الداخلية السعودية تحذر حملات الوهمية والمكاتب غير المرخصة لخدمة الحجاج    تشكيل زد لمواجهة سموحة في الدوري    أمين (البحوث الإسلامية) يتابع جهود وعَّاظ الأزهر في توعية الحُجَّاج بمطار القاهرة    بالصور.. «السياحة والآثار» تتسلم 7 قطع أثرية مستردة من فرنسا    قصور الثقافة تختتم عروض مسرح إقليم شرق الدلتا ب«موسم الدم»    خالد الجندي: الصفح الجميل أرفع مراتب العفو.. والطلاق الجميل خلق قرآني نفتقده    ميلانيا ترامب تنفي شائعة رفض "هارفارد" لبارون: "لم يتقدم أصلاً"    صدمته سيارة أثناء أداء عمله.. أهالي المنوفية يشيعون جثمان اللواء حازم مشعل    وفاة 70 شخصا جراء وباء الكوليرا في العاصمة الخرطوم خلال يومين فقط.    رئيس الوزراء يتابع جهود توطين صناعة الحرير في مصر    وزير الثقافة يلتقي المايسترو سليم سحاب لاكتشاف المواهب الموسيقية ب قصور الثقافة    كامل أبو علي: تراجعت عن الاستقالة استجابة لجماهير المصري.. ونسابق الزمن لإنهاء مشروع الاستاد    الإفتاء: توضح شروط صحة الأضحية وحكمها    أجمل ما يقال للحاج عند عودته من مكة بعد أداء المناسك.. عبارات ملهمة    رواتب مجزية ومزايا.. 600 فرصة عمل بمحطة الضبعة النووية    مجلس جامعة القاهرة يثمن قرار إعادة مكتب التنسيق المركزي إلى مقره التاريخي    وزير التعليم يلتقي أحد الرموز المصرية الاقتصادية العالمية بجامعة كامبريدج    الصحة العالمية: شركات التبغ تغرى النساء والشباب بأكثر من 16 ألف نكهة    رئيس جامعة بنها يتفقد سير الامتحانات بكلية الهندسة- صور    وزير الثقافة يتابع حالة الأديب صنع الله إبراهيم عقب تعافيه    انتهاء رحلة ماسك في البيت الأبيض.. بدأت بفصل آلاف الموظفين وانتهت ب«خيبة أمل»    بين التحضير والتصوير.. 3 مسلسلات جديدة في طريقها للعرض    يوم توظيفي لذوي همم للعمل بإحدى شركات صناعة الأغذية بالإسكندرية    الحكومة تعلن موعد إجازة عيد الأضحى (تعرف عليها)    دموع معلول وأكرم واحتفال الدون وهدية القدوة.. لحظات مؤثرة في تتويج الأهلي بالدوري.. فيديو    رسميًا.. بايرن ميونيخ يُعلن عن أولى صفقاته الصيفية استعدادًا لمونديال الأندية 2025    مدبولى يستعرض نماذج استجابات منظومة الشكاوى الحكومية لعدد من الحالات الإنسانية    إصابة 7 أشخاص فى حادث انقلاب سيارة ميكروباص بالفيوم    حملات تفتيشية على محلات اللحوم والأسواق بمركز أخميم فى سوهاج    «هكر صفحة زميلته» ونشر صورًا وعبارات خادشة.. حبس موظف وتغريمه أمام المحكمة الاقتصادية    رئيس جهاز حماية المستهلك: المقر الجديد بمثابة منصة حديثة لحماية الحقوق    الكرملين: أوكرانيا لم توافق بعد على عقد مفاوضات الاثنين المقبل    كأس العالم للأندية.. إقالة مدرب باتشوكا المكسيكي قبل مواجهة الأهلي وديًا    الصادرات الهندسية تقفز 19% لتسجل 2.1 مليار دولار حتى أبريل 2025    بالصور- وقفة احتجاجية لمحامين البحيرة اعتراضًا على زيادة الرسوم القضائية    رئيس قطاع المتاحف: معرض "كنوز الفراعنة" سيشكل حدثا ثقافيا استثنائيا في روما    إعلام إسرائيلى: نتنياهو وجه بالاستعداد لضرب إيران رغم تحذيرات ترامب    «أحد سأل عني» ل محمد عبده تتجاوز المليون مشاهدة خلال أيام من طرحها (فيديو)    "قالوله يا كافر".. تفاصيل الهجوم على أحمد سعد قبل إزالة التاتو    محافظ المنوفية يشهد استلام 2 طن لحوم كدفعة جديدة من صكوك الإطعام    ياسر إبراهيم: بطولة الدوري جاءت فى توقيت مثالي    الإسماعيلى ينتظر استلام القرض لتسديد الغرامات الدولية وفتح القيد    إذا وافق العيد الجمعة.. أحمد خليل يوضح حكم صلاتي العيد والجمعة؟    ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الإسرائيلى على غزة إلى 54 ألفا و249 شهيدا    أسوشيتدبرس: ترك إيلون ماسك منصبه يمثل نهاية لمرحلة مضطربة    الدوخة المفاجئة بعد الاستيقاظ.. ما أسبابها ومتي تكون خطيرة؟    استشاري أمراض باطنة يقدم 4 نصائح هامة لمرضى متلازمة القولون العصبي (فيديو)    انطلاق المؤتمر العلمى السنوى لقصر العينى بحضور وزيرى الصحة والتعليم العالى    نائب رئيس الوزراء: العالم أدخل الذكاء الاصطناعي في مراحل رياض الأطفال.. ويجب تعليم الأجيال التعامل مع الابتكار    شاهد.. أول روبوت ينظم المرور في شوارع العاصمة الإدارية    بنمو 21%.. البنك العربي الأفريقي يحقق 3.2 مليار جنيه صافي أرباح بنهاية الربع الأول    ياسر ريان: بيراميدز ساعد الأهلي على التتويج بالدوري.. ولاعبو الأحمر تحرروا بعد رحيل كولر    رئيس الوزراء يصدر قرارًا بإسقاط الجنسية المصرية عن 4 أشخاص    جامعة حلوان تواصل تأهيل كوادرها الإدارية بدورة متقدمة في الإشراف والتواصل    كوريا الجنوبية تخفّض الفائدة لأقل مستوى في 3 سنوات    كل ما تريد معرفته عن سنن الأضحية وحكم حلق الشعر والأظافر للمضحي    حبس شخص ادعي قيام ضابطى شرطة بمساومته للنصب على أشقائه بالموسكي    ماريسكا: عانينا أمام بيتيس بسبب احتفالنا المبالغ فيه أمام نوتينجهام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بحب الراديو
نشر في أخبار السيارات يوم 28 - 07 - 2018

في صيف عام 1959 دخل أول راديو إلي قريتي أحضره أبي من لبنان عندما كان يسافر إلي هناك. كان راديو كبير يعمل ببطارية كبيرة توضع بجواره وفيما بعد استبدلت البطارية بصفين من البطاريات الجافة كل صف مكون من أربع حجارة ضخمة. رغم أن أبي خصص رفا في أحد جدران البيت الطيني ليضع عليه الراديو إلا أنه لم يستقر الراديو علي هذا المكان إلا بعد سنوات من دخوله القرية إذ تحول الراديو لملكية عامة يجتمع عليه رجال النجع في الملقة قدام البيوت لاستماع قرآن السهرة وبعده نشرة الأخبار وما تيسر من برامج وأغنيات.
مساء السبت من كل أسبوع يتزايد عدد الذين يشكلون حلقة الراديو. قرآن سهرة السبت من كل أسبوع بصوت عبدالباسط عبدالصمد. يجلس الجميع بإجلال لكلام الله وجمال التلاوة. أحيانا تتوحد أصواتهم ب الله طربا بجمال المعني وحلاوة الصوت.نصف ساعة من الاصغاء يليها رشفات من الشاي الذي أعدته أمي باعتبارها السيدة المضيفة. قبيل غروب الشمس ترص الأكواب النظيفة البراقة فوق الصينية اللامعة التي يحملها أبي علي كفه المفرودة وفي اليد الأخري يحمل البراد الكبير. كطيف يتحرك متجاوزا حلقة نسوة النجع قبل أن يدخل إلي دائرة الضوء التي يحتلها الرجال والتي صنعها نور الكلوب المعلق في جذع شجرة الدوم التي تتوسط هي وفسائل متفرعة عنها ساحة النجع. يضع البراد والصينية علي الأرض الترابية ينتظر بعد انتهاء القرآن ليتخفف الجلوس من قعدتهم المنتصبة الوقورة ويصب الشاي ويناول الأكواب. بعد انتهاء التلاوة يتكئ بعض الجلوس علي كوعه المغروس في رمل الأرض ويواجه بوجهه رفاقا شكلوا حلقة صغيرة وينشغلون فيما بينهم من حكايات. وفريق آخر ينشغل بترميم عيون السيجة المهجورة منذ الضحي أو العصاري. تنتهي اللعبة بهزيمة أحد العجوزين واستكانة الكلاب علي مشارف عيون السيجة التي تهدمت قليلا. بمجرد جمع الكلاب ورصها في العيون تستعيد نفوذها ومجدها داخل ساحة اللعب وتعاود المطاردة وملاحقة كلاب الخصم. بينما الراديو يبث نشرة الأخبار ثم أغاني السهرة.
