المستشار أحمد بندارى : التصويت فى انتخابات الشيوخ بالتوعية لكن ستطبق الغرامة    جهاز أكتوبر الجديدة يعلن انتهاء تنفيذ أول عمارات سكنية بمشروع ديارنا.. صور    محلل سياسي: ما فعله الإخوان يعترفون خلاله رسميا بأن نتنياهو مرشد الجماعة الأعلى    مسؤول أمريكي: شروط ترامب عدم وجود حماس للاعتراف بالدولة الفلسطينية    في ودية غزل المحلة.. إيشو ودونجا والزنارى فى تشكيل الزمالك    في مباراة يوكوهاما ضد ليفربول .. محمد صلاح يتلقى هدية غير متوقعة    مكتبة الإسكندرية تُطلق فعاليات "مهرجان الصيف الدولي" في دورته الثانية والعشرين    ترامب يعلن فترة مفاوضات مع المكسيك 90 يوما بشأن الرسوم الجمركية    مصرع شخصين وإصابة آخرين في انقلاب سيارة بترعة في سوهاج (صور)    الداخلية: مصرع عنصر إجرامي شديد الخطورة خلال مداهمة أمنية بالطالبية    القليوبية تحتفي بنُخبَتها التعليمية وتكرّم 44 من المتفوقين (صور)    عودة نوستالجيا 90/80 اليوم وغدا على مسرح محمد عبدالوهاب    محافظ سوهاج يبحث استعدادات انتخابات مجلس الشيوخ ويؤكد ضرورة حسم ملفات التصالح والتقنين    وزير البترول يبحث مع "السويدى إليكتريك" مستجدات مجمع الصناعات الفوسفاتية بالعين السخنة    توتنهام يسعى لضم بالينيا من بايرن ميونخ    ريبيرو يستقر على مهاجم الأهلي الأساسي.. شوبير يكشف التفاصيل    جدول ولائحة الموسم الجديد لدوري الكرة النسائية    وزير الكهرباء والطاقة المتجددة يشهد توقيع مذكرة تفاهم لتطوير وتحديث مركز أبحاث الجهد الفائق (EHVRC)    الصحة العالمية: غزة تشهد أسوأ سيناريو للمجاعة    محافظ سوهاج يشهد تكريم أوائل الشهادات والحاصلين على المراكز الأولى عالميا    معاقبة شقيق المجني عليه "أدهم الظابط" بالسجن المشدد في واقعة شارع السنترال بالفيوم    وزارة الداخلية تضبط طفلا يقود سيارة ميكروباص فى الشرقية    واشنطن تبلغ مجلس الأمن بتطلع ترامب لإنهاء حرب أوكرانيا 8 أغسطس    وزير الخارجية اللبناني يبحث مع مسئولة أممية سبل تحقيق التهدئة في المنطقة    وزير الثقافة يشارك باحتفالية سفارة المملكة المغربية بمناسبة عيد العرش    الخميس 7 أغسطس.. مكتبة الإسكندرية تُطلق فعاليات "مهرجان الصيف الدولى"    الشيخ خالد الجندى: من يرحم زوجته أو زوجها فى الحر الشديد له أجر عظيم عند الله    وكيل صحة شمال سيناء يبدأ مهامه باجتماع موسع لوضع خطة للنهوض بالخدمات الطبية    طريقة عمل الدونتس في البيت زي الجاهز وبأقل التكاليف    "قريب من الزمالك إزاي؟".. شوبير يفجر مفاجأة حول وجهة عبدالقادر الجديدة    انطلاق المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل من محافظة مطروح    17 برنامجًا.. دليل شامل لبرامج وكليات جامعة بني سويف الأهلية -صور    بدء الدورة ال17 من الملتقى الدولي للتعليم العالي"اديوجيت 2025" الأحد المقبل    المشدد 3 سنوات ل سائق متهم بالاتجار في المواد المخدرة بالقاهرة    تعرف على كليات جامعة المنيا الأهلية ومصروفاتها في العام الدراسي الجديد    SN أوتوموتيف تطلق السيارة ڤويا Free الفاخرة الجديدة في مصر.. أسعار ومواصفات    محافظ المنوفية: تكريم الدفعة الرابعة لمتدربي "المرأة تقود في المحافظات