثون ويستفيدون منها، وهو ما أضاف المقومات المنهجية للدراسات وساعد في السعي إلي إقامة الدرس اللغوي علي أسس علمية موضوعية.
ويشير المؤلف أيضاً لهذا القطع الزمني الواسع بين البحث في بعض العلوم في العصور القديمة والبحث المعاصر لدي العرب، وهو ما يرسخ للحسرة في نفسي ونفس كل عربي ، ففي دراسات ومقالات منوعة سابقة افترضت جدلاً لو أنّ هذا القطع الزمني لم يكن قد حدث في الحضارة العربية، ولو أننّا استكملنا أسباب نهضتنا وطورناها ونوعنا العلوم وفرعناها ودفعنا التخصص، وسارت مسيرة الحضارة كما حدث بالغرب تري علي أية حال كنّا سنصبح اليوم؟ من المؤكد أنّنا كنّا سننتصر علي كثير من كبواتنا تلك، ولما كانت أصيبت حركة تطور العلوم في بلداننا بالشلل التام.
يذكر المؤلف أيضاً ما تأخذه كل نظرية لغوية حديثة علي ما سبقها من نظريات وتنتقده، والنقاط التي لم تستوضحها أو تعالجها تلك النظريات مثل ما يورده من انتقادات التداولية للمنهج اللّساني البنيوي التقليدي، الذي اقتصر علي الجانب الشكلي من اللّغة وعدم التفاته للجانب الاجتماعي وعملية التخاطب ومثالية تجاهل اللّبس، وإهمال الأصول التخاطبية المفسرة لمقاصد المتكلمين ص482.
حول الجملة في ضوء نظرية الفضاء الذهني وتأويل نقدي:
لحداثة نظرية الفضاء الذهني ل (فكونر) التي لم يتناولها مؤلف عربي من قبل وأهميتها سأحاول في هذه القراءة لكتاب »‬الجملة العربية في ضوء الدراسات اللّسانية» التوسع في عرضها ومشاركة القارئ بعض القضايا التي أثارتها لديّ عند قراءتها. تتلخص تلك النظرية في أنّ الفضاء الذهني محله العقل الإنساني، وأنّ المدركات التي يرسم العقل ملامحها لموضوع ما عندما نتعرض لخبرة أو نستمع لكلام أو حوار أو نقرأ عن موضوع في كل قضايا الوجود وتفاصيله، يُكوِّن العقل من خلالها صورة عن تلك الموضوعات، لكن تظل هذه الصورة مؤقتة، أما البني التي شكلتها بالعقل فهي بنًي راسخة. هذه البني تتمثل في خبرات الفرد الحياتية وتجاربه، معارفه ومعلوماته القديمة والحالية، نوع دراسته وهواياته، علاقاته وطبقته، انفتاحه علي ثقافات متعددة أو محددة. .
ويشرح المؤلف نظريّة الفضاء الذهني فيقول عنها: »‬تفترض أنّ الإنسان يملك مستوي تنظيمياً يرتب بواسطته العالم الخارجي، ومن خصائص هذا المستوي التنظيمي أنّه ذهني، ويرتبط بصورة سببية بعملية الإدراك وبحالات الجهاز العصبي وهذا المستوي الذي يتم تشغيله وتوظيفه من لدن الكائن البشري في كل حين يشكل مجالاً للمعلومات الموجودة في الذهن. وبعض هذه المعلومات الذهنية نجدها مرمزة في اللغة »‬ ص460. ويترتب علي هذا قولهم: »‬أنّه من الخطأ إذن دراسة معني الجملة وكأنّها كيان مستقل، وبعبارة أخري ليس للجملة معنًي خاص بها، إنّها تغير واقع الحال من صيغة إلي أخري». ثم يعلق قائلاً:»هذه النظرة التي يقدمها فكونر نظرة جديدة تختلف عن النظرة القديمة »‬ التي ما فتأت تقدم الأدلة علي أنّ الدلالة في اللّغة ماهي إلاّ إحالة خاصة تحترم مبادئ عامة تتحكم في السلوك البشري غير اللّغوي.
وحين يتحدث المؤلف عن علاقة الجملة بالمعني عبر الذهن عند فكونر يشير إلي البحوث اللغوية التي أجراها تشومسكي أيضاً، يقول الباحث : »‬وبهذا تعيد نظرية : الفضاء الذهني النظر إلي أهمية الأسس النفسية للغة وعلاقتها المباشرة بالإجابة عن السؤال ماهو المعني؟ وتعطي وجاهة مرة أخري للقضايا التي بحثها تشومسكي» ص406.