أعمار الجالسين في حلقة الراديو ونوعية إهتمامهم تتغير تغيرا طفيفا حسب ما يبثه الراديو. مستمعي قرآن السهرة يختلفون قليلا عن مستمعي حفلات أم كلثوم رغم أن أكثر الحلقات إتساعا وشمولا لنوعيات وأعمار مختلفة كانت لسماع عبدالباسط عبدالصمد وحفلات أم كلثوم وعبد الناصر وخطبه الحماسية.
استفاد كثيرون من وجود الراديو منهم أصغر أعمامي من الدرجة الأولي وأصغر أعمامي من الدرجة الثانية. أولاد العم الصديقان اللذان اعتادا التعلق بعيدان قصب السكر التي يحملها قطار القصب من حقول القرية لمصنع السكر بمدينة كوم أمبو. قطار القصب وسيلة نقل غير مكلفة لمن يملك روح المغامرة فقط عليه أن يحفظ توازنه وهو يتعلق بالعيدان ويتسلق جوانب العربة ويحتفظ بتوازنه أيضا وهو فوق حزم العيدان أعلي العربة التي يجرها مع عربات أخري جرار لا يلتفت سائقه. كان أولاد العم الصديقين يذهبان إلي مدينة كوم أمبو لمشاهدة فيلم كوميدي ل إسماعيل يس أو استعراضي ل نعيمة عاكف.أفلام عرضت منذ سنوات في سينمات القاهرة ومازالت تعرضها سينما المحطة حتي تصل أفلام أخري أحدث.
في خميس حفل الست كان الإستعداد مختلفا تأخر وقت الحفل وتوقف قطار القصب في هذا الوقت عن النقل يجعلهم يسرجون حميرهم ويخرجون من القرية بعدما ينضم إليهم آخرون من قري مجاورة وفي أعمار مختلفة تسير قافلة الحمير محاذية قضبان قطار القصب حتي تصل إلي مدينة كوم أمبو.علي مقاعد المقهي القريب من سينما المدينة يتوزعون. يطلبون مشاريبهم وينتظرون بدء المقطوعة الموسيقية الجديدة التي ستغني عليها الست أغنيتها الجديدة.
فيما بعد انتقل العمان برفاقهم لجلسة الراديو وصارت لهم حلقة في الملقة* يلتفون حول مركزها ليتغنوا بأغنيات الست ومن بين حلقتهم خرج المغرمون بفريد الأطرش وعبدالحليم وانبهارهم بعاشقاته وقصات شعره وموديلات ملابسه. كانت صوره في المجلات التي تصل القرية مع أحد المقيمين بعيدا هناك في العاصمة تتناقل بينهم وانتشرت موضة عبدالحليم بين شباب المدارس. وصار لهم نصيب في ما يبثه الراديو وتزايد عددهم في حلقة الراديو في أوقات حفلات أضواء المدينة التي كان يحييها.
علي هامش الحلقة التي يتوسطها الراديو تجلس نساء النجع في حلقة قريبة يتابعن ما يبثه الراديو وينشغلن بحكاياتهن حين تبدأ نشرات الاخبار. اهتمام حلقة النساء كان يتزايد قبيل شهر رمضان لمتابعة إعلان ثبوت رؤية هلال الشهر الفضيل وصوت عبد المطلب يتهادي »رمضان جانا»‬ نفس جمهور هذه الحلقة ينتظر في نهاية الشهرالكريم صوت أم كلثوم ينشر البهجة في »‬يا ليلة العيد» بينما تنبعث من مركز حلقة النساء رائحة الحنة والخًمْرة والدلكة التي تستعد بها النساء لاستقبال العيد ما ان يبدأ صوت أم كلثوم حتي تتفتت حلقتهن ويتركن المكان لصيحات فرحة من بعض الأطفال الذين راوغوا النوم وجلسوا في ساحة الكبار انتظارا لفرحة العيد. خلف أبواب البيوت الصغيرة تخرج النساء حُصر السعف المصبوغ ويفرشنها علي أسرة الجريد وعلي الأرض ليجلس عليه المهنئون بالعيد صباحا. يخرجن الحصر المركونة بحذر شديد خوفا من عقرب مختبئة في الحصير قد تصيب أحدا وتفسد بهجة العيد.
