فى 1942 قرر القطب الوفدى «مكرم عبيد» - السكرتير العام آنذاك - أن يتخارج نهائيا من الحزب الذى كان يمثل فيه رأس الحربة فى الفترة من أواخر العشرينيات وطوال الثلاثينيات وحتى بداية الأربعينيات وكان يطلق عليه «المجاهد الكبير».. فى ذات الفترة تقريبا جرى خلاف بين جماعة الإخوان المسلمين والرجل الثانى فى التنظيم السرى «سيد فايز» فكان التعامل معه بتفخيخ علبة حلوى المولد التى وصلته إلى بيته - موت ديلفرى - والذى راح ضحيته مع ابنته! الخروج المزلزل الأقرب للمستحيلات الذى أقدم عليه «مكرم عبيد» لأسباب تخص خلافه مع زعيم الوفد «مصطفى النحاس» أمر مسموح به فى العمل السياسى ومفهوم لكل ممارس، وفاهم لأبجديات العمل الحزبى.. فليس فى الانقلاب أو التحول الأيديولوجى ما يدين صاحبه فى الجماعة السياسية والحكم فيها يظل حقا أصيلا للجماهير التى إما تصدق وتعذر وتتفهم أسبابه، أو تعطى ظهرها إليه إذا تبين كذبه وتلونه.. وفى كلا الحالتين ليس فى ذلك التخارج أى أعراض انتقامية أو تصفية جسدية أو معنوية ويتم الاكتفاء بالصراع السياسى والتشاحن الإعلامى. الساحة السياسية شهدت مواقف مشابهة وتحولات دراماتيكية بالآلاف، وأصبحت غير مستغربة على مدار السنوات، وإن كان أقربها فى الأذهان حالتا «أيمن نور» الذى خرج هو الآخر من الوفد وأطلق حزبا خاصا به دون مشاكل تذكر إلا ما تسبب فيها بنفسه لنفسه.. وتلاه مشهد خروج «أسامة الغزالى حرب» من الحزب الوطنى - الحاكم - وأسس حزب الجبهة الديموقراطى فى تحول من أقصى التأييد إلى أقصى المعارضة، دون أن تمسه يد، فظل فى موقعه كرئيس تحرير لأحد إصدارات مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أحد بيوت التفكير المصرية والقريبة من متخذ القرار! وهذه الأيام تزيد الانشقاقات والخروجات من الجماعة والاختلافات بين أعضائها والتى جعلتها تكشف عن وجهها القبيح. المقدمة وإن طالت ضرورية، لإثبات الفارق بين فكرة الأحزاب كمنبر للتعبير السياسى الطبيعى فى الشكل الحديث للدولة المدنية، وبين جماعة الإخوان المسلمين المحظورة والتى تمارس السياسة عبثا، دون سند قانونى، وتدعى كذبا أنها دعوية.. لكنها فى حقيقة الأمر تنظيم عصابى يستمد أفكاره من المافيا. لا فارق بين أتباع «البنا» وأتباع «آل كابونى».. السرية واحدة وكذلك التكوين البنيوى، والشكل التنظيمى، وقوانين التصفية الجسدية فى حالة قرار الخروج أو الاختلاف مع الجماعة! جرت تحت الجسورمياه كثيرة، وتحولت عقيدة الجماعة من التصفية الجسدية إلى ما هو أعنف.. فأصبحت التصفية المعنوية والقتل البطىء مصير من يقرر من أعضائها الخروج منها أو الاختلاف معها، وأصبحت هناك قائمة من العقوبات العرفية التى يمارسها التنظيم الإخوانى كمدونة سلوك عقابى لأى تمرد، تجعل من يفكر فى الإقدام عليه أو الاختلاف مع التنظيم أن يعيد حساباته جيدا لأن فى ذلك