حين كتب ألبير كامو (1913-1960) روايته الأشهر الغريب(1942) لم يكن يقدم نصًا أدبيًا جديدًا لقارئ منهك من ويلات الحرب الكبري (1939-1945)، بل كان يحرك مياهًا ثابتة في اتجاه آخر مغاير. كأن كامو أبي أن يكون جزءأ من منتجات التضميد أو المؤازرة، ليسير في طريق مختلف تشكّل بتتابع خطواته. تمثل رواية الغريب بالنسبة له جزءًا من مشروع أكثر اتساعًا، شرحه وفصّله لاحقًا في كلمته التي ألقاها بمناسبة فوزه بجائزة نوبل للآداب عام (1957): » كانت لدي خطة محددة حين بدأت الكتابة: أردت أولًا التعبير عن العدم من خلال ثلاثة أشكال أدبية: روائيًا: الغريب، مسرحيًا: كاليجولا، فكريًا: اسطورة سيزيف.» لذلك تخطت رواية الغريب كونها مجرد عملًا أدبيًا مميزًا، تمثل حجر الزاوية في مشروع فكري طموح لصاحبه. عمَد فيه إلي استخدام وسيط اللغة بشكل جديد يساير فكره ويخدمه؛ فجاءت الألفاظ ذات استخدام »خاص»، والعبارات قصيرة وفي حدها الأدني، أما الأسلوب فكان »اللااسلوب» إذا جاز التعبير. وهنا نتذكر بالطبع تعبير »الكتابة البيضاء» الذي أسسه رولاند بارت في كتابه »الدرجة صفر من الكتابة» (1953) ليصف به التقشف الأسلوبي في أدب ما بعد الحرب العالمية الثانية. رأي بعض كتاب سنوات الاربعينات في فرنسا أنهم لم يعودوا يستطيعون الكتابة بعد وقوع الحرب كما كانوا يكتبون قبلها، فقرروا تجاوز كل القواعد التقليدية للرواية وتمثل ذلك في رفض التحليل النفسي والواقعية الوصفية، فولد أدب العبث وسط هذا السياق؛ جاءت كلمة عبث Absurde من اللفظ اللاتيني Absurdus والتي تعني متنافر وتمثل رواية الغريب المثال الأبرز لهذا التيار. من أبرزالاختيارات اللغوية » الخاصة» عند كامو ما بدأ به نصه الأشهر ؛ كلمة »ماما» يليها فعل » ماتت» وهي الترجمة المباشرة للعبارة الفرنسية Maman est morte . لم يكن قد سبقه أحد بين كتاب الأدب الفرنسي إلي استخدام كلمة ماما في نص روائي رصين وآثار استخدام الكلمة حينها وسط الانتلجنسيا الفرنسية جدلاً واسع النطاق. وإذا انتقلنا إلي التفكير في ترجمة هذا اللفظ إلي العربية فإننا نشهد صعوبة بالغة تقابل المترجم، فكلمة »ماما» تمثل تحديا للمترجم العربي لأهميتها السياقية. اختار كامو استخدام هذا اللفظ تحديدًا منذ السطر الاول للرواية ليبرز الأثر الحميم في العلاقة بين الابن والأم وليؤكد علي الاستخدام اللغوي الطفولي عند مورسو، بطل الرواية، وتجلت هذه السمة في مواقع عدة من الرواية. إذن فلفظ »أمي» ولفظ »ماما» لا يقدمان التأثير ذاته أو المحتوي ذاته للقاريء باللغة الفرنسية. وهو نفس الشيء بالنسبة للقاريء باللغة العربية، فلا يمكن أن يكون تأثير الكلمتين واحد. هنا يستوقفنا أن أحدًا من المترجمين الكبار الذين تصدوا لترجمة الرواية لم يفكر في ترجمة اللفظ بالعربية إلي »ماما» وانحازوا جميعًا إلي خيانة النص واختيار لفظ »أمي». عادة ما يميل المترجمون عند ترجمة النصوص الأساسية للكتاب الكبار إلي الاحترام المبالغ فيه للنص الأصلي شكلًا وموضوعًا والمفارق هنا أن المترجمين جميعًا خانوا نصًا تأسيسيًا لأحد أشهر الكتاب والمفكرين بمنتهي الأريحية. يجذبنا في هذا المقام الاعتراف بقدسية اللغة العربية ودلالاتها عند معظم المثقفين العرب وبينهم المترجمون بالطبع؛ فكلمة »أمي» ذات سطوة نفسية واجتماعية يشقّ مواجهتها، بينما للفظ »ماما» كلام آخر. إذ تحمل كلمة أمي احترامًا يشعر به من ينطقها ومن يسمعها واعلاء من شأن تلك الأم، بينما للفظ »ماما» زوايا أخري لتقييمها؛ فاللفظ يعد لغة عامية بحتة، بل إن معظم الذكور البالغون لا يستخدمونه في بعض الأوساط الاجتماعية علي اعتبار انه يحمل ملمح عدم نضوج أو طفولة. ينتمي اللفظ في الاساس إلي الطبقة المتوسطة او ما يطلق عليه »البرجوازية»، وبالتالي لا يستخدمه، في أغلب الأحيان، الطبقات الريفية أو الشعبية إذ يرونه لفظ »سنوب»، بينما يتوحد الجميع في الشعور بكلمة »أمي». تحمل كلمة »أمي» قدرًا من الرسمية لا تتسم به كلمة »ماما»، وينطوي لفظ »ماما» علي درجة من القرب والاندماج لا يبثه، بنفس القدر، لفظ »أمي». آثر مترجمو »الغريب» السلامة تجنبًا لإحداث مشاعر رفض أو استغراب، في أقل تقدير، لنصوصهم المترجمة فأغفلوا المشروع الأساسي للمؤلف صاحب النص الذي كان يقصد باختياره وضع القاريء في تلك الحالة المراوحة بين الاستغراب والتقبل. الاستغراب الناتج من اتهام البطل بقتل امه بعد أن تعرفنا علي العلاقة بينهما منذ السطر الأول باعتبارها علاقة خاصة جدًا. والتقبل حين تتابع سطور الحوار والسرد ونكتشف أن اللغة عند البطل هي بتلك البساطة دائمًا دون علاقة مؤكدة مع الحميمية أو غيرها. عادة ما يجنح المترجم إلي ترجمة نص تمت ترجمته من قبل لاستشعاره بنقائص معينة في الترجمة السابقة ويري في نفسه أنه يستطيع أن يكمل ويقدم جديدا. والمثير في الأمر أن التصدي لكلمة »ماما» وتقديمها كما هي كان تحديًا أكبر من تجاوزه عند ثلاثة عشر مترجمًا أدبيًا محترفًا، علي الأقل، عاشوا في فترة زمنية تقترب من ستين عامًا فيما بين سنوات الخمسينات وحتي عام 2013، ولم تؤد عناصر متفاوتة مثل الفترات التاريخية المختلفة التي ظهرت بها الترجمات، التكوين المعرفي المختلف بالضرورة للمترجمين، جنسياتهم العربية المختلفة أو عمر كل منهم وخبرته عند انجاز ترجماتهم في انتاج اختيار مختلف. ربما علينا ببعض المغامرة وشق طرق جديدة ولو صغيرة لأن الطرق المعتادة باتت تفتقر إلي الإدهاش ولأن »ماما» ليست »أمي».