استعداد النساء للعيد غالبا يكون بأشياء بسيطة يبدأنها قبل العيد بيومين أو ثلاثة بخبز القراقيش المعجونة بخميرة اللبن والتي لا تنجح في تجهيزها إلا نسوة عديدات في النجع يكلفن مقدما بإعدادها لتطوف الخميرة علي جميع بيوت النجع. من الطاقات العلوية في جدران البيوت ومن فتحات الأسقف الجريد يتوالي صعود الدخان صانعا تشكيلات مدهشة في سماء النجع تتداخل واصوات فؤاد المهندس وشويكار واعادة لحلقة الأمس من مسلسلهما الرمضاني. في المساء وحين يبث الراديو أغنية أم كلثوم »‬يا ليلة العيد» يختمن مهامهن ويغمرن أجسادهن بعجينة الحنة لتكتسب سًمرتهن المتدرجة لونا نضراً ورائحة طيبة.
قبل الراديو كان رجال من القرية ينتظرون علي حافة النيل حيث تمر عليهم مركب الحكومة كما يسميها الأجداد والتي تعلن ثبوت رؤية هلال رمضان وكذلك شوال أو أن اليوم هو المتمم للشهر. اعلانها كان بأن تضرب طلقاتها في الهواء وهي مبحرة في النهر معلنة الخبر لكل القري البعيدة والواقعة علي حافته. قريتي هناك أقصي الجنوب غالبا يتأخر وصول المركب لمنتصف النهار أو أواخره ، فينتظرها الجميع وهم صائمون حتي إعلان أن اليوم هو المتمم لشهر شعبان لينطلق الجميع صائحين بصوت جماعي »‬بكرة صيام» ليفطر الجميع وينتظروا الغد لبدء أول أيام شهر رمضان. في نهاية الشهر الكريم ينتظر الناس مرة أخري ليعلن ان اليوم هو العيد.
كم من متممات لشعبان صامها أهلي وكم من أعياد تآكل يومها المبهج وهم في انتظار ثبوت رؤية هلال شوال القادم من الشمال البعيد.

في ساحة الراديو هذه تابع الحضور إنجازات عبدالناصر وأخبار زياراته لأسوان لمتابعة مشروع السد العالي. جدي ذهب بصحبة عدد من الجيران إلي مدينة كوم أمبو واستقلوا القطار المتجه إلي مدينة أسوان في محطة أسوان انتظروا مع الجموع الكثيرة وصول الزعيم لمرافقته إلي موقع العمل بالسد العالي. حتي قبيل وفاته كان جدي يحتفظ بالجريدة التي نشرت الصورة التي يطل فيها وجهه خلف عبدالناصر. وجه أسمر وابتسامة فرحة مبتهجة وجلباب صعيدي بأكمام واسعة وشاش كبير يعلو رأسه. نجح جدي في شق طريقه وسط جموع البشر ليفوز بصورة خلف الزعيم،صورة نشرتها جميع الصحف بجوار صور الفنانين الذين رافقوا الرئيس لإحياء حفلات الترفيه عن العاملين في المشروع. كانت الصورة مثار فخر جدي والعائلة وسببا لشجار كوميدي بين جدي وجاره وهما يجلسان علي جانبين متقابلين من مربعات السيجة بينما يلاحق الواحد منهما كلاب الآخر. فيما يزهو جدي بصورته المنشورة خلف الزعيم يرمي الجار جدي بتهمة التخلي عن رفيقه مع أول فرصة تسنح له للفوز بقرب الزعيم. لفترة ليست بعيدة كانت الصورة مثار فخر العائلة.
حكايات السد العالي كانت حاضرة بقوة في أجواء القرية وفي حلقة الراديو التي تفرعت منها حلقات عديدة متجاورة ومتقاطعة من بدء المشروع وحتي افتتاحه وبعده بسنوات كان للمدرسة الابتدائية في القرية نشيد وطني خلاف نشيد بلادي بلادي يتغني بأمجاد السد وما أحدثه من تطور في أسوان.