المصرية"    القنوات الناقلة لمباراة برشلونة وسيول الودية استعدادًا للموسم الجديد 2025-2026    منظمة التحرير الفلسطينية: استمرار سيطرة حماس على غزة يكرس الانقسام    "يحاول يبقى زيهم".. هشام يكن يعلق على ظهوره في إعلان صفقة الزمالك الجديدة    البورصة: تغطية الطرح العام للشركة الوطنية للطباعة 23.60 مرة    تعليقا على دعوات التظاهر أمام السفارات المصرية.. رئيس حزب العدل: ليس غريبا على الإخوان التحالف مع الشيطان من أجل مصالحها    محافظ المنيا: تشغيل عدد من المجمعات الحكومية بالقرى يوم السبت 2 أغسطس لصرف المعاشات من خلال مكاتب البريد    4 تحذيرات جديدة من أدوية مغشوشة.. بينها "أوبلكس" و"بيتادين"    يديعوت أحرونوت: نتنياهو وعد بن غفير بتهجير الفلسطينيين من غزة في حال عدم التوصل لصفقة مع الفصائل الفلسطينية    هل انقطاع الطمث يسبب الكبد الدهني؟    حرام أم حلال؟.. ما حكم شراء شقة ب التمويل العقاري؟    بالأسماء إصابة 8 أشخاص فى حادث انقلاب سيارة بصحراوى المنيا    الشيخ أحمد خليل: من اتُّهم زورا فليبشر فالله يدافع عنه    النتيجة ليست نهاية المطاف.. 5 نصائح للطلاب من وزارة الأوقاف    البابا تواضروس يشارك في ندوة ملتقى لوجوس الخامس لشباب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    المهرجان القومي للمسرح يكرم روح الناقدين أحمد هاشم ويوسف مسلم    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    حنان مطاوع تودع لطفي لبيب: مع السلامة يا ألطف خلق الله    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكايات من دفتر أحوال سعيد الكفراوي
نشر في أخبار السيارات يوم 28 - 04 - 2018


من أين تبدأ الحكاية؟
أنا أرنو الذي يكدس الريح
ويصطاد الأرنب بالثور
ويسبح ضد التيار
تبدأ عند أحد شعراء التروبادور، من القرن الثاني عشر، اشتهر بتغنيه بالحب. وصل إلينا أرنو دانييل من خلال دانتي الذي استساغ شعره؛ ومنه إلي عزرا باوند؛ ثم ت. س. إليوت. ماذا يفعل هذا الشاعر في ربوع مصر، وما الذي جعله يقف كالراية المشرعة في افتتاح كتاب سعيد الكفراوي الجديد »حكايات من دفتر الأحوال»‬!
تحطم هذه الافتتاحية حواجز الزمان والمكان. فالكاتب المصري ابن القرن الواحد والعشرين، هو هذا التروبادور الذي عاش في البروفانس في فرنسا في القرن الثاني عشر؛ يحاول أن يسبح ضد التيار. يفتتح الكفراوي كتابه بشعر التروبادور ويختتمه بشعر شاعره المفضل توأم روحه محمد عفيفي مطر وهكذا تغلق الدائرة في الزمان والمكان.
ولكن أعود وأقول من أين تبدأ الحكاية؟
عرفت الترجمة الذاتية في الآداب القديمة: الفرعونية واليونانية واللاتينية. وأخذ هذا النوع من الكتابة في النمو والانتشار منذ القرن التاسع عشر مع تضخم الوعي بالذات، فانتعشت الدراسات النفسية؛ وتطور علم النفس الاكلينيكي. وأعطي فرويد دفعة قوية لهذه الدراسات. فانتشرت الكتابة عن الذات، وكثرت الترجمات الذاتية التي تتتبع حياة صاحبها من المولد حتي لحظة الكتابة، في الشرق والغرب. ثم جاءت الاعترافات، واليوميات، والصحائف الذاتية. كما اهتم النقاد بجمع المراسلات لما تكشف من جوانب خفية في نفوس المتراسلين. إلا أننا هنا أمام نوع جديد من الكتابة عن الذات.
