هل الأفضل أن تقول ما يرضي ويعجب ويريح، أم يجب أن يُقال الصدق والصواب للتبصير والإصلاح، وإن ضاقت به الصدور ! السؤال قد تبدوإجابته سهلة، بيد أن الإجابة لها تبعات، فالناس لا تعطي رضاها وتأييدها إلاَّ لمن يرضيها ويسايرها، وتضيق بمن يصارحها ويبصرها، وتضيق أكثر بمن ينصحها ! هرب البعض من هذه المواجهة بمنطق »قل ما يعجب الناس، واصنع ما شئت». ولكن هذا المنطق له بدوره توابع . الاتهام بالكذب والخداع والمناورة والتمويه، ولا نجاة حتي لمن حسنت مقاصده وغايته، فالناس تكره من يخادعها . أوجز شاعرنا الفذ صلاح جاهين هذه المعضلة، فقال في إحدي رباعياته الشهيرة : علم اللوع أضخم كتاب في الأرض لكن اللي يغلط فيه يجيبه الأرض أما الصراحة فأمرها ساهل لكن لا تجلب مال ولا تصون عرض ! عجبي ! أسوأ ما تجنيه الأمم، أن تحل فيها الكلمات محل الأفعال ! أن يتسلل إلي الضمائر والعقول أن الصروح تبني بالكلمات، وأن الإصلاح يتحقق بالكلمات، وأن المعضلات تُحل بالكلمات، وأن الإنتاج يزداد بالكلمات، وأن السلامة والأمان ما هي إلاَّ أمنية ودعاء ! حين تحل الكلمة محل الفعل، وتنفصل عنه، قل علي الدنيا السلام ! حذر القرآن الكريم من هذه الآفة فقال تعالي حكمته : » يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ » (الصف 2، 3 ) يتبع هذا الفصام بين الكلمة والعقل، فصام في الأخلاق والسلوك، وفصام في القيم والمبادئ، وفصام في السبل والسياسات، وفصام بين داخل الإنسان وخارجه، وانقطاع الصلة بكل ما ينفع ويجدي ويصلح . الكلمات ومأساة الحلاج في رائعة شاعرنا المبدع العظيم الراحل، صلاح عبد الصبور : مأساة الحلاج، أدار حوارًا شعريًّا يترجم عن مأساة الوقوع في أحضان الكلمات . تجيب المجموعة التي أتت لمشاهدة تعليق وصلب الحلاج تجيب من يسألها : » نحن القتلة : أحببناه فقتلناه .. قتلناه بالكلمات . أحببنا كلماته أكثر مما أحببناه، فتركناه يموت كي تبقي الكلمات ! » » كنا نلقاه بظهر السوق عطاشي فيروينا من ماء الكلمات . جوعي فيطعمنا من أثمار الحكمة، وينادمنا بكئوس الشوق إلي العرس النوراني » . سئلوا : » ألم يحزنكم فقده ؟! » أجابوا : » أبكانا أنّا فارقناه ! وفرحنا حين ذكرنا أنّا علقناه في كلماته، ورفعناه فوق الشجرة !!! » . أخطر ما يصيب الأفراد والجماعات، أن يبيتوا علقي في أحضان الكلمات . يعيشون ويحيون بالكلمات، ويقتلون ويدمون أيضًا بالكلمات . وأن يلبس السفهاء أدوار البطولة بالكلمات ! فوضي الكلمات والمعاني من توابع هذا الفصام الذي أصاب صلة الكلمة بالأفعال، أن انسحب هذا أيضًا علي المعاني، فترهلت الكلمات، وانبهمت فروق المعاني بين الألفاظ، والفروق الواجبة بين دلالات الكلمات، وحين يستشري هذا الداء، تتمادي الفروق بين القبيح والحسن والجيد والرديء، والصائب والخاطئ، والمتزن والجامح، والسوي والشاذ، والمستقيم والجانح !! حين لا تضبط الكلمات، ويشيع لقب الدكتور بلا تحديد، تنبهم المعاني، فلا يُعْرف هل المقصود حامل الدكتوراه، أم الطبيب البشري، أم الطبيب البيطري، أم طبيب الأسنان، أم الصيدلي، أم ممارس العلاج الطبيعي . ويشيع لقب الكاتب، فلا يعرف هل هوالصحفي أم الروائي أم القصاص أم المسرحي أم الحاكي للطائف والنوادر والحكايات، وتترهل الألقاب فتسري علي كتبة المحاضر والإنذارات والمحررات، وتنبهم التفرقة بين الشاعر والزجال ومن لا ينتمي أصلاً إلي الشعر أوالزجل . تعميم لفظ الفنان والفنانة، لا يعرف معه هل المقصود الموسيقار أوالرسام أم النحات أم التشكيلي، أم المطرب أوالمغني أوالموشحاتي، أم الممثل