التحق كثير من افراد القرية بالعمل في السد العالي أكثرهم كان متخصص في تفجير الجبل بالديناميت. كثير منهم لقي حتفه وقليل الذي نجحت فرق الإنقاذ في إسعافهم وإنقاذ أرواحهم وتعويضهم عن الأجزاء المبتورة من أجسامهم بمعاشات مجزية.
ومثلما تابع الجميع خطب ناصر افاقوا علي انباء النكسة وانكسار صوت مذيعي الراديو وأصوات قطار السويس وأنين الجرحي والمصابين من الجنود والمدنيين. مناشدات المواطنين التبرع بالدم أو العمل بالتمريض. وسراًكان يتابع البعض منهم حين يدخل أبي بالراديو إلي البيت صوت مذيعي اذاعة اسرائيل الموجهة للعرب والذين تخصص بعضهم لفضح عبدالناصروكشف انجازاته الوهمية كما يقول.
حكت أمي أنه في هذه الساحة تجمع سكان النجع وغطوا صندوقهم بالأسود الحالك وشيعوا جنازة عبدالناصر مثلهم مثل جموع شعب مصر. بينما كان الراديو يبدل بين صوت القرآن الكريم وبكاء وصراخ وعويل المواطنين لفقد الزعيم.
هي نفس الساحة التي بثت خبر النصر ونبأ العبور العظيم ففرح الذين ذهب أولادهم إلي الجبهة منذ سنوات ولم يعودوا منها بسبب النكسة. صار الجميع يستمع لنشرات الأخبار ويتابع لعل الغائب يعودوالفرح يعم، انتظار يملؤه صوت شريفة فاضل حماسا وهي تهتف »‬أنا أم البطل».
بعد سنوات تفرعت من ساحة الراديو ساحات أخري شغلت نجوع القرية لكل حلقة محطة اذاعية تظبط مؤشرالراديو عندها. من البرنامج العام لصوت العرب حتي المحطة الشابة اذاعة الشرق الأوسط. تقريبا توحدت أصوات جميع الحلقات لمتابعة عبدالرحمن الأبنودي وهو يحكي بلهجته الصعيدية الصريحة عن عزيزة ويونس ومرعي ثم يترك الميكروفون ويقول »‬قول يا عم جابر» ليحرك جابر أبو حسين ربابته ويروي سيرة بني هلال.

بعد موت أبي غادر الراديو ساحة النجع وارتكن إلي رف معلق علي حائط بيتنا الطيني. في سنوات حزنها علي أبي لم يفتح الراديو مطلقا وفيما بعد اكتفت امي بسماع قرآن السادسة صباحا والثامنة والنصف مساء. تدريجيا تحول الراديو لعالم أمي الخاص الذي يبطن جدران بيتنا الصغير المحشور بين بيوت الأعمام. مع قرآن السادسة صباحا يبدأ يومها توقظنا وتحثنا لنسرع بارتداء زي المدرسة ثم تضفر شعرنا الطويل في ضفائر تعقد كل واحدة منها بفيونكة يطيرها الهواء بينما نحمل كتب المدرسة وبينما نخرج من البيت كانت تجلس خلف ماجور العجين وتنهمك في تقليب عجينها وتقطيع أرغفتها في شمس الشتاء الواهنة وفي الوقت الذي تدعو فيه نجاح سلام لحبيبها بالسلامة كانت تنهمر علي ساحة بيتنا أصوات الاذاعة المدرسية وصوتي يقدم نشرة الصباح التي جمعت أخبارها من نشرة الخامسة عصرا والثامنة والنصف مساء واستيقظت مبكرا برفقة أمي نقلب محطات الراديو لنجمع أخبارا أخري طازجة.
صارت برامج الراديو هي مواقيت أمي ينتظم عليها ايقاع حياتها وبرنامجها اليومي. مع صوت فؤاد المهندس يلقي كلمتين وبس كانت تضع الوقيد أمام الفرن وتنقل الأرغفة من تحت الشمس إلي غرفة الفرن تمهيدا لرصها داخله. صار صوت صفية المهندس وهي تنصح ربات البيوت وتحكي لهن مثل دقات ساعة جامعة القاهرة. لو تأخرت أرغفتها عن الاختمار حتي سماع صوت صفية المهندس فلابد أن الخميرة ليست بخير أو أن الشمس استسلمت لهجوم السحب المنذرة بمطر وشيك. في الأوقات العادية قبل أن تبدأ فقرة عيلة مرزوق التي تتابعها تكون جالسة أمام فم الفرن تبدل مواضع الأرغفة ليأخذ كل نصيبه من النار. مع صوت أبلة فضيلة الناعم يحكي حدوتة اليوم كانت الأرغفة تخرج من الفرن علي أطباق الخوص. في أيام المدارس وقبيل النوم كانت تحكي لنا حدوتة أبلة فضيلة التي أذيعت صباحا وقت وجودنا في المدرسة.
