والآن وقد استلمت ما يثبت أني بلغت سن الرشد، بعد توقيعي أمسكت بطاقتي أتفحص ملامحي التي لا تشبهني بالضبط. دفعتني بقوة وهي تتزاحم في الطابور المتكدس بالرجال والنساء آخره تجاوز باب السجل كانت تقف عن يميني، وراء الحاجز الزجاجي الذي به شباك صغير نقدم منه الرسوم وبعض الأوراق المطلوبة ونستلم منه أيضًا، التفت إليها بوجه عابس، أدفعها وأنا أحاول الخروج وسط الزحام، لكن أصابني الهلع حين سمعت صوتًا صغيرًا علا صراخه لم أتبين أنها كانت تحمل طفلها، فخمارها الأسود كان منسدلًا عليه، هل جنت كيف تغطيه بهذا اللون؟ فأمي تقول هذا فأل سيئ، ارتبت منها، كيف تكون بهذه القسوة مع صغيرها، وأكثر ما أثار رهبتي نقابها وملابسها السوداء، لكن حين نظرت إلي عينيها السوداوين القاتمتين، شعرت أن وراءها ضعفًا وخوفًا، تسمرت أمام نظرتها التي أسرت انتباهي، ليعود صوت الصغير يتعالي ببكاء متقطع، وكأنه لا يستطيع التقاط أنفاسه، تصرخ في وجهها إحدي النساء وتكشف عنه الخمار، ماكل هذا؟! ستقتلينه، كل هذه الثياب الثقيلة والغطاء المبطن يكتم أنفاسه، تجذبها من يدها بقوة، تعود بها إلي الخلف لتجلسا في الاستراحة، علي الكراسي الخشبية الكبيرة المثبتة أقدامها في الأرض، تحمل منها الصغير، تضمه بحنو، تنزع من علي رأسه القبعة الصوف، تحرك بعض الأوراق في يديها يمينًا ويسارًا عليه من أجل بعض الهواء. - ربما أنت أمُّ من أيام قليلة فقط، ولهذا تجهلين التعامل مع طفل حديث الولادة. - لا بل أمُّ من عشرة أعوام لأربع من الإناث، رزقني الله الصبي بعد طول انتظار، أخشي عليه الأذي حتي من نسمات الهواء ببردها القارص، ومن عيون تلاحقني بحسد ونفوس امتلأت بالحقد، بعد أن أنجبت وريثًا حطم أحلامهم، تضحك علي كلماتها، وعيناها مملوءة بدموع تحجرت، علي أطراف الجفون تأبي النزول: وهل يمنع الحذر القدر!! لقد انطفأ فتيل مصباحي فجأة وحده ليسود الظلام أيامي، وكأني أعيش في كهف محجوب الضوء، ليقطع حديثها الموظف الجالس علي الحاسوب مناديًا عليهما، ليسلم إحداهما صورة بقيد ميلاد ، والأخري مستخرج لشهادة وفاة.. !!