نتائج الفوضي الإعلامية 1 - أصابت «مزاج» الناس بالاكتئاب وجعلت أحلامهم كوابيس 2 - اتهمت من يدافع عن الدولة بأنه «شاهد زور» 3 - أفرزت نجوم «الشهرة» وأغدقت عليهم «الثروة» - إغلاق قنوات الفتنة خطوة ضرورية ولكنها جاءت متأخرة - مشاكل المصريين أصبحت مادة للتسلية والسخرية - الدنيا «حلو» و«مر» لكنهم جعلوا مصر «مر × مر» - أدعياء «الخوف علي البلد» هم الذين يتصدرون الزفة الإعلامية - وأدعياء الدعوة خدشوا الحياء تحت شعار «لا حياء في الدين» - بعض الفضائيات كانت علينا «أسداً» وعلي الآخرين «نعامة» الخطوة جاءت متأخرة، ولكنها كانت ضرورية، والتراجع عنها سوف يؤدي إلي انتكاسة كبيرة، فقد وصلت الأوضاع في مصر إلي حد الفوضي الإعلامية الشاملة، وتصور البعض أن هذه هي الحرية التي لا بديل عنها، وأصبحت كل الطرق تؤدي إلي حرق البلد! الخطوة جاءت متأخرة، لأن الفوضي أوشكت أن تصبح كلمة السر التي تفتح الطريق إلي الشهرة، ومن يرفع صوته مناديا ببعض العقل والضمير والضوابط، فهو من يقف في صف أعداء الحرية، ويواجه اتهامات بالعمالة للحكومة أو لأجهزة الأمن، وامتلأت ساحة الفوضي الإعلامية بأوصاف وتصنيفات، لم يستخدم مثلها سوي الشيوعيين القدامي، حين كانوا يريدون تصفية بعضهم البعض. الخطوة جاءت متأخرة، لأن الفوضي قامت بإغراء طوابير من الحالمين بالبطولة والفلوس، فانضموا إلي صفوفها، وأصبحوا رجالها والمدافعين عنها بعناد وشراسة.. ووصل الزهو بهم إلي درجة أنهم اعتقدوا أنهم نجوم المرحلة وفرسان الرأي العام، وأنهم شيدوا حول أنفسهم أسوارا من الصخب والضجيج تحميهم وتمنحهم الحصانة. الخطوة التي أتحدث عنها هي الإجراءات التي بدأت بعض الأجهزة الرسمية في تنفيذها إعمالا للقانون، وتنظيما لانفلات الفضائيات التي تكاثرت في ليل مصر مثل الأرانب، وراحت تحفر جحورا وأنفاقا تخلخل التربة وتضعف تماسكها. السؤال: اشمعني مصر؟ رغم أن الإعلام يقوم علي الشفافية التي تقتضي الحياد والموضوعية، إلا أن الفضائيات اتفقت ضمنيا فيما بينها علي أن يكون الهدف الثابت هو مصر وشئونها الداخلية، وقضاياها الصغيرة والكبيرة، وأن يتم نشر غسيلها أولا بأول حتي لو كان متسخاً. أستطيع أن أسوق لكم مائة مثال لإثبات الاستهداف الإعلامي، لمصر وحدها، دون غيرها من الدول العربية، التي يمول أثرياؤها كثيراً من هذه الفضائيات.. فلا تجرؤ علي انتقاد عسكري مرور في أي دولة خليجية، وعندنا تهيل التراب علي القيادات والمسئولين والرموز وأوسعوهم بالاتهامات دون سند أو دليل. أموال سعودية وكويتية وليبية وأردنية وغيرها «استخارت واختارت» الشأن الداخلي المصري مجالاً لها، وأصبحت قضايانا وهمومنا ومشاغلنا مادة للتسلية في المساء، مع أكواب الشاي وقراطيس اللب، وشر البلية ما يضحك. شفافية الإعلام كانت تقتضي - مثلاً - الاقتراب من قضية أمير سعودي محكوم عليه بالسجن مدي الحياة في لندن، في قضية ضرب وقتل وشذوذ، ومثلاً: نفوذ الإخوان في الأردن، أو الحرب ضد الإرهابيين في الصحراء الليبية.. أو.. أو.. ولكن لم تجرؤ الفضائيات المسكونة بالمصالح الشخصية وسطوة الإعلانات، إلا أن تصبح «أسداً» علينا وعلي الآخرين «نعامة». لم تهتم «فضائيات الليل وآخره» إلا بالسلبيات والمشاكل، ولم ترسل كاميراتها ومراسليها إلا للعشوائيات والأماكن المنكوبة، والبشر الذين يصرخون، ولم تؤمن أبداً بأن مصر فيها «الحلو» وفيها «المر» مثل غيرها من الدول، وجعلت الحياة كلها «مر * مر». قوة الدولة في صبرها وهدوئها الأثر السلبي للفوضي الإعلامية الشاملة هو الانطباع الكاذب الذي تولد لدي البعض بأن الدولة المصرية أصبحت ضعيفة ومفككة، وفي طريقها إلي الزوال، وبدأت الزفة الإعلامية حول المستقبل والخوف علي مصر، والتحذير من الفوضي والثورة