ثورة 25 يناير هي إعلان كبير حجمه طول الوطن وعرضه يقول مضمونه ببساطة " إن الشعب المصري سوف يعاود نشاطه الرئيسي وعمله الأساسي وهو صنع التاريخ " لقد عرف المصريون قيمة الأعباء الملقاة على عواتقهم فصنعوا تاريخهم بأيديهم من جديد ، وكتبوا صفحات مجدهم بمداد الفخار في سجل الخالدبن ليقرأها الزمن، ولترددها الأجيال ز وقد تقدمتهم طليعة ثائرة ، عاشوا لغيرهم لا لأنفسهم وعملوا لوطنهم لا لولادهم ، وغرسوا شجرة السعادة باسقة عملاقة ؛ ليتفيأ ظلالها المصريون جميعا . وكانت ضريبة ذلك أن سهروا وغيرهم نائمون ووتعبوا وغيرهم ينعمون وجدّوا وغيرهم يلعبون ، عرفوا قيمة الرجولة والبطولة ، عرفوا أن قيادة الأمة وزعامة الشعب ليست بطونا تملأ وتتخم وأجسادا تتلذذ وتنعم ليست أموالا تسرق وتدخر ولا أراض تنهب وتحتكر ، ليست عائلات تفجر وتبطش ولا أسرا تسرف وتفحش ، ليست ألقابا تطن وترن ولا قصورا تطاول شرفاتها عنان السماء والشعب من وراء ذلك كله غارق في الأوحال والأوساخ تثقله المتاعب والمشكلات ويأكله الفقر والمرض ويزري به العري والجوع ويغمره البؤس والشقاء بينما زعماؤه المزورون يعانقون الاستبداد وينادمون الفساد ويأكلون السحت حتى لفظهم الشعب وكفرت بهم الأمة . إن الشعب المصري المبدع دائما أطلق في ميدان التحرير شعارا بسيطا وعبقريا في آن تجاوب صداه في المنامة وبنغازي وعدن وطهران، وفيه مطلب عامّ يعبّر أكثر من أيّ شعار آخر عن ضمير الإنسان العربي في كلّ مكان: "الشعب يريد إسقاط النظام". القسم الأول من الشعار "الشعب يريد" هو القسم الأهم، فحتّى 25 يناير 2011 لم تكن للشعب إرادة، بل كان مجرّد "شارع" يشارك في استطلاعات الرأي ، ويدعم المقاومة على الدوام ويكره إسرائيل وأمريكا والأنظمة الاستبدادية. ولكن هذه المرّة سنحت للشعب فرصة التعبير عن رأيه الحقيقي، فتكشف حجم معاناته على مرأى من العالم كله، واستطاع ان يعبر بثلاث كلمات مختصرة عن مطالبه الرئيسية " عيش ، حرية ، كرامة إنسانية " في هذه الثورة اكتشفنا وجه الشعب المصري، واتّضح لنا أنّه يتشكّل من شباب مثقّفين وشيوخ محنكين وعمّال وفلاحين، واجهوا نظامًا قمعيًا شرسًا، يستخدم مليون ونصف شرطي كلّ مهمّتهم هي قمع إرادة الشعب. وفي الوقت الذي فشل فيه تنظيم القاعدة في زعزعة النظام من خلال حركته الجهادية، تمكّن الشباب غير الحزبي والمسلّح بالفيسبوك والتويتر من إسقاط واحد من أكثر الأنظمة قمعا وفسادًا. يبين لنا ذلك أنّ السلاح القادر على إسقاط كلّ نظام مهما كان جبروته، هو الفكر والبرنامج وليس البندقية. إنّ ما يمتلكه شباب مصر وشيوخها وعمّالها وفلاحوها هو الرؤية التي استطاعت أن توحّد كلّ أفراد الطيف المصري؛ مسلمين ومسيحيين، عمّال وفلاحين، شباب وشيوخ وراء شعار "الديمقراطية والعدالة الاجتماعية". إن ثورة مصر المباركة أربكت إسرائيل إرباكا تاما ، فزوال مبارك لم يفقدها حليفًا هامًّا فحسب بل أفقدها كنزا استراتيجيا على حد تعبيرها ، علما بأن إقامة مجتمع ديمقراطي في مصر يغيّر