لم يعد هناك من مجلات فصلية أو شهرية ثقافية وفكرية تصدر علي نحو منتظم في بيروت، والكثير منها أقفل صفحاته ولم يعد يصدر من الأساس. آخرها مجلة »كلمن» التي كانت فكرة جماعية صدرت بدعم من أسماء ثقافية وفكرية ولبنانية كبيرة منها أحمد بيضون وحازم صاغيّة وحسن داود وعبّاس بيضون ومنال خضر وحسام عيتاني، لكن المجلّة علي الرغم من فرادتها لم تقدر علي المقاومة لتغيب. وبعدها مجلة الآداب، التي أوقفت نسختها الورقية وتحوّلت لموقع إلكتروني فقط. لهذا صار من الغريب أن نجد مجلّة شهرية أو فصلية في بيروت. وحين نجد واحدة نقول بين أنفسنا : متي سوف تقفل مثل شقيقاتها! كان من المفترض أن يكون هذا العدد من مجلة »بدايات» بين يدي القارئ خلال شهر فبراير الفائت بالتزامن مع الذكري المئوية للثورة الروسيّة. لقد جاء في مفتتح العدد السابق من المجلة نفسها بأن العدد التالي سيكون مخصصاً بأكمله لتلك الثورة. لكن الإصدار لم يخرج في وقته. قال رئيس التحرير فوّاز طرابلسي في بداية العدد 17 من »بدايات» إن العدد القادم »18» سيكون لمئوية »ثورة أكتوبر» الروسيّة 1917 هادفين منه إلي تسجيل الأوجه المختلفة للحظة تاريخية فارقة - خلال عقد من الزمن - تزاوجت فيها الثورة الاجتماعيّة والسياسيّة مع الثورة في الثقافة والمخيّلة والقيم”. مع ذلك لم يصدر العدد في وقته. لقد صار له أن يصدر في وقت متأخر من ذكري تلك الثورة. هو صدر أخيراً في عدد مزدوج. ال 18 و ال 19. هل ماتت الأوراق الكثيرة المكتوبة عن الثورة في المجلة، وقد نامت في أرشيفها كل هذا الوقت حتي تصدر! ماذا يعني أن تصدر مجلة تعني بذكري ثورة مشهودة، وقد حكي عنها العالم، آثرت جماعات كثيرة من الناس، أن تصدر بعد وقت طويل من تلك الذكري! يٌقال بأنه التمويل المستقل غير المشروط الذي تعتمده »بدايات» من أجل صدورها. كان السبب في عدم صدورها في وقتها. ليس يُقال: إنه مكتوب علي الصفحة الثالثة من المجلة. لقد صدر هذا العدد المزدوج، بعد صراع مع الوقت، بتمويل من »مؤسسة روزا لوكسمبرغ ، مكتب بيروت». وعليه جاءت هذه المجلة الفصلية حاملة لعددين في إصدار واحد. لعلها محاولة لجعل العدد مواكباً لوقته ولأحداث إضافية غير الذكري المئوية للثورة الروسيّة. وعليه، جاءت الافتتاحية شارحة أسباب تخصيص الجزء الأول من العدد المزدوج لتلك الثورة والحديث عن النظام الذي أنشأته والتعريف بها “بما هي عملية استيلاء علي السلطة التي طبعت القرن العشرين إلي حد بميسمها مع قيام نظام اقتصادي اجتماعي يقدّم نفسه علي أنه البديل من النظام الرأسمالي”. وفي سياق فكرة الاستيلاء علي السلطة تأتي نصوص لينين عن الثورة ذاتها وكتابات لأنطونيو غرامشي وروزا لوكسمبورغ ولليون تروتسكي عن لينين نفسه عشية الاستيلاء علي السلطة، كما وشهادة للأميركي جون ريد كاتب »عشرة أيام هزت العالم». كذلك حفل العدد بقراءات في كتب تحكي عن الثورة ذاتها ومنها كتاب أي آي سميث »روسيا في الثورة» بقراءة مُنجزة عبر جلبير الأشقر وهو الكتاب الذي أتي عبر منظور يساري نقدي والذي يعتبره الأشقر »أغني الكتب الحديثة عن الثورة وأكثرها شموليّة». في الجزء التالي من القسم الكبير المخصص لتلك الثورة يأتي الحديث عن المرأة والتغيّرات التي حصلت في قلب نظامها الحياتي وأتت الكتابة عبر سينثيا كريشاتي، الباحثة والناشطة الاجتماعية اللبنانية والتي قامت بتصدير بحثها عبر مقولة لإينيسا أرمان »إذا كان لا يمكننا أن نتصوّر أن تحرّر المرأة لا يتم بدون الشيوعية، إذا فلا يمكننا أن نتصوّر أن الشيوعية سوف تحقق بدون تحرّر المرأة “. من جهته ذهب الباحث والأكاديمي اللبناني وسام سعادة للحديث عن “نساء روسيا 1917 في أعين المؤرّخين المعاصرين»، وهي كتابة اعتمدت علي آخر الإصدارات القارئة لدور المرأة في الثورة والنقاشات والخلافات التي حصلت بداخل الحركة النسوية نفسها و »قضايا الحب الحرّ ومؤسسة الزواج» هذا إضافة للعلاقة الإشكالية بين الحزب والحركة النسوية »بصدد إشكالية الأولويّة: لتحرّر المرأة العاملة أم لتحرّر المرأة المجتمعي الشامل». أمّا في القسم الثاني من أقسام »بدايات» وفي هذا العدد المزدوج فقد واصلت اليمن حضورها الدائم كما في كل عدد. رئيس تحرير المجلّة فوّاز طرابلسي كأنه لم يقدر علي نسيان تلك السنوات الطويلة التي عاشها في اليمن الجنوبي وشكّلت في حياته أفكاراً لأكثر من كتاب أصدرها عن »اليمن السعيد» بكل إشكاليته. وهذه المرة تظهر اليمن عبر الكاتبة والروائية بشري المقطري التي كتبت »شهادتان من الحرب اليمنية» وهي عبارة عن كتابة ميدانية نزلت إلي الأرض وتكلّمت صاحبتها مع الضحايا الذين نسيهم العالم. في حين أعد كاتب هذه السطور دراسة حول »المهمل والهامشي في روايات علي المقري» قارئاً فكرة الناس المهملين في الأعمال الروائية الثلاثة الأولي لصاحب »حُرمة» وكيف تعامل معها علي نحو ظهر كأنهم نقطة مشتركة بين تلك الأعمال. كما واصلت الباحثة الأميركية ليزا ودين تفريغ الحوارات المُسجلة بصوت القيادي اليمني الاشتراكي الراحل جار الله عُمر والذي تم اغتياله علي يد متطرف أصولي في العام 2002 أمام عدسات الكاميرات في مؤتمر خاص بحزب الإخوان المسلمين في اليمن وكان لحظة اغتياله يلقي خطاباً ناشد فيه الجميع ترك السلاح والعنف والعيش تحت مظلة دولة مدنية.