مجنون من يفكر في هذا الزمن أن يعيد إنتاج قصص الفساد، فالعيون مفتوحة والأجهزة الرقابية لا تنام، والرقابة الإدارية لا تترك صغيرة أو كبيرة إلا وفحصتها، وأصبحت بالفعل حارساً أميناً علي المال العام، ويسطر رجالها كل يوم انتصاراً جديداً، لصالح الشفافية والحفاظ علي أموال الشعب، والضرب علي أيدي الفاسدين، والوصول إليهم أياً كانت حيلهم ومراكزهم ونفوذهم. الرقابة الإدارية عيون ساهرة في كل موقع، ولا تعلن عن كثير من القضايا التي يتم ضبطها، حتي لا تحدث ردود أفعال سلبية من المتربصين بمصر، ويشيعون أنها تعوم فوق بحيرة من الفساد، رغم أن المعني الحاسم، هو جدية الدولة وعزمها الأكيد في ضبط إيقاع الأداء الحكومي، وإعلاء قيم النزاهة والشفافية، وتثبيت قدسية المال العام، وتحريم المساس به بأي صورة من الصور، نظام لا يحمي فاسدا ولا يتستر علي فساد، ولا يغمض عينيه عن حماية أموال الشعب. الرقابة الإدارية لا تعمل بمعايير سياسية، وليس لها مواسم لضبط القضايا، ولا يهمها أن يكون الفاسد وزيراً أو مسئولاً كبيراً، أو رجل أعمال أو صاحب سلطة وسطوة ونفوذ، ولا تتأثر بضغوط سياسية أو مراكز اجتماعية، وتعمل بمنظومة العدالة معصوبة العينين، بالأدلة القاطعة وعدالة التحقيقات، والنزاهة القانونية، وجدية الإجراءات وسلامتها. كان من الطبيعي أن تتراجع قضايا الفساد، في ظل نظام حكم أكد بالأدلة القاطعة، استراتيجيته الثابتة في الحرب ضد الفساد، فلا حماية ولا إدانة لأحد إلا بالقانون، وتحت مظلة العدالة الناجزة، التي لا تظلم ولا تجور ولا تأخذ الناس بالشبهات، فقد انتهي عصر الدولة البوليسية، وأوامر الحبس الموقعة سلفاً، وتكييف الإجراءات القانونية وفق الأهواء السياسية والابتزاز القانوني. أصبحت الرقابة الإدارية صاحبة سمعة طيبة، وأزاحت عن كاهل الأجهزة الرقابية في العهود الماضية، موروثات من الممارسات السيئة التي جعلتها مكروهة من الرأي العام، ولم يعد رجالها ينتمون لفئة المخبرين التقليديين الذين نشاهدهم في الأفلام السينمائية، بالبالطو الأسود والنظارة السميكة والجورنال المخروم، بل شباب علي أعلي درجات التعليم والتدريب والدراية والخبرة والكفاءة، ويعتمدون علي أحدث الوسائل العلمية والتكنولوجية في التحري والضبط وإجراءات التحقيق، ويحصلون علي دورات تدريبية علي أعلي مستوي، تجعلهم يديرون أخطر القضايا والملفات، بمنتهي الحكمة والبراعة والهدوء، وأصبحت كلمة الرقابة الإدارية، دليلاً دامغاً علي الثقة والمصداقية. مجنون من يفكر في هذا الزمن أن يكون مرتشياً أو متربحاً، فالمال الحرام يتحول إلي نار، تحرق صاحبه دون رحمة، ولا تساوي أموال الدنيا، فالكنوز لا تأتي شيئاً بجانب السجن والبهدلة والتجريس، ولا ندري ماذا جنت نائبة محافظ الإسكندرية - مثلاً - غير صورتها وأخبارها في صفحات الحوادث، مع القتلة والمجرمين والمشبوهين، تحت عنوان »الفاسدة» وغيرها من أوصاف تمضي في الرقاب كالسكين، ماذا جنت غير خراب بيتها وتشريد أسرتها والعار لأولادها، وهل تساوي كنوز الدنيا أن تحرم أسرتها من رعايتها في أيام طيبة ومواسم وأعياد ورمضان علي الأبواب. الظروف التي مرت بها البلاد بعد 25 يناير كانت تحتم أن يمشي الجميع علي الصراط المستقيم، بعد أن تطايرت رؤوس وفُتحت ملفات وانكشفت ثروات، وساد الخوف والرعب كل من طاردته شبهات الثراء الحرام، وسُلطت السيوف علي الرقاب، ومن لم يتعظ إما أبله أو فاقد الوعي، ومن لم يتعظ من الدرس يستحق ما يجري له، ومن يمضي بقية عمره في السجن تحت رحمة السجان والزنزانة والقضبان، سيدرك بعد فوات الأوان أن الكفن بالفعل ليس له جيوب، وأن الأموال التي اقتنصها حراماً، لم تأت له إلا بالخراب والدمار. شكراً للرقابة الإدارية، ولكل من يرعي الله في أموال الشعب، التي ينفق منها علي الدواء ورغيف العيش، والعار لكل مرتشٍ آثم امتلأ كرشه بالمال الحرام، حتي انفجر في وجهه وحياته وعائلته وأسرته، فلن يجد شيئاً يورثه إلا ليالي السجن الطويلة، ودموع الحسرة والندم، في وقت لا تنفع فيه حسرة ولا يجدي فيه ندم.