إنه فجر الجمعة 24 رمضان، الثالث من سبتمبر 2010 وأخبار تأتي عن حريق بمسرح البالون،، قفز في ذهني 27 رمضان، 27 سبتمبر عام 2008 وأخبار تأتي عن حريق المسرح القومي.. فسألت نفسي ما العلاقة بين الحريقين، علي الرغم من كون الثاني حريقا محدوداً خضع سريعا للسيطرة. الإجابة : العلاقة هي شريف عبد اللطيف مدير المسرح القومي آنذاك، والذي تزعم عددا من الفنانين وقت تعيينه بالقومي تذمرا اعتراضا عليه، لخلو مساره المهني من أية أسباب مقنعة، ولكن تمر الأمور ثم نسمع عام 2006 فضيحة مصغرة لكنها ذات دلالة فقد اختفي كرسي طلعت حرب التاريخي من مكانه، وحامت الشبهات حول صاحب غرفة المدير، ولكن أحدا لم يصدق، وضاع الكرسي بما يحمل من معني. كتب الصديق جرجس شكري في الزميلة الإذاعة والتليفزيون في عدد 4 أكتوبر 2008 عن تلك الواقعة التي يذكرها علي بساطتها يوم حريق القومي ليري : ( إنها واقعة غريبة جدا أكاد لا أصدقها حتي الآن حين تم اختفاء كرسي طلعت حرب من المسرح القومي.. وبالطبع لا إجابة سوي : هناك تحقيق ومر عامان علي هذا التحقيق دون نتيجة) . بقي المدير وكأن البحث عن الكرسي القيم المنقوش علي طراز عربي بديع أمر لا يهم أحدا، النيابة عاقبت عاطف ولسن وهب عامل مكتبه بخصم ثلاثمائة جنيه من راتبه.. كرسي طلعت حرب بثلاثمائة جنيه.. ولم تحدث مشكلة، وتم حرق القومي ولم يعاقب أحد حتي الآن، وكان التحقيق قد حفظ، لولا الجهود الجادة المحبة لهذا الوطن، والتي ظلت تسأل عن المسرح القومي فقام أحد الأجهزة المعنية بفتح التحقيق لتحيله للنيابة العامة، والتي أحالت القضية لمحكمة عابدين ونظرتها في 27 رمضان وهو يوم حريق القومي منذ عامين أنها مصادفة دالة. وقد أجلت المحكمة القضية لطلب المحامين الاطلاع لجلسة 18/10 القادم، ويمر الوقت، ويقوم السيد فاروق حسني وزير الثقافة بترقيته وندبه وكيلا لوزارة الثقافة للقطاع الاستعراضي وسط دهشة الجميع ، مما أثار سخرية البعض حتي إن أحد المديرين الظرفاء : قال أحرق مسرحك تصبح وكيلا للوزارة. ثم ظهرت بالقطاع بعض العلامات المعبرة عن نوع الاختيارات المهنية والإنسانية عندما أثارت بعض الصحف عددا من الملاحظات حول أداء هذا المدير، فقد نشرت الزميلة الأخبار في صفحة 20 العدد 1800112 يوم 5/5/2010 خبرا عن المخالفات المالية للبيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية عبر صرف السيد شريف عبد اللطيف بالأمر المباشر ودون الرجوع للسلطة المختصة مبالغ مالية بالمخالفة للقانون. ومازالت أحد الأجهزة الرقابية تحقق في الاتهام بالفساد المالي في تلك المشكلة التي لم تحسم بعد. وكانت جريدة الميدان قد نشرت في صدد افتتاحيتها تنويها عن تحرش جنسي من ذات الشخص في عددها 12 مايو 2010 وذلك بموظفة هو رئيسها، وهي سيدة متزوجة وحررت له المحضر رقم 3814 إداري العجوزة وعدد من المحاضر حررها له المخرج محمد حسين وشجار وخروج عن اللياقة وتوتر طوال الوقت بالبالون، هكذا كتبت جريدة الميدان. ثم يأتي حريق البالون، هذه المرة تمت السيطرة عليه، الإفادات الأولية تصفه بالحريق المحدود، مازالت النيابة العامة تعمل ولم تكون وجهة نظر نهائية بعد، ولكنها بالتأكيد تضع في اعتبارها ما يتردد حول حرق عدد من المستندات المحاسبية والمالية بالغرفة المحترقة لإدارة البحوث والتراث، كان بعض العاملين قد بدا لهم وكأنها هي الهدف، والبعض الآخر لايعرف السبب وإن كان يخشي ما هو أسوأ في الأيام المقبلة. الإجابة أيضا عن العلاقة بين حريق القومي وحريق البالون هي الإهمال الجسيم، فلماذا لا تدمن الإهمال إذا كنت ترقي كلما أدمنته ومعه بعض الاتهامات بالمخالفات المالية والتحرش الجنسي؟ افعل ما تشاء فقد نسي المجتمع القاعدة القانونية التي تري بمسئولية المتبوع عن أعمال التابع، ونسي المجتمع حريق القومي ولم تعاقب ونسي المجتمع أن يسأل: من المسئول عن وجود هؤلاء؟ والعلاقة بين الحريقين أنهما في أوقات الهدوء، قبيل المغرب وبعد الفجر، وأنهما للوهلة الأولي يبدوان من صنع الماس الكهربائي. والملاحظة بينهما أن المجتمع تعامل معهما كحريق في أي مصنع عادي، أو مرفق عام اشتعلت مخازنه دون النظر الحقيقي للمكانة الاعتبارية وللقيمة الاجتماعية والثقافية، ودون تحديد للمسئولية التقديرية للمسئولين عنهما والاكتفاء بالتحقيق مع عدد من صغار المسئولين، بل إن الاهتمام العام الذي حظي به حادث سرقة لوحة زهرة الخشخاش كان أكثر وضوحا ربما لقيمتها المالية الكبيرة التي تقدر بأكثر بكثير من الخمس والخمسين مليون دولار. الملاحظة بدت لي واضحة عند تقدير الخسائر في حريق إدارة التراث والتوثيق بقطاع الفنون الشعبية والاستعراضية، حيث الإشارة العابرة لحرق بعض وثائق القطاع القديمة وهي في نظري وتقديري ولمن يعرف قيمتها تساوي قيمة لوحة زهرة الخشخاش وربما أكثر، لأنها تخص إبداع الفنان المصري منذ الخمسينيات وحتي الآن، إبداعات نادرة للجزاريلي. ولعلي إسماعيل الموسيقار الكبير ولتفكير يحيي حقي عندما أنشأ الفرقة القومية لتقوم بتوثيق التراث الشعبي وهو اسم الفرقة الأول الذي تأسس عليه كل كيان القطاع فيما بعد عروض مثل وداد الغازية، والقاهرة في ألف عام وغيرهما، عروض محفوظة بالأرشيف بالنصوص وخطة الإخراج والمدونات الموسيقية أتمني ألا تكون قد حرقت جميعها، أولها نسخ محفوظة في أماكن أخري كالمركز القومي للمسرح. فهي ذاكرة مصر الثقافية في مجال المسرح الشعبي المصري، والمسرح الاستعراضي ذي الصبغة القومية. بالتأكيد هؤلاء الجدد لا يفكرون في إعادة تقديم تراث بلادهم المسرحي البديع كما يفعل العالم كله، لكنهم لا يملكون حق حرقه لأن هناك من سيأتي من بعدهم ويفكر في المسرح المصري كمؤسسة ثقافية ويسمح للأجيال الحالية والقادمة برؤية تلك الروائع، فأين تلك المدونات والوثائق الهامة التي لا تقدر بمال؟! لأنها تاريخ وتراث هذا الشعب فيما يخص قواه الناعمة الثقافية الحضارية والتي منحته مكان القيادة الثقافية في المنطقة كلها. أما القيمة الرمزية والاعتبارية للمسرح القومي المصري كمكان وكمعني وكمؤسسة لها نظامها في العمل فلا يحتاج أحد للبرهنة والتدليل عليها؟ وفي ظل خضم توالي الأحداث أصبح من الثابت والمؤكد أن الإهمال الجسيم القائم علي قصد من فساد قوي متراكم يستطيع الصمود علي مواقع المسئولية في المؤسسات الثقافية العامة رغم كل شيء. إنهم يتصرفون وكأن شيئا لم يحدث ولأننا لا نستطيع أن نتهم أحدا إلا عند الحرق والسرقة فمن الثابت أيضا أنه في المؤسسة المسرحية لرسمية بشكل خاص، وفي المؤسسة الثقافية بشكل عام قد حرقت أشخاص بمشروعهم الثقافي الهام، وسرقت منا جميعا الأدوار الثقافية ذات المكانة الرفيعة التي كنا نزهو بها، وصرنا فرادي كل يحاول الخلاص بجهده الفردي. فما الحلول العاجلة؟ وأين وعد وزير الثقافة الفنان الكبير فاروق حسني الذي قال منذ عامين إن المسرح القومي سيعود للعمل خلال ستة أشهر؟ بينما لا يزال مغلقا.. فقط أذكر بأن الصمت علي سرقة كرسي طلعت حرب بقيمته الرمزية أدي لحرق المسرح القومي كله، فهل سيؤدي الصمت عن حرق وثائق ومدونات تراثية بالبالون إلي حرق المسرح كله؟ لا أكاد ومعي الكثيرون أستطيع تصديق ما يحدث، ففي لحظات يبدو لي مسخرة ضاحكة لحد الألم وفي لحظات يبدو كابوسا يستعصي علي الفهم. المؤكد أن قيمة ما نملك من قوي ناعمة ذات طابع ثقافي فني يحتاج منا لوقفة حازمة تتجاوز حدود الألم أو السخرية.