هناك قواعد إنسانية أشبه بالمبادئ فوق الدستورية يتمني الحاكم قبل المحكومين ألا يحيد عنها، لذلك كان الحبيب المصطفي - عليه الصلاة والسلام - يداعب عبد الله بن أم مكتوم - رضي الله عنه - كلما رآه بقوله : » أهلا بمن عاتبني فيه ربي ». وأهم المبادئ الإنسانية فوق الدستورية هو ألا يكون معيار المفاضلة بين الأفراد حسب سلطتهم وجاههم وغناهم، بل حسب فكرهم ورجاحة عقلهم، فحينما اقترب عبد الله بن أم مكتوم من الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولمس فيه الرسول العبقرية الثائرة والفكر المتوقد استخلفه أميرا علي المدينةالمنورة لحين عودته من إحدي الغزوات؛ لإدراك الرسول مبكرا أن الإدارة فكر وعبقرية حتي لو كان قائد وأمير المدينةالمنورة من ذوي الاحتياجات الخاصة. والدول التي لا تحترم هذا المبدأ الإنساني لا مستقبل لها، ومصيرها إلي زوال، كما نبه المغيرة بن شعبة - رضوان الله عليه - رستم قائد الفرس إلي هذه الحقيقة؛ فقد أرسله الرسول - عليه الصلاة والسلام - إلي رستم بدرجة ما يعرف في العرف الدبلوماسي المعاصر وزير مفوض، وحدد أعوان رستم له موعدا، فلما دخل المغيرة جلس بجوار رستم، واندهشت الحاشية من جرأة هذا الإعرابي البسيط ذي الملبس المتواضع، فاجتذبوه بشدة وعنف، فوقف ثابت الجنان واثقا من نفسه قائلا : » لقد كانت تبلغنا عنكم العقول والأحلام، ولكني لا أري أسفه منكم، إنا معشر المسلمين لا يستعبد بعضنا بعضا، ظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسي ونتساوي، فكان أعظم من الذي صنعتموه معي أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، إن هذا الأمر لا يستقيم فيكم، ولا يصنعه أحد، وإني لم آتكم، ولكن دعوتموني، اليوم علمت أنكم مغلوبون، فإن الملك لا يقوم علي هذه السيرة، ولا علي هذه العقول». بعد هذه الواقعة بشر الله سبحانه وتعالي أهل الكتاب من الروم بانتصارهم علي المتغطرسين بقوتهم من الفرس المجوس بقوله عز وجل: »غلبت الروم، في أدني الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون، بنصر الله، ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم». هل تبشرنا الأيام القادمة بنهاية غطرسة القوة الإسرائيلية كما انتهت غطرسة القوة الفارسية من قبل ؟ الآلة ليست دوما سببا للنصر، فالانتصارات والمعجزات لا تحدث إلا بالإصرار والتحدي الإنساني الذي يتميز به العرب والمسلمون وقت الأزمات عبر كل العصور. أما الغطرسة فمآلها إلي زوال، وهذه سنة الله في الخلق.