كلّ المعادلات في المنطقة. لقد استندت "مقاومة اسرائيل " إلى الضعف الاجتماعي وإلى الفقر والتخلّف، وفي هذه الظروف لا يمكن الانتصار على دولة قوية مثل إسرائيل ، فالدولة ليست جيشًا فحسب، بل هي اقتصاد ومجتمع وثقافة وعلم ونظام مفتوح وديمقراطي. وهذا بالضبط ما تتطلّع إليه مصر: بناء نظام ديمقراطي يسمح باستنفاذ الطاقات المبدعة الكفيلة بإخراج مصر من البؤس الاجتماعي والأخلاقي والثقافي التي عاشته خلال ثلاثين عامًا كالحة. إن التحدّي الكبير أمام ثورة 25 يناير هو هل ستنجح في تحقيق شعارها الأساسي بعد سقوط النظام، وهو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية؟ فإذا اكتفت بالديمقراطية وتخلّت عن العدالة الاجتماعية فستبقى الثورة منقوصة وستفقد ثقة الجماهير بها. إنّ ما تمرّ به مصر ليس سوى إحدى أشدّ الأزمات التي يمرّ بها النظام الرأسمالي المتوحش في كلّ العالم. ولنا أن نستدعي باندهاش ما حدث أثناء الاعتصام العمّالي في ولاية ويسكونسين الأمريكية ضدّ حاكم الولاية الذي يسعى للحدّ من حقّ التمثيل النقابي للعاملين في القطاع العامّ، فقد حمل أحد العمّال لافتة كبيرة فيها صورة مبارك إلى جانب صورة حاكم الولاية وكلمة واحدة تجمعهما "دكتاتور" وتحت صورة مبارك مكتوب "هذا سقط" وتحت صورة حاكم الولاية الأمريكية "هذا سيسقط". لقد فتح سقوط مبارك الباب أمام الثورة الحقيقية ، فالقضية اليوم أكثر جذرية مما مضى ، إن القضية اليوم هي مواجهة الإقصاء و التهميش و الكبت بكل أشكاله، مواجهة مؤسسات القمع ، الفكري و الاجتماعي و السياسي.. إن تحريرنا كبشر لا بد أن يكون عبر تحطيم كل أشكال و مؤسسات القمع و الكبت و التهميش و الاستغلال و الاستلاب ، نقطة الصفر في هذه العملية التي ستستمر و ترتقي دون توقف إلى ما نهاية بالطبع طالما وجد البشر هي أن يمتلك الإنسان وسائل إنتاجه و أن يقرر مصيره بنفسه مباشرة ، لا توجد هنا أنصاف حلول أو أنصاف حرية أو أية أجزاء أخرى ، كل شيء أقل من هذا لا يعني إلا شيئا واحدا هو العبودية ، و العبودية هي من تلك الأشياء في الحياة التي لا يمكن تقسيمها إلى جيد و سيء ، أسوأ و أفضل ... لا ينبغي أن نحصر الحرية في القوانين و الدساتير المكتوبة ، وإلا كانت حرية على الورق فقط ، لأنه كما قال باكونين: "إن أولئك العبيد بالمعنى الاجتماعي هم أيضا عبيد بالمعنى السياسي ، إنهم لا يملكون التعليم ، و لا وقت الفراغ و لا الاستقلالية الضرورية بكل تأكيد لممارسة حرة و ذات معنى لحقوق مواطنتهم " وعندها سنعود من جديد تحت سطوة مؤسسات القمع و الكبت السائدة ، وتتبقى فقط ذكريات نشوة الأيام الثمانية عشرة التي حاربنا فيها من أجل حريتنا ، تبقى هذه النشوة سلاحنا الأمضى في الأيام القادمة للنضال ضد مؤسسات القمع والسلطوية القائمة ،ينبغي أن تظل الجذوة مشتعلة وأن تبقى تلك النسمة المنعشة من الحرية لنبحث عنها من جديد و لنتحدى كل من يحول بيننا و بين مثل هذا الإشباع المستمر لجوهر كينونتنا . إن العدو الأول لمثل هذا الإشباع