هذا الربط والإشارة إلي العلاقات المختلفة بين جهود علماء اللّغة ميزت هذا المؤلف حيث الإحاطة بكيفية التراتب وتوضيح البناء المعرفي وطرق تكامله في الدراسات الغربية.
ولقد نجحت البحوث اللّغوية الخاصة بالجملة في هذا العرض في استدعاء النقد الأدبي علي طاولة الحوار لدي فوجدتني استنطق نتائجه لأبحث عمّا يمكن أن يضيفه من جديد للنقد انطلاقاً من تكامل العلوم الإنسانية، و» اللّغة »‬ التي تجمع بين هذه العلوم الإنسانية والآداب، ولقد وجدت أنّ ما يطرح في الكتاب من قضايا تخص فقه اللّغة وخاصة فقه الجملة يدعو الناقد لمعاودة التفكير في أدبية الأدب، ما الخصوصية التي تحول اللّغة أدباً؟ ماهي طبيعة الفضاء الذهني التي تجعل من اللغة أدباً ؟ كيف يتلقي هذا الفضاء الذهني للمبدع العالم من حوله، وكيف يعيد إنتاجه، ويعبر عنه بطريقة متجاوزه ؟ وما هو الفارق بين فضاء المبدع والإنسان العادي؟ فعندما يعرض المؤلف نظرية (فكونر) في تخلق المعني عبر الفضاءات الذهنية المركبة لدي الإنسان، وكيف تختلف تلك الفضاءات من إنسان إلي آخر بحسب المعطيات الثقافية لكل فرد، و يقدم التفاصيل الدقيقة في تشكل المعني والمبني التي تجعل من تراكيب اللغة وهندستها علي نحو خاص أدباً، نتساءل ما هي خصائص تلك الفضاءات الذهنية التي باختلافها من فرد لآخر تحول اللّغة أدبا؟ كما تفسر تلك النظرية أيضا طريقة تلقي القارئ للأدب والاختلاف الظاهر في كل قراءة وتأويل للأدب، وكيف أنّ كل فضاء ذهني يمكنه أن يقيم عالمه الخاص نظراً لسياقه ومؤثراته الخاصة بكل إنسان، حيث نادراً ما تتحد لكنّها قد تتشابه فقط.
وفي ضوء هذه الدراسات اللغوية الحديثة التي يعرضها الكاتب في هذا المؤلف وما وصلت إليه آخر النظريات الغربية من أن الجملة لا ترتبط بالمعني بشكل مباشر، وأن هناك موقفاً في الذهن، ودور الجملة أن تغير هذا الموقف الذي في الذهن من حالة إلي أخري، وبهذا لا يرتبط المعني بالجملة بشكل مباشر وإنّما يكون ارتباطه المباشر بالذهن، من هذه النتيجة تستيقظ العديد من الدلالات ، أحسب أن أولها: استحالة أن يظل لأي نص معني واحداً ثابتاً سواء كان ظاهرياً أم باطنياً بل يتغير المعني بتغير الأذهان التي تتلقاه ويعبر فضاءاتها، وبتغير أزمنة هذه الأذهان. وهنا تتصدع كثير من مقولات التفسير وصموده لدي أهل الظاهر أو أهل الباطن في التصدي للنّصوص، وقضايا كلامية أخري بحثت قديماً في الفلسفة وتضمن بعضها مباحث علم الكلام في التراث العربي من قبيل خلق بعض النصوص وقدمها، وغيرها من مشكلات.
بناء علي ما سبق يجب امتثال أي نص لتاريخية الظواهر وتطورها. فيصبح التأويل إذن ملاذاً يجب أن تقره الدراسات اللاهوتية الحديثة بناء علي نتائج بحوث الدراسات اللغوية، فالجملة بحسب فكونر في نظرية الفضاء الذهني لا يمكن أن تكون مؤهلة لحمل المعني لكن لتوجيهه، وتهيأة سيناريو مناسب أو مسار تسمح به خلفيتنا المعلوماتية. ومن هذا المنطلق يشير الكاتب إلي قضية الصدق والإحالة فيقول:» إنّ الانطلاق من نظرية مبنية علي أسس تصورية لا تعتقد بالتأثير المباشر للعالم في اللغة تطرح تساؤلاً أيضاً حول مفهومين دلاليين عني بهما علم الدلالة ومباحثه منذ نشأته وهما: الصدق و الإحالة بوصفهما محددين صالحين كي يكونا نقطة انطلاق لنظرية المعني ، فما تحيل عليه اللغة بناء علي هذا الأساس هو عالم مسقط ذهني وليس العالم الخارجي ص461. فليس هناك صدق ولا كذب بمعني متماسك، إنما هي حقائق وظواهر بعدد الأذهان التي تتداوله.