مصيبة له وقرارا بالانتحار وتشويه للسمعة قد يطول أسرته! بداية يجب التفريق بين خروج تكتيكى من بعض الأعضاء إما كسلا أو خوفا من ملاحقة أمنية لانخراطه فى جماعة محظورة.. وفى ذلك تختلف النظرة إليه وأسلوب التعامل معه، حيث تتم مسامحته بعد توقيفه لفترة طالما لم يختلف، ويسمح بعودته، بل تتم محاولات جذبه مجددا وتبديد مخاوفه بمجموعة امتيازات! لكن ما يهز أركان الجماعة هى فكرة الخروج تحت مظلة خلاف، استنادا إلى التحول الحاصل فى الضمير الجمعى للجماعة من كونها معبرة عن الإسلام لتصبح هى نفسها الإسلام كما استقر فى عقيدة قيادتها.. ووفق هذا المنظور فإن الخارج عنها قد شق جماعة الإسلام، فهى لا تقبل أى خلاف مع رأى الجماعة حتى لو كان فى صالحها فيصبح من يقدم على ذلك كأنه اقترف جريمة كبرى فى حق الإسلام تستوجب مقاطعته اجتماعيا وحصاره اقتصاديا! المرجعية الفقهية التى تستند عليها الجماعة فى ذلك تأتى قياسا لموقف ثلاثة من الصحابة تخلفوا عن غزوة «مؤتة» مما دعى الرسول لمقاطعتهم اقتصاديا واجتماعيا إلى أن ينزل فيهم القرآن حتى تم العفو عنهم.. ولما قد انقطع الوحى فأصبح ذلك من سوء طالع المنشقين عن الجماعة لتلاحقهم اللعنات والعقابات حتى بعد موتهم كما جرى فى الماضى مع الشيخ «الباقورى» الذى وافق على التعامل مع الرئيس «عبدالناصر» فقال عنه الإخوان: اشترى الدنيا وباع آخرته وأنه أصبح بوقا للشيطان - يقصدون عبدالناصر - وأصبحوا يتحدثون عنه فى أدبياتهم حديثا بغيضا! الأمر نفسه تكرر مع الشيخ «محمد الغزالى» عندما خرج من الجماعة سنة 1951 وقت تولية «حسن الهضيبى» كمرشد، وظلت الجماعة مصرة على إبعاده من كافة المواقع التنظيمية ورغم رأب الصدع ظل حديثهم لشباب الجماعة عنيف تجاهه، لحد أن قال أحد المرشدين السابقين للشباب «إن ظافر أحدكم برقبة الشيخ الغزالى»! الأمر طبيعى إذ يصف المرشد الأسبق «مصطفى مشهور» فى كتاباته أن من يخرج عن الجماعة كورقة شجر ذبلت «فوقعت على الأرض ووطأتها الأقدام»! مجموعة الوسط كانت أن هزت بخروجها أركان الجماعة التى اتهمت المجموعة بالتخوين والعمالة للأمن بهدف تشويههم وتمت مقاطعتهم تجاريا واجتماعيا وسحب كل أعمالهم التجارية حيث قال المرشد الأسبق «مأمون الهضيبى» عنهم فى لقائه مع مجموعة من الشباب قائلا «إنى أقدر أمشيهم فى الشارع بلابيص»! لم يكن فى قول «الهضيبى» أى مبالغة فهو كان يعنى كل كلمة قالها، وفقا لما استقرت عليه الجماعة فى تركيبها البنيوى القائم على أن تصبح «جيتو» مغلقا على أعضائها، فى شكل هرمى عسكرى يقوم على مبدأ السمع والطاعة وأهل الثقات، على خلاف أى جماعة سياسية الأصل فيها التباين والاختلاف واستفادت من سنوات العمل السرى لترسخ هذا التكوين محققة اكتفاءها الذاتى اقتصاديا واجتماعيا حتى لا تخترق. فهو قال هذا الكلام لأنه متأكد أن كلا منهم متزوج من أسرة