نشر الكفراوي كتابه »‬حكايات ناس طيبين» سنة 2006. والآن يأتي إلينا بكتاب ”حكايات من دفتر الأحوال“. يقول سعيد الكفراوي إن هذا الكتاب هو الجزء الثاني من ”حكايات ناس طيبين“ يقدم فيه تأملًا إبداعيًا لعلاقات ربطته بشخصيات كانت تصنع الحدث في السياسة والأدب والفن والحياة بشكل عام، مثل جمال عبد الناصر والسادات، وشعراء مثل عفيفي مطر. وأنه يتمني أن يجيب هذا الكتاب علي بعض الأسئلة في الثقافة المصرية ويفتح طريقا أمام تخييل الأدب الحديث.
وسأحاول أن أستشف بعض الإجابات التي يطرحها صاحب الحكايات عن الأدب والتخييل.
في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كنت أري أن العمل الأدبي لا يمثل صاحبه بطريقة مباشرة، أي أنه لاينبع من حياته الشخصية فالأدب عالم مواز لعالم الواقع وليس هو، والعلاقة بين الأدب والواقع علاقة استعارية. وأن الأدب يصدر من مخيلة الفنان التي تولد الصور والأفكار والمشاعر والشخصيات التي لا توجد في عالم الواقع.
ربما لم أكن مخطئة في ذلك الزمان. إلا أن الأمور تغيرت والعوالم أخذت في التلاحم والاختلاط. فاليوم نسمع عن واقع افتراضي virtual reality، ونستطيع أن نختزن في ذاكرة هواتفنا صورا من سنين فاتت وانقضت. وأصبح الأدب يغترف مادته من الحياة اليومية المعيشة. وينظر كل شخص إلي نفسه علي أنه يصلح بطلا لرواية أو قصة.
ظهرت أنواع جديدة من الكتابة حيث يخلط الكاتب متعمدا الواقع والخيال بحيث يكتب نوعا من السيرة الذاتية يشطح فيها خارح أسوار الواقع إلي عوالم أخري، بحيث يحتار القاري بين ما هو حقيقي وما هو مزيف. وأطلق الفرنسيون علي هذا النوع من الكتابة مصطلح autofiction .
اقتحم الواقع فضاء الأدب وبدأ الفنان يغترف مادة الكتابة من تجاربه الحياتية المعيشة. وفي حديث لجريدة الشرق الأوسط يقول ابراهيم أصلان للمحرر في سنة 2002 أنه أودع في مطبعة دار الهلال الجزء الأول من كتابه الجديد تحت عنوان ”خلوة الغلبان“. وهي مجموعة من الكتب التي وضعها تحت عنوان شامل هو ”من دفتر الأحوال“.
يقول إبراهيم أصلان: ”من دفتر الأحوال“ هو العنوان الذي أكتب تحته المشاهد التي أرويها في جريدة الحياة، و”خلوة الغلبان“ هو الجزء الأول من هذه التجربة الجديدة التي قررت أن أجمع فيها بعض ما كتبته من مشاهد في دفتر الأحوال عبر تقنيات فنية تتراوح بين القص والسيرة والريبورتاج وكلها عن وقائع حقيقية تماما.‬ ..... أما الأجزاء الاخري فبعضها سأتناول فيه موضوع الكتابة ومشكلاتها، وجزء آخر سأخصصه لتعليقاتي وقراءاتي لبعض الكتب.‬
وأفاض أصلان في حديثه كيف يري أن هذا النوع من الكتابة يختلف عن الطريقة التقليدية للكتابة القصصية: ”خلوة الغلبان“ تجربة فنية جديدة تماما تتضمن خمسة وعشرين مشهدا، كل مشهد يدور حول شخصية أو شخصيات معروفة، من خلال لقائي معها، لتقديم حالة إنسانية وفنية جديدة أيضا في شكل قصصي جديد يمكنني من كتابة رأي أو تعليق خاص بي نحو الأحداث والوقائع والشخصيات، وهوالأمر الذي لا يتيحه الشكل القصصي التقليدي، فالشكل الجديد يمنحني حرية أكبر في الكتابة عن شخصيات معاصرة ومعروفة، وواقع نعيشه، وهذه التجربة تنفي ما يقوله الكثيرون من أن مخيلة الكاتب تتوقف علي تخيل الأحداث وابتكار الشخصيات، وكنت أري أن القص لا يتوقف علي طبيعة المادة المقدمة إن كانت واقعية أم متخيلة، وإنما علي كيفية التعامل معها. وتجربة »‬خلوة الغلبان» تؤكد أن المخيلة تتحقق بنائيا، من خلال الطريقة التي يتناول بها الكاتب الأحداث وليس علي طبيعة الأحداث نفسها، وعنوان »‬دفتر الأحوال» اخترته ليدل علي اعتمادي علي الاحداث والوقائع الواقعية المعاصرة.‬
أتوقف برهة أمام هذه العبارة: »‬دفتر الأحوال»؟
نجد دفتر أحوال في كل المؤسسات والمصالح والأوقاف والجامعات والنقابات وباقي تجمعات المجتمع. فيسجل المسؤول في دفتر الأحول كل ما يحدث يوميا. وتكمن أهمية هذه الدفاتر في إثبات وقوع الحدث إذ تمثل دليلا قاطعا يتقدم به المتضرر إلي المحكمة إذا ما تعرض للمساءلة.
