أزمة الصحافة الورقية ليست »مصرية» فقط، فالعالم كله يصرخ، وكبريات الصحف في أوربا وأمريكا تحتضر.. وكثير من الزعماء في العالم يحذرون من وقوع الصروح الإعلامية تحت سيطرة من يدفع من رجال الأعمال أو تجار السلاح والمخدرات.. وتبدلت آراء من كانوا يطالبون بإبعاد الصحف عن سيطرة الحكومات، إلي الاستعانة بالحكومات، لإنقاذها من الموت البطيء، فهي وحدها القادرة علي تمويل الإصدارات المتعثرة. بريطانيا »أم الديمقراطيات» أغلقت فيها 200 صحيفة في السنوات العشر الأخيرة، وقررت رئيسة الوزراء »تيريزا ماي» تعيين فريق من الخبراء، وكلفتهم بمهمة إنقاذ الصحف البريطانية، وبحث سبل التدخل الحكومي للمحافظة علي تماسكها، لأن ما يحدث »يهدد الديمقراطية» علي حد قولها، ويعصف بقوة بريطانيا الكبري، ومن المقرر أن تنتهي اللجنة من عملها أوائل العام القادم. العناوين المنشورة مثيرة: الصحافة الورقية تندثر في أمريكا، إغلاق العديد من الصحف، وترامب يتوقع اختفاء أكبر صحيفتين »نيويورك تايمز» و»واشنطن بوست» خلال سبعة أعوام.. الإنترنت يربح أشهر الصحف الفرنسية.. انهيار الصحف في أوروبا، توقف طبعات وعزل رؤساء تحرير وتعاظم الخسائر المالية، ولا يرتبط الأمر بمساحات الديمقراطية والحرية، في تلك الدول الأكثر عراقة. الصحف الورقية في الوطن العربي حدث ولا حرج: إجراءات سريعة لإطالة عمر إحدي الصحف الورقية في الخليج.. إغلاق السفير والنهار واللواء في بيروت، وبات عدد كبير من الصحفيين بلا عمل.. الصحافة تخسر كل أموال الإعلانات وتفتش عن بدائل.. وقف إصدار 26 صحيفة في موريتانيا بسبب نقص الورق والأزمة المالية. ولا تكاد توجد دولة واحدة في العالم، تعيش فيها الصحافة الورقية في أمان.. والكل يبحث عن طوق الإنقاذ. يتحدثون عن زيادة أعداد الصحف المطبوعة وأرباح الإعلانات، في دول جنوب شرق آسيا، الصين واليابان والهند، ولكن في الهند - مثلاً - تجربة فريدة ولا يمكن القياس عليها، فالصحف تصدر باللغات المحلية التي تبلغ عدة آلاف، ونيودلهي وحدها فيها صحف مكتوبة بأكثر من 117 لغة، ولم تنتشر وسائل التواصل الاجتماعي إلا بين 18% فقط، مقارنة بمصر والسعودية والإمارات والكويت 70% وعلاوة علي ابتكار وسائل إعلامية خلاقة في الصحف الورقية مثلاً الإعلانات ذات الرائحة للعطور، أو الحبوب الملصقة بالإعلان ويمكن لقرائها نزعها وإعادة زراعتها، وغير ذلك. أزمة الصحافة ليست مصرية فقط، ولكن مصر - بلا مبالغة - تمتلك وسائل إنقاذ صحافتها، خصوصاً الصحف القومية التي تمتلك أصولاً واستثمارات، يمكن أن تنفق علي الأنشطة الصحفية، بعد إعادة هيكلتها وحسن استثمارها، لتتحول إلي مؤسسات اقتصادية وإعلامية ضخمة، فلا توجد صحيفة في العالم مهما بلغ انتشارها، تستطيع أن تحقق التوازن، بين إيراداتها ونفقاتها، ولابد من مصدر آخر للإنفاق عليها. لم تتخل الدولة عن الصحافة وتقدم لها دعماً غير مباشر، يتمثل في بدل التكنولوجيا الذي يستفيد منه العاملون في الصحف القومية والحزبية والخاصة، وأصبح جزءًا من الراتب ولا غني عنه،وإجمالي ما تتحمله للبدل 250 مليون جنيه سنوياً، بجانب دعم نقابة الصحفيين والمعاشات، وتقدم دعماً مباشراً للمؤسسات القومية يساعدها علي البقاء والاستمرار، إلي حين الانتهاء من خطط الإصلاح والتطوير. كان » العالم الحر » يناضل من أجل استقلال الصحافة عن الحكومات، وكان المعيار هو »كلما قلَّ تدخل الحكومات في شئون الإعلام، زاد مؤشر الحرية» والآن ليس هناك من منفذ إلا طلب مساعدة الحكومات، فهي وحدها القادرة علي إنقاذ قواها الناعمة الكبري، وتحمل الفاتورة الباهظة لدعمها خوفاً من الوقوع في براثن مستثمري الأنشطة المشبوهة.