علاقة أمي بالراديو كانت تزداد عمقا يوما بعد يوم حتي صار صوت الراديو مع صوت ماكينة الخياطة التي تجلس خلفها بعد انتهاء اعمال البيت لتصنع فساتين بنات النجع الموسيقي التصويرية لمسيرة حياتها.
في البداية كنت أندهش من علاقة أمي بالراديو وارتباطها به حتي أن ما تتابعه من برامج وتمثيليات أصبح يحدد حالتها المزاجية. ويهدئ كثيرا من توترها الذي كثيرا ما يظهر وهي تدفع القماش تحت سن الإبرة أو أنفعالها غير المبرر تجاه بعض افعالنا الصغيرة. لكن بعدما توطدت علاقتي بالراديو وصار ملازما ليومي ادركت انه يطور خيالها الذي ترسم به مسيرة حياتنا المغايرة عن حياة سكان النجع.
عكس نساء قريتي اللاتي حرصن علي وجود المسجل في بيوتهن في نهاية السبعينات وأوائل الثمانينات لم تفكر أمي في شراء مسجل.ارتبط المسجل لديها بذوق شعبي للعمال الذين سافروا إلي الخليج في فترة الانفتاح. كان اول ما يشتري الواحد منهم مسجل ليسمع أهله صوته المسجل علي شريط يرسله مع صديق له سبقه بالإجازة. ويسجل عليه الأهل رسالة لأبنهم المسافر ويرسلونها بنفس الطريقة وربما مع ذات الصديق. خلاف ذلك فقد كان المسجل وسيلة لسماع موال شفيقة ومتولي وأغاني عدوية ومطرب الكف الذي بدأ صيته في الذيوع رشاد عبدالعال.
كما صار المسجل تعبيرا عن طبقة اجتماعية جديدة يتباهي بعض افراد قريتي بالانتماء إليها ويتجلي هذا التباهي في الحرص علي التقاط صور تذكارية مع المسجل صور يظهر فيها الرجل مستندا بذراعه علي حافة المسجل الكبير ببابيه وكأنه مسنود علي عزوة من قبيلة ذات نفوذ! وقد يحمله علي رجليه كطفله المدلل بينما هو جالس ينظر للكاميرا وينبه المصور ان يضبط الكادر ليظهر المسجل كما أراد. وبالغت إحدي نساء قريتي في التباهي فوضعت المسجل في جراب وعلقته ك شنطة اليد في كتفها وكانت تجوب به طرقات القرية وتقضي به كافة مشاويرها ناقلة ربابة الريس متقال لتسمع القرية »‬الفراولة بتاع الفراولة» وصولا ل »‬ميل واسقيني يا واد عمي»!!
في ساحة النجع تفتح بيوت الأعمام وتنهمرعلي الملقة الأصوات المختلفة من مسجلات البيوت. خفت صوت الراديو مع انتشاراشرطة الكاسيت. وجود المسجل في بيوت القرية جميعها ساعد في انتشار أشرطة الريس متقال والريس حفني وعدوية ومطرب الكف الجديد رشاد عبدالعال. رشاد عبدالعال ابن القرية الذي فتح الله عليه من صبي يغني في تجمع الناس في مقامات الأولياء ليكون مطلوبا لإحياء افراح القرية وقري عديدة واستطاع بفضل موهبته الفطرية أن يطور فن الكف حتي صارت أشرطة الليالي التي يحييها تنافس أشرطة عدوية ومتقال وغيرهم من نجوم ذلك الزمن.
ساحة نجعنا التي كان صوت راديو أبي يملأ فضاءها موسعا المكان لخيال خصيب يشكل عوالم أخري بعيدة عن محدودية جغرافيا المكان صارت الساحة حلبة لصراع أصوات عديدة متنافرة.