فمن هذا التعريف يمكن القول إن »‬دفتر الأحوال» هو سجل للحياة الاجتماعية اليومية للمجتمع المصري ككل في حياته اليومية. وبالإضافة إلي أنها تسجل الواقع فإنها أيضا تلتزم الحقيقة، ويعاقب المسئول في حال تزوير بعض الحقائق.
فهل نفهم من كلام ابراهيم أصلان أنه كان يسجل في دفاتر لديه كل ما يقع له من أحداث؟ وأنه استلهم كتابات جديدة من هذه الدفاتر وحولها إلي نصوص فنية وكيف فعل ذلك؟
اشتهر بعض الكتاب مثل لويس كارول وفيرجينيا وولف بتسجيل يومياتهم بشكل كرونولوجي وذاع صيت هذه اليوميات ونشرت كما كتبت. هل فعل ذلك إبراهيم أصلان وسعيد الكفراوي؟ .. أم اختزنوا تجاربهم في الذاكرة وأخذوا يغترفون منها؟
يقول سعيد الكفراوي إن »‬حكايات من دفتر الأحوال» هو الجزء الثاني لكتاب ”حكايات ناس طيبين“. بعد مرور عشر سنوات علي نشر الجزء الأول، ويختلف في كتابه هذا عن السابق. لا ينظر إلي الأمام لاستبشار المستقبل ولكنه يستبصر الماضي. و يشعر أنه خارج الزمن وتمر أمامه مشاهد متعددة.
يختلف الكفراوي في كتابه هذا عن السابق“حكايات ناس طيبين“ يري نفسه - وقد وهن العظم واشتعل الرأس شيبا - مثل الرجل العجوز واقفا علي الجبل يتأمل المدينة القديمة التي تمتد أمامه. إنه مثل زرقاء اليمامة ولكنه لا ينظر إلي الأمام لاستبشار المستقبل ولكنه يستبصر الماضي. و يشعر أنه خارج الزمن وتمر أمامه مشاهد متعددة.
من أين تيدأ الحكاية؟.
هذا كتاب يحتوي علي مائتين وتسعين صفحة تنقسم إلي خمسة وخمسين مشهدا.
ليس غريبا والأمر كذلك أن يبدأ الكفراوي كتابه بتاريخ زلزل كيان الأمة العربية وهو 11نوفمبر سنة 1977 عندما أعلن السادات أنه عزم علي الذهاب إلي تل أبيب. ... ”مر علي هذا الإعلان أربعون سنة ولكنه غير من طبيعة الأيام ... فباخت الدنيا في سنواتها الأخيرة اتسمت أحوالها بقلة القيمة“.
الكفراوي ليس مؤرخا. لكنه من طراز الحكائين الملهمين فتتحول الأحداث التاريخية إلي حكاية. حكاية الفلاح الغلبان مطاوع عبد الصبور أبو العزايم الذي أرسل إلي الرئيس برقية ملغزة يعلنه أن لديه أسرارا خطيرة تخص أمن الدولة وأمنه هو شخصيا. و تكرر إرسال البرقيات رغم مساءلة مطاوع من جهات رسمية، حتي قابله الرئيس في النهاية. وعندما سأله عن هذه الأسرار أباح له الفلاح: ” يا ريس أنا جاي أقلك ماتصالحش اليهود، اليهود لأ يا ريس“.
”وغاب مطاوع بعد ذلك، ومن يومها لا نعرف أين راح.“.