إخوانية، ويسكن فى عمارة يملكها إخوانى، ويعمل لدى الجماعة.. وعليه يمكن تضييق الحصار عليه بشكل عنيف وتصدير المشاكل لبيته وربما يكشف ذلك الإصرار على تزاوج الإخوان من بعضهم، ودخولهم فى علاقات مصاهرة، كما وضح جليا عندما كتب «عصام العريان» مهنئا «خيرت الشاطر» على زواج ابنته من شاب إخوانى قائلا له: «زواج الإخوان لبنات الإخوان يغيظ الحكام»! يأتى ذلك فى إطار تعليمات إخوانية بألا يتعامل أعضاء الجماعة إلا داخلها مع الصيدلى والمحامى والمهندس والطبيب كما هو الحال مع طبيب أطفال إخوانى له عيادة فى مدينة نصر وكان أن تم توجيه جميع أعضاء الجماعة لعلاج أطفالهم عنده وظلت عيادته تعتمد على ذلك حتى اختلف مع الجماعة فتم حصاره ومنع التعامل معه إلى أن اضطر إلى غلق عيادته والسفر للخارج بعد أن ضاق به الحال فى مصر.. وعليه فإن الجماعة تتصور أنها تستطيع أن تجعل أى منشق عنها يسير «بلبوص»! ما تعرض له المحامى «ثروت الخرباوى» من حرب شديدة عند اختلافه مع الجماعة والتى تمثلت فى قطيعته اجتماعيا والتى وصفها بالقسوة غير المبررة فى سبيل توصيل رسالة له ولغيره إنه لا قيمة له إلا من خلال الجماعة، وكان «الخرباوى» روى فى مذكراته - تحت النشر - قصة محامى إخوانى أقرب للمأساة بعد أن طالبته الجماعة بتطليق زوجته الثانية قسرا، ولما رفض طردوه وسحبوا منه القضايا حتى أغلق مكتبه وأصيب بالسرطان ولما ضاق به الحال ذهب ابنه للإخوة طلبا لمعونة لمصاريف علاج والده لكنهم لم يعيروه التفاتا حتى إنه قبل وفاته أسر للخرباوى بقوله: «ظلم ذوى القربى أشد مضاضة من حد السيف» ومات الرجل ولم يكن لدى ابنه مصاريف كليته! نفس الآليات استخدمت بشكل عنيف مع «أحمد ربيع غزالى» - مسئول المحامين الإخوان فى الجيزة - عند نزوله انتخابات نقابة المحامين الفرعية فى محافظة 6 أكتوبر مؤخرا، واختلف مع الجماعة التى أصدرت أوامر لأولاد أخته لأن يقفوا ضده وأن يدعموا المرشح المنافس له.. أو كما جرى مع «السيد عبدالستار المليجى» المنشق عن الجماعة، ويرتبط بعلاقة نسب مع القيادى الإخوانى «أحمد حجازى» مما كان له أثر فى خلافات ومشاكل إخوانية وجدت صداها فى البيوت! التصرف الإخوانى فى التعامل مع العضو السابق فى الجماعة «عماد طه» يتعارض مع أى تعاليم دينية أو حتى إنسانية وتكشف مدى المقت الذى يسرى فى عروق هؤلاء الذين ذهب أحدهم لزوجته دون استئذان فى انتهاك لحرمة بيت رجل غائب، وتعرض لأزمة اقتصادية وتأزم موقفه المالى بعد الخروج من الجماعة، ليطلب منها أن تطلب الطلاق منه بحجة النصيحة وهى أم لأربعة أبناء منه وأنه بعد انفصاله عن الإخوان لم يعد فيه خير وفى هذا العمل الشيطانى بالتفريق بين المرء وزوجه وكأن خروجه عن الجماعة هو خروج عن الإسلام يستوجب الفرقة بين الزوجين! ولم يكتفوا بذلك بل طالبوا شقيقته التى كانت بدورها عضوا فى تنظيم الأخوات