والاحتقان والغضب. كان هدوء الدولة وصبرها محفزاً علي انتشار «رجال الخوف علي مصر» وإذا سألتهم «من ماذا؟» قالوا بثقة واقتدار «البلد رايحة في داهية».. وكأنهم بنوا لأنفسهم بروجا مشيدة تحميهم من الداهية، أو تنقلهم في الوقت المناسب إلي خارج البلاد. غابت عن المسرح مقولة مهمة منذ فجر الفراعنة، هي أن قوة الدولة المصرية تكون في هدوئها وصبرها، وأنها كلما بدت ضعيفة ومستكينة، كانت قوية وواثقة، وأنها هي التي حضرت العفريت وهي أيضاً التي تستطيع أن تصرفه.. عفريت الفوضي الذي ولد علي هامش الممارسة الديمقراطية، فظل يوسع الهامش، حتي أصبح عنق الزجاجة أكبر من الزجاجة نفسها. سلبيات الكاميرات المسعورة أولاً: عبأت الرأي العام المصري في الاتجاه المضاد للدولة في معظم القضايا الجماهيرية، ووقفت بالمرصاد لكل الإيجابيات والإنجازات، وضيعت مفعولها، وأجهضت أثرها أولاً بأول. ثانياً: أصابت «المزاج العام» بالغضب والاكتئاب، فأصبحت أحلام الناس كوابيس، وانتشرت العدوي في الجو مثل فيروس الأنفلونزا، فأصبح كثيرون يعطسون اكتئاباً، وسادت روح اليأس والإحباط لدي قطاعات كبيرة، خصوصاً أجيال الشباب. ثالثاً: أضعفت صوت المؤيدين للدولة والمدافعين عنها، فأصبحوا كمن يدافع عن «قضية زور» أو من يناصر بالباطل، وبمرور الوقت زادت أعداد الصامتين والمنتظرين والذين يمسكون العصا من الوسط.. لعل وعسي. رابعاً: ظهور تيار الإعلاميين الجدد.. الذين يمضغون الشعارات الصارخة وعبارات النضال الحادة، والذين يهاجمون بعنف وشراسة، وأصبح هؤلاء هم نجوم المسرح والشاشة، تلهث وراءهم الكاميرات، ويرفعون أيديهم للعامة والبسطاء في إشارات المرور، ويقطفون الثمار طازجة وسخية، ويملأون جيوبهم وأفئدتهم بالدفء والبريق. خامساً: تغيير مفاهيم «الرأي» و«الرأي الآخر» فأصبح الرأي الآخر هو الرأي، واستمرأت الفضائيات سياسة التضليل الإعلامي بأن تستضيف مؤيدا للدولة، وتحاصره بأربعة أو خمسة معارضين، لتوجه للرأي العام رسالة بأن هذه هي موازين القوي السياسية في البلد. سادساً: إضعاف روح الانتماء، بتعميم مفاهيم الانتقاص من دور مصر وأهميتها وقدرها، نكاية في الدولة، وكأنهم يردون لها الجميل لأنها فتحت لهم الفضاء، ومهدت لحريات لم تشهد مصر في تاريخها مثلها. «قلة ا لأدب» في لباس شرعي! ولأن الفوضي تنمو وتزدهر بالفوضي، جاءت الفرصة ل«الدعاة الجدد» لإحكام السيطرة علي عقول ومشاعر وأحاسيس المصريين، الذين يبيع الواحد منهم جاموسته وقيراط الأرض الذي يعيش منه ليؤدي فريضة الحج، وقرروا أن يقتحموا حياة وبيوت الناس.. مجانا. إننا نعيش عصر الانتشار الفضائي السريع لأصحاب اللحي والجلباب، وكأن عصور الجاهلية الأولي قد عادت في ثوب عصري، وتشد المجتمع بكل أسلحة الترهيب والترغيب إلي عهود السلاطين والمماليك، بالضبط مثل عمرو خالد، الذي يدعو الشباب إلي الزهد والتصوف والتبرع بالملابس المستعملة، بينما يرتدي أحدث ما تنتجه بيوت الأزياء العالمية في روما وباريس. ليت الأمر يتوقف عند هذا الحد، ولكن امتدت العقول الخربة والأيدي الآثمة إلي سياج الوحدة الوطنية، تضربه بمعاولها وأفكارها المتطرفة، وتمهد الطريق إلي خروج المسلمين للتظاهر في مساجدهم، والمسيحيين في كنائسهم.. إنها الحرب التي تحرق الأخضر واليابس ولا تبقي علي شيء، لقد عادوا من كهوفهم يوقظون الفتنة ثم يقولون: «نامت الفتنة ولعن الله من أيقظها».. وكانوا الأحق باللعنات التي وزعوها علي غيرهم، وكادت أن تشعل ناراً مستعرة. جنباً إلي جنب، ظهر دعاة الدجل والسحر والشعوذة والنصب والاحتيال، وبعد أن كانت الشرطة تطارد هؤلاء ويختفون في الدهاليز والجحور، أصبحوا نجوما يدخلون البيوت من أوسع أبوابها، ويمارسون ألاعيبهم علي الهواء مباشرة. لا أدري حتي الآن