وإذا كان الكفراوي في هذا المدخل يلجأ إلي الأسلوب القصصي التقليدي فإنه يتركه ليدخل من باب الواقع، عندما كان يعمل محاسبا في بلد عربي، وحاول نشر قصته وهو يعلم أن السادات عايش وعيون الأمن مفتحة فأرسل القصة إلي مجلة »‬الحوادث» اللبنانية التي نشرت القصة وذاع صيتها حتي وصلت إلي السادات نفسه الذي قرأها وهاج »‬مثل قط قفل علي ذيله باب».. ولم يعد الكفراوي إلي مصر كما نصحه استاذ في قسم اللغة العربية حيث كانت تدرس حرم الرئيس.
نجد في هذا المشهد تضافرا بين الواقع وهو طريقة كتابة القصة وملابسات نشرها، والتخييل وهو القصة نفسها مصوغة وسط الكلام عن الواقع مثل اللؤلؤة في الخاتم. وأري في هذا الأسلوب تجديدا واضحا في الكتابة الأدبية، فلم يعبر الكفراوي عن سخطه تجاه التطبيع بطريقة مباشرة ولكنه احتال ووضعه علي لسان الفلاح الغلبان ومن هنا نستشف أن الفلاح هو الشعب المصري وجاء اختيار الاسم مطاوع عبد الصبور ابو العزايم نبراسا لهذا الشعب المطيع الصبور الذي لا يخلو من عزيمة.
يمكن تقسيم الكتاب إلي مشاهد تختلف بعضها عن البعض ولكن في النهاية يمثل نسيجها كنه الذات التي تتكلم. ذات الإنسان ليست حقيقة ثابتة يولد بها وتصاحبه طوال حياته سواء قصرت أو طالت. الذات هي محصلة التجارب الحسية والنفسية، والإدراكات الجسدية والروحية التي تتراكم في أعماق الوعي. فيطفو بعضها علي السطح ويغوص البعض الآخر في أعماق اللاوعي. وفي هذا الكتاب يقدم صاحبه بعض ما خبره في حياته.
واستطعت أن أقسم هذه التجارب إلي حزم متشابهة بحيث في النهاية ننتهي إلي معرفة من هو سعيد الكفراوي وما هي التجارب الفاصلة التي طفت علي سطح تيار الوعي المتدفق.
لست من علماء النفس حيث أستطيع الحديث عن آليات تخزين الذكريات، والطرق التي يلجأ إليها الشخص لتخزين المعلومات وتنسيقها في الخلايا العصبية في المخ ثم استدعاؤها عند اللزوم ولكنني سأكتفي يتقديم الأقسام المختلفة من المشاهد لاستكناه طريقة الكتابة التي ينتهجها الكفراوي في كتابه.
يتمحور هذا الكتاب حول ذات الكاتب، والذات هي في النهاية مجموع الخبرات التي مر بها في حياته. ويريد الكفراوي أن يشارك القارئ هذه الخبرات. يمر الزمن مثل نهر متدفق حاملا معه هذه الخبرات فيختلط الماضي بالحاضر وباستشراف المستقبل. لم ينظم الكفراوي كتابه تنظيما منهجيا ولكنه ترك هواه يذهب به أي مذهب. فلا ننتقل من حكاية إلي أخري لسبب منطقي، بل يترك العنان لنفسه كيفما تشاء. وهذا ما يحدث لنا جميعا عندما نترك لأفكارنا حرية الانطلاق في فضاء حياتنا النفسية فننتقل من موضوع إلي آخر دون مبرر.
نجد خطين واضحين يوجهان مسير تفكيره، الأول هو الفرق الشاسع بين الماضي والحاضر، كما يراه. فالماضي كان جميلا مشرقا مليئا بالآمال، وكانت القاهرة مدينة الأفراح والليالي الملاح. أما الحاضر فأصبح كل شيء حطاما وأثمالا. أما الخط الثاني فيخص طريقة تمثيل واقع الخبرات عن طريق الحكي لا عن طريق تقديم أفكار مجردة أو تحليل أسباب الانهيار الذي ألم بالحياة في هذه المدينة التي يتأملها العجوز القابع علي الجبل.