والممثلة، والراقص والراقصة . تهرأ معني كلمة » يا باشمهندس » و» يا هندسة » . فلم يعد هذا اللقب العلمي دالاًّ علي المهندس فقط، وصار لقبًا للميكانيكي، والسباك، والسيراميكي، والعجلاتي، والكهربائي، والوزان، والسمكري، والسنَّان، والمطبعجي، والخطاط، والفخراني، والرفّا، والخياط، والحلواني، والمبلط، والكلوباتي، والنجار .. وحدث ولا حرج . لقب » الأسطي » كان يختص به عمدة الحرفة أوالصنعة أوالورشة، ولكنه فقد دلالته ومعناه مع فوضي الكلمات، حتي صار الصبي تحت التعليم » أسطي » . وفي الإعلام تماحت الفروق بين الصحفي، والإذاعي، والتليفزيوني، والإعلامي، ولاعب الكرة . صار الكل إعلاميين، والبعض لا ينتمي إلي أي فرع من فروع الإعلام . لست أقصد إلي التقليل من قيمة أي وظيفة أومهنة أوحرفة أوصنعة أوأي عمل من الأعمال، أتحدث فقط عن عدم ضبط الكلمات والمسميات والمعاني، وبلا عناية أوتفطن أوالتفات ! أرادت الدولة أن تقاوم ظاهرة التسمّي كذبًا بلقب المستشار، فألغت اللقب اكتفاءً بلقب » القاضي » في جميع الهيئات القضائية، عدا مجلس الدولة الذي أفلت من إلغاء اللقب . ولكن الطريف اللافت أن الذين وُضِعَ القانون من أجل علاج انفلاتاتهم واستعارتهم لقبًا ليس لهم ولم يحملوه يومًا استمروا علي ما هم عليه، بينما التزم رئيس محكمة النقض ومجلس القضاء الأعلي ورجال القضاء بلقب » القاضي » ! الظاهر الصوتية وثقافة الهدير من التوابع المريرة لهذه الظاهرة المؤسفة، ارتداء أثواب البطولة بالكلمات وبالصخب والضجيج والصوت العالي، فتتفشي الإهاجة والإثارة والاستثارة والتشويش والاصطناع، والإرهاب اللفظي . ويحل هذا الهدير الصاخب محل الفعل والحكمة والموضوعية، ويتحول هذا الهدير إلي » بعبع » يهدد الناس ويطارد الأسوياء ! ثقافة الهدير ظاهرة صوتية منحرفة، تحل فيها الحناجر والأفواه محل العقول، والألسنة محل القلوب، والقذف والشتم والسباب محل الحجة والمنطق والموضوعية . ومن المؤسف أن هذه الظاهرة تتسلل بالتبعية إلي لغة الكتابة، فتخطف لغة القلم من العقل، وتحتويها في قاموسها القائم علي الصخب والضجيج، والمغالطة والهدير . يحدث هذا الضجيج الصاخب بعد عشرات السنين من دعوة الأستاذ يحيي حقي والأستاذ محمد مندور إلي وجوب حلول » جرس العين » محل » جرس الأذن »، ومناداة الدكتور مندور بما أسماه » الشعر المهموس » ! مع الوقت تسللت هذه الثقافة إلي الشارع، ولغة التعامل فيه، وأسلوب المناداة علي السلع، ولغة التخاطب التي جعل يسود فيها منطق : » خذوهم بالصوت ليغلبوكم ! » . ثقافة الهدير طالت للأسف المبادئ والأسس، وخلطت الأوراق بين حرية الرأي والنقد، وبين التطاول والشتم والسباب والقذف والإهانة والتحقير . ومن المؤسف حقًّا أن التشريع تراجع أمام الهدير، فاختلت الموازين بين الحقوق، وبين حق المجني عليه في الحماية، والجزاء الواجب للجاني . ضاع الوقار وتواري وانسحب المنطق والحجة مخافة الرذاذ والطلقات المقصودة والطائشة، ولم تنج قيم الأديان من تعديات هذا الهدير والهادرين ! ماذا أقول لكم ؟! للأسف حين تستشري هذه الظواهر المقيتة، تعيش الناس حياة غير ما تقوله، وتقول غير ما تعيشه، وتتحدث بما لا تعني، وتعني ما لا تتحدث به، ويختلط لدي المجتمعات الحابل بالنابل، وتنبهم السبل، وتطيش المقاصد، وتنحرف المسالك والأعمال، وتصير الناس كالعميان، لا تري ولا تبصر، ولا بصيرة لها ولا فطنة ! ما أحري بالعقلاء أن يغالبوا هذه الظاهرة ويغلبوها، وأن يعودوا بالناس إلي لغة العقل والحكمة والأدب، والصلة الواجبة بين الكلمة وبين الفعل والسلوك .