سر الاهتمام الكبير من هؤلاء الدعاة بقضية المرأة والفراش والجنس، ولماذا ينتهكون الحياء تحت شعار «لا حياء في الدين».. ومن الذي قال لهم ذلك، فالدين هو الحياء، وليس من الإسلام ترغيب المسلمين في خدش الحياء.. أو اختزال المرأة المسلمة في الفراش والحيض والجماع، وغير ذلك من موضوعات «قلة الأدب» التي يتم إلباسها زياً شرعياً! مصر تمنحهم شهادة الميلاد والوفاة فهذه الفضائيات لا تستطيع أن تعيش خارج مصر، وهي التي تمنحهم شهادة الميلاد والوفاة، وأمامنا تجربة هالة سرحان التي حاولت أن تعود إلي الحياة خارج مصر، ولكنها لم تنجح في ذلك رغم الإمكانيات الضخمة التي تم توفيرها في بيروت ودبي. لماذا مصر؟!.. إن كلمة السر هي «ثروتها».. والبشر هم نجومها الذين يملأون ليل الفضائيات ونهارها، ولا يمكن الاستعاضة عنهم ولو بكنوز الأرض.. نجوم في السياسة والفن والاقتصاد والدين والثقافة.. أساتذة جامعات وعلماء ومفكرون وقضاة ومحامون ومجتمع مدني وغيرهم، فهؤلاء هم النجوم الذين يضخون الحياة والحركة في الفضائيات، ولا يوجد من يملأ فراغهم. هذا معناه أن مصر سوف تظل نقطة الجذب، مهما امتلكت دول أخري أقمارا واستوديوهات، وقدمت إغراءات وتسهيلات لخطف راية الإشعاع والانتشار من مصر، وكل شيء يمكن أن يباع ويشتري إلا صناعة البشر. وهذا معناه أن هذا البلد له قوانين يجب احترامها، وفي صدارتها الحفاظ علي القيم والعادات والتقاليد واحترام الأديان، وأن يقتنع الطامعون بأن الأدوار ليست راية من القماش يمكن خطفها أو استبدالها، أو التقليل من شأن شعبها. زوار الفجر وتكميم الأفواه لا يجب أبداً أن يهتز المسئولون الذين أفاقوا من النوم في العسل وبدأوا في مواجهة تجاوزات الفضائيات.. لا يجب أن يهتزوا من حملات التخويف والابتزاز، والزعم بأننا بدأنا مرحلة تكميم الأفواه، وغلق قنوات الرأي والتعبير، فمثل هذا الكلام باطل يراد به حق. نفس الحملات تم ترويجها بعد التعديلات الدستورية الأخيرة، ترهيبا وتخويفا من عودة زوار الفجر والسجون والمعتقلات، ومرت أربع سنوات دون أن يعود زوار الفجر، لأنهم ذهبوا بلا رجعة. ونفس الشيء ينطبق علي «فزاعة تكميم الأفواه».. فالذي يحدث الآن هو تكميم الشتائم والفتن والبذاءات، وإعادة الاعتبار للإعلام النظيف الذي يعلي شأن القيم والمبادئ والمثل. لا يجب - أبداً - أن يكون الاختيار بين شيئين.. إما «انفلات الأفواه» أو «تكميم الأفواه».. فالبقاء للأفواه النظيفة التي تبني ولا تهدم، تصون ولا تبدد، تحمي المجتمع ولا تقوض أركانه، وكان من الضروري أن يتم تصحيح المسار، وأن تتخلص التجربة الديمقراطية من السلبيات التي تهدد مسيرتها. لا يجب أن تكون الأيدي مرتعشة والعقول مترددة، والقرارات مرتبكة، في أمور تتعلق بالحفاظ علي المجتمع وحمايته من كل أشكال العبث والانفلات، فحرية الإعلام ليست هي حرية الفوضي وشحن الرأي العام بكل صور الاحتقان والغضب. الديمقراطية ليست منحة من أحد، بل هي نتاج طبيعي لإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية تمضي بخطوات ثابتة.. ويجب أن يكون الإعلام داعما لها، وحريصا علي استمرارها وعلاج أخطائها وعيوبها أولاً بأول. الملخص هو: 1- سوف تتصاعد تدريجيا حملة الابتزاز والهجوم ضد أية قرارات تستهدف تنقية السماوات المفتوحة من الأجسام الغريبة التي اقتحمتها، وتحاول أن تنحرف بالإعلام النظيف عن رسالته وأهدافه ومقاصده. 2- حرية الإعلام ليست بالضرورة هي حرية حرق البلد، أو تهيئة الأجواء للفوضي المنتظرة. 3- مضت إلي غير رجعة عهود تكميم الأفواه، وإغلاق الصحف وفرض القيود، رغم حملات الهجوم والتشكيك التي تروج لذلك. 4- المستفيدون من ذلك هم أصحاب «الإعلام النظيف».. فقد تحرروا من خطايا وأخطاء المخالفين. كرم جبر