ولكي تتضح الصورة أمامي صنفت الحكايات حسب محاور أساسية تتداخل في شكل دوائر متمركزة: تحتل الذات المتكلمة النواة التي تنطلق منها الدوائر، مثل حجر نقذف به في البحيرة يحدث دوائر تأخذ في الاتساع.
نعيش جميعا في فضاءات تتلامس، بل تتداخل من الأعم إلي الأخص. الأعم هو الحياة السياسية التي تظلل حياة جميع المواطنين، ثم تأتي الحياة الاجتماعية بمستوياتها العملية والاجتماعية والأسرية، ثم تأتي الحياة الفردية بكل ما يخص الفرد من أنشطة مختلفة جسدية ونفسية ثم يأتي في النهاية اللاوعي، الذي يغوص عميقا ويحوي كل هذا.
وجدت كل هذه الفضاءات في كتاب الكفراوي ، حكايات عن السادات وعبد الناصر، ولكن هذا الفضاء متقلص. لم يشغل مساحة نصية مهمة. فلم آخد سوي قصتين فقط من هذه الدائرة،
أما الدائرة الثانية، وهي الدائرة الاجتماعية، فشغلت مساحة كبيرة. كانت لسعيد الكفراوي مجموعة كبيرة من الأصدقاء. بعضهم صاحبه مشوار حياته، وبعضهم تركوه ورحلوا عن هذه الدنيا. ترك هذا الفراق ألما وحزنا عميقا في نفسه. يعرف سعيد الكفراوي كيف يحب الناس وكيف يألفهم وكيف يمزج خيوط حياتهم بحياته؛ بحيث انتزعت وفاتهم جزءا من ذاته. ومن هؤلاء ابراهيم أصلان، سليمان فياض، إدوار الخراط، عبد الغفار مكاوي، عبد الفتاح كليطو ،الحاج عبد الودود الانجليزي الشهير بدنيس. وتوأمه الروحي محمد عفيفي مطر.
تنرف حكايات هؤلاء الناس بالأسي والحزن، لا لأن بعضهم وافته المنية فحسب، بل هم أناس مختلفون لا يلهثون وراء الشهرة والجاه. تظهر في اختيار الكفراوي لناسه قيمه الإنسانية. فمثلا عندما يحكي عن عبد الغفار مكاوي يعنون قصته ”أن تعرف كيف تكون وحيدا“. كان مكاوي من أكثر المثقفين المصريين علما، وأعمقهم معرفة، ورغم ذلك ظل منزويا لا يتحدث عنه أحد ولا يسعي وراء الأنوار والحفلات والجوائز. كذلك كان كليطو وأصلان والخراط. يلمع هؤلاء الناس بنور داخلي يجذب إليهم الشرفاء والأصلاء ويتصف إنتاجهم بأصالة لا توجد عند غيرهم من النجوم التي تجوب صالونات المجتمع.
يتفق الكفراوي هنا مع يحيي حقي. إذ يختار »‬الإنسان» لا »‬الفنان». اختيار »‬الصديق» لا اختيار »‬الناقد». أو كما أحسن يحيي حقي القول في اختيار »‬أهل بيتي»، في مقدمته لكتابه عطر الأحباب حيث يقول :
»‬أهل بيتي هذا لم يسكنه إلا الذين أحببتهم واحدا واحدا جذبني الإنسان فيهم قبل الفنان لم أتحدث عنهم حديث ناقد بل حديث صديق يسعدني أنهم اجتمعوا تحت سقف بيتي وأنني فيما أرجو وفيت لبعضهم بحق كان منسيا. إنني أتمسح بأردانهم لشم عطر الأحباب»
يحيي حقي، مقدمة كتاب »‬عطر الأحباب»
تأتي بعد دائرة الناس الطيبين دائرة الكتب. لكل كتاب حكاية ومكتبة الكفراوي مكتبة عالمية، وما أروعها. نجوب معه آفاق العالم من شرقه إلي غربه وإذا كان هذا الكتاب عن الواقع أي عن خبرات الكاتب الحياتية فمكتبته عالم مواز لعالم الواقع ينطلق في أرجائه باحثا عن معان جديدة وخبرات لم يقابلها في حياته.