المستمر ، لإحساس دائم بهذه النشوة (الحرية) هو أن تتمكن النخب السائدة من فرض "تغييرها" أي فرض شكل ما ، معدل ، من المؤسسات السلطوية القائمة ، التي قد تتطلب من الجوعى و الفقراء و المهمشين و المكبوتين أن يذهبوا كل عدة سنوات ليختاروا من بين تلك النخب من سيكون سيدهم ،ربما لهذا السبب على الأغلب تلى ذلك المد الثوري العارم في ستينيات القرن العشرين فترة صمت ، أو فترة ركود طويلة اختفت خلالها آثارها و حتى أفكارها التحررية كما يرى بحق مازن الماز... وهنا يطرح السؤال نفسه : هل سقوط راس النظام كاف ليأخذ الشعب مصيره بنفسه ويبني دولة حقيقية؟ لا شك أن إسقاط رأس النظام أساسي ولكنه غير كاف. وهذا ما يدركه الشعب ويدركه الثوار. وعليه فقد أكدوا أن مطالبهم واضحة: تغيير النظام "الشعب يريد تغيير النظام". ولم يطالبوا بإصلاحه فالفاسد غير قابل للإصلاح. ولا يُبنى على الفساد إصلاح أبدا . لقد تعلم الشعب إن المطلوب بعد الرضوخ عقودا متواصلة للأنظمة المستبدة، مع كل النتائج المأسوية ليس فقط تغيير راس النظام وأتباعه، وإنما الشروع الفوري في بناء الدولة التي لم تشهدها المنطقة طيلة تاريخها. بناء يقوم على سيادة الشعب، الذي هو وحده مصدر السلطات وصاحبها، وانه وحده من ينتخب حكامه لخدمته بإرادته الحرة. ويحدد اختصاصاتهم في تسيير أمور الدولة وشؤونها لمدد محددة، وان حقه محفوظ في إسقاطهم في كل مرة يرى في ذلك ضرورة. النظام الديمقراطي هو ما تستحقه ثورة يناير التي قدمت مئات الضحايا من أبنائها. وهو الذي يطلق طاقات الشعب المعطلة من عقود، ولا نقول من قرون، وهو الضمانة الأساسية والوحيدة لعدم عودة الأنظمة الشمولية المستبدة. وهو ما يجب إعلانه مطلبا أساسيا مثل مطلب تنحي مبارك سواء بسواء. إن غياب الإصرار أو تأخره عن المطالبة ببناء الديمقراطية يقوي الثورة المضادة التي بدأت، في مصر وصارت تسعى لوضع خططها موضع التنفيذ من تدبير رجال نظام مبارك الذي ما يزال قائما ليس فقط بمؤسساته وإنما كذلك برموزه التي ما زالت في مواقعها ومراكز نفوذها عن طريق الرشاوى وعن طريق تلاقي المصالح الحزبية الخائفة من الثورة الحقيقية وقيمها ومفاهيمها مثل التنظيمات التي تخيفها الديمقراطية أكثر مما يخيفها مبارك ونظامه. وإن لم يقطع الثوار وكل أصحاب الفكر المستنير الطريق على هذه القوى فان الثورة في خطر كبير، ففي الدولة الديمقراطية المدنية وحدها تتحقق المواطنية الحقيقية. وفيها موطن لكل الأديان والطوائف، والأفكار والتيارات السياسية والثقافي ،فيها وحدها لا يُستبعد الآخر، فيها وحدها تتحقق الحرية المساواة والعدالة الاجتماعية، فيها وحدها تتم الثقة بالقضاء والقضاة، فيها وحدها تتوفر الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي، فيها وحدها تتلاقى وتتآزر كل الطاقات الفعالة دون تمييز للمساهمة في بناء الدولة ، فيها وحدها يمكن الحديث عن حقوق الإنسان، ويشعر المواطن انه مواطن تساوي قيمته قيمة رئيسه، وأنه ليس مجرد فرد في رعية السلطان.