لا يختلف اثنان حول أننا نعيش اليوم مرحلة غير مسبوقة من حرية الرأي الذي تقدمه الصحافة وأجهزة الإعلام المختلفة.. وهو أمر نعتز به.. وأذكر أن هذا اليوم 16 سبتمبر كان موعد صدور مجلة التحرير أولي مجلات ثورة 23 يوليو ولسان حال الضباط الأحرار الذين حملوا عبء مسئولية هذه الثورة. أذكر أنني حصلت من جمال عبدالناصر علي موافقة إصدار المجلة يوم أول سبتمبر وكانت في الأسواق بيد الباعة بعد 16 يوما فقط أي في 16 سبتمبر 1952. وقد سجلت «مجلة التحرير» سبقا في التوزيع علي سائر المجلات التي كانت تصدر في ذلك الوقت فقد تجاوز توزيعها مائة ألف نسخة.. وذلك لما كانت تقدمه من آراء تثير اهتمام القارئ. وأعود إلي الأعداد الأولي من هذه المجلة لأقارن بين حرية الصحافة التي بدأت مع الثورة وتطورت إلي هذه الحالة التي نعتبرها غير مسبوقة في عالم الحرية الصحفية. وأعود إلي الأعداد الأولي من مجلة «التحرير» لنجد أن غلافها يحمل شعارات أصدرتها إدارة الشئون العامة للقوات المسلحة التي كانت المسئولة عن إصدار المجلة، وهما شعاران يقولان «نحن نحمي الدستور» وشعار «حددنا الملكية من أجل رفاهية الفلاح» من تصميم ورسم الفنان حسن فؤاد.. واختار الزملاء الذين تعاونوا معي في إصدار المجلة، وهم عبدالمنعم الصاوي الذي كان محررا في جريدة «المصري» ثم مديرا لتحرير مجلة «التحرير» قبل أن يصبح وكيلا لوزارة الثقافة والذي أقام ابنه الزميل محمد مشروعا من أهم المشاريع الثقافية في مصر يحمل اسم «ساقية الصاوي» ويقدم برنامجا يوميا متنوعا.. والفنان حسن فؤاد، والشاعر الأديب عبدالرحمن الشرقاوي، والزملاء صلاح حافظ وسعد لبيب والفنان زهدي وهم مجموعة من الشباب الذين كانوا يمثلون مختلف ألوان الطيف السياسي.. صورة هذين الشعارين وجماهير الشعب تطالعها وهي مرفوعة علي جدران مجلات «روزاليوسف» و«دار الهلال» شكلت غلاف مجلة «التحرير».. وكان مثيراً أن ترفع صحيفة الثورة شعار «نحن نحمي الدستور» في هذا الوقت المبكر الذي كانت تهتدي فيه الدولة بدستور 1923 الذي هو ثمرة ثورة 1919 الوطنية والذي جاء في إنذار الثورة الموجه إلي الملك يوم 23 يوليو بأن الملك كان يعبث بالدستور.. وهو أمر صحيح إذ إن الملك قد أصدر أمرا بإقالة جميع الحكومات الوفدية لأسباب مختلفة.. وهي التي انتخبت انتخابا حرا من جماهير الشعب.. وكان هذا دليلا علي أن الرأي لم يتبلور بعد علي رسم طريق المستقبل. وفي صفحات الأعداد الأولي من مجلة «التحرير» ظهرت مقالات كانت تبدو غريبة في وقتها لأنها تحمل نوعا من الحرية الصحفية التي تستحق التقدير لثورة يوليو. ولعل أكثر المقالات إثارة ما كتبه الكاتب الشاعر كامل الشناوي الذي كان يعمل وقتها كأحد رؤساء التحرير في صحيفة «الأخبار» تحت عنوان «متي يعود الجيش إلي ثكناته؟» وهو سؤال كان يطرح نفسه مع التقدير الكبير لما قام به الضباط الأحرار في تحرير مصر من الاستعمار البريطاني والنظام الملكي. كان المقال يطالب قيادة الثورة بالإسراع في الإصلاحات السياسية والاجتماعية حتي يستقر المجتمع علي أسس جديدة وسليمة ويعود بعدها الضباط إلي ثكناتهم لأداء واجبهم في الدفاع عن الوطن. وهكذا كانت مجلة «التحرير» تعكس الآراء المختلفة دون تحيز.. وتعتبر أن واجب الصحافة يعتمد علي تنوير العقول وإظهار الحقائق وخدمة الجماهير. وإذا كانت الصحافة قد عانت خلال فترات من الرقابة التي كانت تفرض نفسها في خدمة الحكومة، فإن ذلك لم يستقر كأساس للتعامل مع الصحافة بصورة مطلقة.. وإنما تم خلال مراحل كانت تتعرض فيها مصر لعدوانات خارجية مما يفرض حماية الرأي العام من أخطار ما يمكن أن يسربه الأعداء ويسيء إلي الأمن والاستقرار. ومنذ استقر الحكم في مصر علي أرض السلام بعيداً عن الحروب فإن حرية الرأي فرضت نفسها علي الصحافة والإعلام.. وهو الأمر الذي نمارسه اليوم كحق من الحقوق الطبيعية للإنسان.