ويعضد المؤلف رأيه السابق فيقول: »‬إنه من هذا المنطلق أصبح هناك وجاهة لما ذهب إليه عالم اللغة (فريجة) وهي أن كيفية الإحالة علي المرجع هي التي تعطينا المعني» 461
وتتوافق هذه النظرية الحديثة مع مفهوم العوالم الممكنة في الفلسفة، وتوضح الفرق الرئيس بين الفضاء والعالم الممكن، حيث الفضاء لا يتضمن تمثيلاً أميناً للحقيقة بل نموذجاً إدراكياً مثالياً ص 447.
فهناك عالمان إذن كما يشرح الكاتب: العالم الخارجي والعالم المدرك في الذهن، اللغة أو الجملة تعبر عن هذا العالم المدرك وهي ما تنتج الواقع الذي تراه بحسب إدراكها له، وهذا ما يدعونا لتصور كيف تتم أولا صياغة اللّغة، ثم كيف يتم الإبداع الأدبي الذي وسيلته اللغة، وأحسب أن العملية تتم علي مستويين: أولاً مستوي رؤية الواقع وهو ما يشترك فيه المبدع الفنان مع كل الشخوص، فالجميع يري الواقع كما يدركه في فضائه الذهني، وربما يختلف الفنان في نوعية هذا الإدراك وما يتضمنه من منحي متخيل مجازي رمزي يضخم فيه بعض الوقائع والأحداث، ويري الشخوص علي نحو خاص يعيد بنائها أو يقلص من حجمها أو يضعها في تشكيلات ويربطها بعلاقات متباعدة ومختلفة، لكنها هكذا تتشكل في إدراكه ورؤيته ويبررها منطقه الخاص، وهو المنطق الفني الذي تحدث عنه باحثو الفنون والآداب.
أما ثاني المستويات التي أود الإشارة إليها بعد قراءة هذه النظرية التي عرض لها الكاتب الدكتور: ظافر كاظم هي أنّ الفنان يدرك العالم ثم يعبر عنه ليس باللغة فقط، لكن ضمن بنية فنية مغموسة بتقنياتها وطريقة تشكيلها وهو ما تشرحه أيضاً التداولية وتتوسع في إيضاحه، أي إن الإبداع الأدبي يتغلغل في اللّغة وطريقة بنيتها وهندستها، وكما ذكرت سابقاً في العديد من الدراسات أنّ الكيفية، آليات الفن، التقنيات الشكلية، طريقة هندسة العمل الفني وبناؤه هي التي تحمل مضمون العمل وأفكاره، وهو ما يؤكد أنّ الفن لا يمكن أن تحكمه ثنائيات مثل الجوهر أو المضمون والشكل بل هو كيان يأخذ ويعطي في جدلية تتفاعل إحداها في الأخري. حيث بنية اللغة هي في حقيقتها بنية الفكر.
هنا يجب أن أشير لأهمية هذه الدراسات التي تبحث في فلسفة اللغة وفقهها لإفادتها بعوالم تخلق اللغة والإبداع الأدبي، ومساهمتها في باب الدراسات النقدية والنفسية وعلم نفس الإبداع وغيرها من علوم تتكامل فيما بينها وتسهم في إضاءات علمية توفر علمية البحث في العلوم الإنسانية التي ظلت طويلاً اجتهادات لا تنحو للتجريب أو الاختبار العلمي الموضوعي. وبجانب عدّ هذا النوع من الأبحاث تأصيلاً نظرياً للعربية وأبحاثها، تبقي ميزة هذه الدراسات العربية المتقصية لأحدث الدراسات الغربية والمطبقة لهذه الدراسات علي اللغة العربية وفروع دراساتها المتعددة، أنّها تفتح المجال لدراسات أخري في الأدب والنقد والنظرية الأدبية وهو ما حققته هذه الدراسة الرصينة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.