زوجة عمي المغرمة برشاد عبدالعال قبل زواجها مثل بنات القرية كانت ترقص في ساحة الكف. صباحا كانت العايقة تشغل المسجل علي إيقاع هادئ لصوت الطبلة والعود ثم تنغيم رشاد عبدالعال. تضع شال القطيفة الصفراء علي رأسها لينسدل مخفيا نصف جسمها العلوي بما فيها الوجه. تتمايل علي تنغيم رشاد تقترب بخطوتها الراقصة من صف الشباب حتي تحفزهم ليرتجلوا مقطعا غنائيا يرتجل عليه رشاد عبدالعال أغنيته التي تثير الشباب ليقتربوا بخطوتهم الراقصة منها فتتراجع بظهرها جاذبة إياهم ناحيتها. يغلب الوجد زوجة عمي العايقة فتلف حتي يصبح الشال الموضوع فوق رأسها كخيمة طيرها الهواء دون أن ينتزعها من مكانها. ترقص العايقة في غرفتها الرطبة بأرضيتها المرشوشة بالماء وسقفها الجريد وتتحدث كمن شارك في حدث مصيري عندما تكون قد سمعت الأغنية المسجلة في أحد أعراس القرية وربما كانت الراقصة التي ألهمت المطرب ليواصل ارتجاله المدهش.
العايقة مغرمة برشاد عبدالعال في حين كانت الجدة من عشاق الريس حفني وموال متولي الجرجاوي والريس متقال بينما ظلت أمي مخلصة للراديو حتي مع انتشار الكاسيت لم تهتز مكانته. يزعجها أصوات مسجلات النجع غير أنها كانت تشفق علي من تبدأ يومها بالمسجل وتظل مقطوعة الصلة بالعالم. تنشغل بالراديو بينما صوت ماكينة الخياطة عازلا بين فضاء بيتها وعالمها وفضاء النجع الذي صار مزعجا.
خسرالراديو كثيرا من جمهوره مع انتشار الكاسيت وأيضا مع دخول التليفزيون إلي القرية نهاية السبعينات وانتشاره في الثمانينات انبهر الجميع بالصور المضيئة والممثلين الذين كانوا يسمعون أصواتهم عبر الراديو وسجلت مخيلة كل واحد صورة له تتناسب وتصورهم عنه وربما كانت الصورة تتغير مع كل دور يؤديه الممثل. خسر الراديو جمهوره وخاصة فترات إعادة عرض مسلسل »‬أوراق الورد».
كنا صغارا نجري من المدرسة حتي البيت لنشاهد الحلقة المعادة التي تعرض بعد الظهر من مسلسل أوراق الورد. منبهرين بوجه وردة وهو يخرج باكيا ليشكو »‬أوراق الورد بتتألم/ أوراق الورد بتتكلم/ وبتصرخ وتقول للجاني/ اذا كنت خاصمت البستاني/ ايه ذنب الورد.» كان غالبية جمهور وردة من نساء النجع يبكين معها ازماتها ومشكلات طلاقها وتمزقها بين الابن والحبيب. في حين كان الشباب يجتمع حول عادل إمام ومغامرات »‬إبراهيم الطاير» التي لا تنتهي، كان التليفزيون يعيد عرض المسلسلين كل فترة بالاضافة لمسلسل الأيام الذي التف حوله تلاميذ المدارس وبعض الذين لا زالوا يتابعون الراديو ويتبادلون قراءة نسخة واحدة من جرائد الصباح يحضرها من المدينة واحد من الذين يذهبون للمدينة يوميا ،أحد موظفي مجلس المدينة أومصنع السكر أو تلميذ من تلاميذ المدرسة الثانوية اشتراها بناء علي رغبة أبيه او جده.
أصوات كثيرة متنافرة كانت ترتفع في سماء ساحة النجع وتكاد تخفي صوت الراديو المنبعث من بيتنا القديم الصغير المحشور بين بيوت الأعمام. ما زالت صورته في وعيي ترتبط بصوت الراديو وتكتكات ماكينة الخياطة ورائحة التراب المبلل.
أهل قريتي الذين هجروا الراديو منذ زمن عادوا اليه مرة أخري في التسعينات مع بدء بث إذاعة جنوب الصعيد الناطقة باسمهم المتحدثة بلهجتهم والتي تتبني قضاياهم وتحاور ضيوفا منهم وتذهب إلي منادرهم. وتبث اغنيات أفراحهم وتحكي حكايتهم وطقوس أيامهم ، بحث الجميع عن أجهزة الراديو المركونة منذ زمن والمعطلة وعرف البعض الآخر استخداما آخر للمسجل وحرك مؤشر الراديوالمزود به وضبطه علي موجات »‬إذاعة جنوب الصعيد من أسوان» ليسمعوا اصوات عبدالله أبو الحمد وأشرف جابر وحسن مدني بلكنتها الصعيدية التي انتبهوا أنها صالحة للتعامل اليومي وليس السخرية فقط.