ومتزوجة من إخوانى أن تقاطع شقيقها، على عكس كل التعاليم الإسلامية التى تلزم وتحض على صلة الأرحام والمودة بين ذوى القربى، ذلك بخلاف سلسلة العقوبات التصفوية من تجنيبه وتهميشه لسحب صلاحياته وتشويه صورته والتشهير به واتهامه بالعمالة والتشيع والتى وصلت إلى حد التأذى النفسى الذى أصابه ولولا تماسكه وتجاوزه لهذه المحنة التى عبرها مع زوجته وأم أولاده. وهى تقريبا نفس الوسائل التشنيعية فى حق «أبوالعلا ماضى» - وكيل مؤسسى حزب الوسط - الذى ذهب إليه بناء على موافقة الجماعة ومرشدها السابق «عاكف» ثم أطفأت له الضوء الأخضر فكان الفراق وصاحبه ما قيل عن تشيعه وعن علاقته بحزب الله والأطرف ما قيل عن عمالته للأجهزة الأمنية المصرية والأمريكية فى ذات الوقت وأنه يتم تجهيزه لأدوار سياسية ليرهبوا أى متعامل معه! الجماعة حاليا على المحك.. تقف بين مفترق طرق.. وإلى الآن لم تستطع أن تحدد ماهيتها وموقفها بين أن تصبح «تنظيم» أو «جماعة إصلاحية فى واقع مدنى» وهو ما لفت إليه الانتباه المحامى والقيادى الإخوانى السابق «مختار نوح» فى دراسة مهمة له بعنوان «الإشكالية الحركية عند الإخوان». للحقيقة إن هوية جماعة الإخوان المسلمين هى المعضلة الأكبر التى تقف أمامها والتى غلب عليها شكل التنظيم العسكرى المغلق الذى لا يستوعب كثيرا من أشكال الديموقراطية، وتعتمد على أهل الثقة على حساب أهل الكفاءة، ولا تحتمل عقليتها فضيلة الاختلاف، ولا تجيد التعامل مع الأفكار المدنية، وسادت فيها عقيدة السمع والطاعة، ولم تجد آلية لاستيعاب المختلف فيها، وبالغت فى تصور قوتها وسيطرتها كجماعة على حساب الفرد الذى لا قيمة له إلا بها، وكأنها هى التى تطعمه وتؤمنه من الخوف.. ونسيت أو تناست أن الأرزاق بيد الله وليس بيد الجماعة! الآن تقف مجموعات على أبواب الجماعة استعدادا للخروج الكبير وبعضهم تم تجميده وتهميشه خوفا من تأثير القصاص منه مثل «عبدالمنعم أبو الفتوح» صاحب الشعبية الجارفة لدى شباب الإخوان و«إبراهيم الزعفرانى» صاحب أول بيعة علنية و«عصام العريان» و«حلمى الجزار» و«جيهان الحلفاوى» و«عبدالحى الفرماوى» و«خالد داوود» و«كمال الهلباوى» وبعض هؤلاء كانوا فى التنظيم أسبق من «خيرت الشاطر» و«محمود عزت»، بخلاف خروج 50 محاميا منهم «على شعلان» و«علاء موسى» و«أحمد ربيع» وجميعهم عليهم أن يعوا درس السابقين! تأسيسا على ما تقدم يمكن أن نستشف بوضوح أن تحولا طرأ فى عملية تجنيد الشباب للانضمام للجماعة، والتى أصبحت لأسباب نفعية صرفة وليس لاقتناع أيديولوجى، حيث توفر لهم حزمة امتيازات مثل الدخل الثابت والمسكن والزوجة، حتى لو لم تكن قدراته تمكنه من تحقيق كل ذلك حسب ظروفنا الاجتماعية والاقتصادية.. وهنا يصبح الولاء للمصلحة والانتهازية على حساب الفكرة والإيمان بالرسالة.. وعندئذ فقط تكون الجماعة لفت الحبل بنفسها حول عنقها!