غمرتني حكاية سور الأزبكية بفيض من الحنين إلي شبابي عندما كنت طالبة في الجامعة وننطلق أنا وصاحباتي إلي سور الأزبكية بحثا عن كتب نحتاجها لدراستنا، أو لمجرد النبش في الصفوف المتراصة التي تنادينا. وأذكر عدد الكتب التي اشتريناها بقروش قليلة نتندر اليوم عندما نقارنها بأسعار الكتب اليوم بعد ما يزيد علي نصف قرن! وكم هو محق الكفراوي في قوله إننا تربينا علي هذه المكتبة، ويدهشني اليوم أن أذكر أن عددا كبيرا من الكتب المعروضة كانت كتبا أجنبية.
عرفت مصر الأدب العالمي منذ بداية القرن العشرين، ولم تكن مصر وحدها من بلاد الشرق التي عكفت علي استكشاف آداب عوالم أخري. ففي مقالة جميلة يحكي اميتاف جوش عن مكتبة جده التي جمعت مجلدات من العالم أجمع بالإضافة إلي الأدب البنجالي الذي كتب بلغته الأم. وكان هذا هو الوضع في جميع البلاد الآسيوية. لقد قرأنا الأدب الروسي وأعلمني الكفراوي أنه قرأ كل ما ترجم من تشيكوف. لم يكن هذا الجيل يعرف اللغات الأجنبية باستثناء إدوار الخراط الذي كان يجيد الفرنسية والانجليزية. إلا أن أن عددا كبيرا من الأعمال الأجنبية ترجمت إلي العربية. التهم الكفراوي كل هذه الذخيرة التي ساعدت في تكوين ملكته الفنية، لا تستطيع حضارة أن تنمو في فراع فلا بد من أن تستعير بعض العناصر من ثقافات مجاورة. فالفن عالمي بطبيعته. ولا يوجد شعب لم يعرف الشعر أو الغناء أو الموسيقي أو الرقص.
يقف علي رأس القائمة جونتر جراس الذي خصص له الكفراوي حكايتين، الأولي عن »‬الطبل الصفيح»، وشخصيته الرئيسية الطفل أوسكار الذي أحجم عن النمو لأنه لا يريد الحياة في هذا العالم البائس، عالم النازية. أما الحكاية الثانية فهي مرثية لجونتر جراس. عرف جونتر جراس بمناهضة النظام الناري و كان يدافع عن المظلومين والمضطهدين، وكان السؤال الذي يؤرقه هو لماذا سكت الشعب الألماني أمام فظائع النازية. غير أنه ظل محتفظا في داخله بسر لم يفشه إلا قبل وفاته بشهور وهو أنه كان من بين الشباب الذي التحق بجماعة »‬شبيبة هتلر» التنظيم الذي حول جيلا كاملا من الشباب إلي نازيين. واعتذر جراس عن هذه الواقعة بأن عمره لم يتجاوز السابعة عشرة وقتها، وأنه لم يكن يعي خطورة النازية في هذا الوقت. وفي سنة 2012، أي ثلاث سنوات قبل وفاته عن عمر يناهز السابعة والثمانين، نشر جراس قصيدة بعنوان »‬ما يجب أن يقال» هاجم فيها توجه الغرب نحو الحرب مدافعا عن إيران وحق الفلسطينيين في الحياة. ربما أراد جراس بهذه القصيدة جلد الذات عما فعل في شبابه.
نجد في مكتبة الكفراوي نماذج من الأدب التركي والياباني والإيطالي، والإيراني والأسباني والدانمركي والكندي والفرنسي والبرتغالي، وتظهر في هذه الحكايات ملكة فريدة لدي الكفراوي في فهم أعماق كل كاتب من هؤلاء الكتاب وما يميزه عن غيره من الصفات. هذه هي قراءة الفنان للفن، لا يهمه تقنيات الكتابة، ولكن يهمه كيف يستطيع الكاتب أن يغوص في أعماق الكيان الإنساني.