اهتمام أهل قريتي بالراديو كان مؤقتا مثل اهتمامهم بقراءة قصصي عندما عرفوا أن اسمي يظهرمطبوعا في بعض الصحف سرعان ما انصرفوا عن الراديو وعن قراءة قصصي وملاحقتي باسئلتهم. فترة قصيرة تابع فيها الجميع اذاعة جنوب الصعيد وانصرفوا بعدما تعرفوا علي ذواتهم وتاريخهم والجغرافيا التي شكلتهم من خلال ما كانت تقدمه المحطة الإذاعية. انصرفوا عنها تاركين الراديو لعشاقه الحقيقين أمي وقليل جدا من ناس القرية الذين يستنكروا أن يبدا يومهم دون سماع قرآن السادسة صباحا او نشرات الأخبار بمواعيدها المنتظمة التي تربطهم بالعالم أو اغنيات تمنحهم خيال يشكل عوالمهم البعيدة هنا في القرية النائية.

في سكن الطالبات بالجامعة رافقني راديو ترانزستور كنت أضعه بجواري علي السرير مضبوطا علي محطتي المفضلة إذاعة الشرق الأوسط غير انني لا أمانع من تحريك المؤشر حين لا يتوافق ماتبثه المحطة مع حالتي وقتها.أصوات مختلفة كانت تتوالي مع تحريك المؤشر وتشكل مقطوعةغيرمنتظمة خليط غير متجانس يشبه روحي قبيل الكتابة. في رحلة البحث عن صوت يلائمني تختلط جملة موسيقية مع آية قرآنية مع خبر سياسي وأحيانا أسماء مهنئين يهدون أغنياتهم المفضلة لأصدقاء وأحبة. رحلة بحثي عن صوت يناسب حالتي يشبه تماما حيرتي وأنا افكر في جملة البدء التي سأبدأ بها قصتي الجديدة.
رفيقات الغرفة كن مغرمات باشرطة الكاسيت التي تحمل صور ميادة الحناوي وليلي غفران وأنغام وعمرو دياب.أحيانا أشاركهن الاستماع حين يكون الصوت قادراعلي تطوير الحالة ويساعدني لتحويل الشخبطات والخطوط المتشابكة التي أرسمها علي هامش الصفحة وأحولها لكلمات نص جديد.
غالبا يسكت صوت المسجل بمجرد نوم إحدي رفيقات الغرفة ويظل الراديو الذي يشاركني نفس الوسادة يبث أصواته الخافته كهمس العشاق.
منذ متي وأنا أنام علي صوت الراديو؟ ربما منذ كانت أمي تسهر علي ماكينة الخياطة وتأتنس بصوته. ربما اعتدت صوته حتي أنه صار ضروريا لتشكيل تفاصيل حياتي. في الليل اخفض صوته كثيرا حتي يصبح كهمس داخلي تتوالي البرامج والاخبار والتحليلات والأغنيات حتي الصباح. وكثيرايحدث الخلط بين ما يبثه الراديو بأصوات شخوص القصص التي أكتبها بأطياف الاحلأم التي انفتح عليها بمجرد أن أغمض عيني. علي كل صار صوت الراديو الخلفية الصوتية لأيامي. عالمي البذرة التي انبتت خيالاتي العديدة وصارت تحملني بعيدا عن تفاصيل المكان المحاصر.
لسنوات وأنا أضع الراديو بجوار رأسي أنام وأصحو علي أصواته قرآن مرة وأخبار مرة واغنيات كثيرة لأصوات عديدة أحببتها وطورت خيالي. بعد الزواج لم تعد الغرفة لي بمفردي وشاركني السرير فرد آخر غير الراديو كان علي أن اغلق الراديو المزعج!! واغلقته واغمضت عيني علي ظلام ثقيل ظل لسنوات عديدة يفصل بيني وبين شخوص القصص التي كنت أكتبها. كانت تراودني في فترات التوقف وتطل من سقف الروح وأنا اصغي لصوت الراديو الذي يشغله سائق التاكسي الذي أستقله. كثيرا ما انشغلت بمتابعة الراديو عن النزول حتي ينبهني السائق بوصولي للمكان الذي حددته! علي كل ظلت شخوص قصصي حبيسة لسنوات عديدة حتي استعدت صلتي بأصوات الراديو واستعادت حريتها مرة أخري.
الملقة : الساحة أمام البيوت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.