لن أستفيض في تقديم كل الحكايات ويكفي فقط أن أخط بعض السطور عن ألغز شاعر ربما عرفه الأدب الأوربي، هو فيرناندو بيسوا ( 1888-1935). لم يعرف الأدب العالمي شاعرا مثل بيسووا.. لم ينشر بيسوا من أعماله أثناء حياته سوي قليل من القصائد في مجلات أدبية. أما ما كان يكتبه فقد كان يودعه حقيبة منزوية في أحد أركان بيته. اكتشفت هذه الحقيبة بعد وفاته وهي تحوي أكثر من 2500 مخطوط عن موضوعات مختلفة منها الشعر، الفلسفة، النقد وبعض الترجمات والمسرحيات، وهي اليوم محفوظة في مكتبة لشبونة الوطنية ضمن ما يعرف ب»‬أرشيف (بيسوا)». كما تحتوي علي ترجمات لبدلائه؟ لأبداله. اشتهر بيسوا بما ابتكر من أدباء بدلاء، وقد وصل عددهم إلي ما يقرب من 80 شخصا. اخترع بيسوا هؤلاء البدلاء ومنح كل منهم اسما، وميز آراء كل منهم سياسيا وفلسفيا ودينيا. وقام بالكتابة أو الترجمة أو النقد الأدبي علي لسان كل منهم، ومن منطلق الشخصية التي اختارها له. أشهر بدلائه: ألبرتو كاييرو، ريكاردو رييس، ألفاردو دي كامبوس. وبالإضافة إلي دواوين هؤلاء البدلاء، ظل بيسوا يعمل طوال حياته علي العمل الوحيد الدي نسبه إلي نفسه وهو كتاب »‬اللاطمأنينة»، الذي جاء في شكل قصاصات، ومقطوعات متفرقة. واجه الباحثون صعوبات جمة، في تنظيم كل هذه القصاصات، عند محاولة نشره. ولم تظهر أول طبعة لأجزاء من الكتاب سوي سنة 1960، ولم يكتمل سوي سنة 1985، وترجمه إلي العربية المحمدي أخريف سنة 2005.
أترك الآن مكتبة سعيد الكفراوي لأغوص إلي أعماق الدائرة الأقرب إلي كنه الذات وهي حوار الذات مع نفسها، ومن هذه التأملات حكاية ”النعوش العائمة“ وهي عن الشباب الذين يتركون بلادهم مهاجرين إلي شواطئ بعيدة لن يتمكنوا من الوصول إليها. بل ينتهي بهم المآل إلي أعماق البحار التي تبتلع شبابهم.
لايسعني أن أنهي عرضي دون ذكر حكاية مزقت أحشائي وهي قصة »‬قصر علي النيل». قصر توفيق باشا اندراوس أحد أثرياء الأقباط الوطنيين وأحد أعلام »‬الوفد». بني لنفسه قصرا علي شاطئ النيل في الأقصر. كان لتوفيق باشا خمسة أنجال: جميل وأربع بنات، جميلة وسميحة وصوفي ولودي. أنا لي خبرة لا يعرفها الكفراوي. إذ إني زاملت بنات توفيق باشا في مدرسة القلب المقدس. في ذات يوم وأنا اتنزه في عربة حنطور في زيارة للأقصر، مررنا أمام القصر. سمعت صوتا مدويا يناديني: »‬سيزا سيزا»، كانت صوفي ولودي تستنشقان نسيم العصر علي شرفة القصر! كيف تعرفتا علي بعد كل هذه السنوات ؟!. علي أي حال أمضينا معا وقتا ممتعا. ثم غادرت الأقصر في اليوم التالي. لم أسمع عنهما إلا عندما وقعت الكارثة.
لن أقص عليكم حكاية بنات توفيق باشا اندراوس. أترك هذه المهمة الثقيلة لسعيد الكفراوي، ولكن الذي أريد أن أذكره هنا هو الطريقة البشعة التي توفيت بها صوفي ولودي. كانت هذه الأسرة من أعيان الصعيد، علي علاقة طيبة بالمحافظ وكبار ضباط الأمن. كانوا يغدقون علي الفقراء، بنوا المساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات، فهل يعقل أن يتسلل إلي القصر، الذي كانت تقطن فيه لودي وصوفي بمفردهما مجرمون أجهزوا علي هاتين السيدتين الهرمتين ويذبحوهما ويتركوا جثتين هامدتين علي سلم القصر؟!. هل هذه هي مصر الرؤوفة بشيوخها، المعتزة بأهلها، هل هي مصر الآمنة التي تترك أطفالها يمرحون في الشوارع؟ هل هي مصر التي تعترف بالمعروف لرجل باع أرضه لينقذ حزب الوفد؟.
القاهرة في 15 أبريل 2018


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.