من الطبيعى إذن أن تفشل أى جهود للتوعية بمخاطر الزيادة السكانية، حيث إنه فى مقابل كل عبارة توعية ستجد خطبة كاملة تمحو أى أثر لهذه العبارة وفى مقابل كل حجة منطقية ستجد فتوى ناسفة وفى مقابل كل رأى علمى ستجد أحاديث مضحكة عن كون تنظيم الأسرة مؤامرة غربية على الأمة الإسلامية أو أن الغرب المرتعد يرتعش خوفا من تزايد أعداد المسلمين رغم أن زيادة العدد لم تعد تعنى أبدا زيادة القوة . وهكذا لا تملك إلا أن تشعر بالتعاطف مع الوزيرة الصادقة مشيرة خطاب وهى تبحث عن منبر هنا ومنبر هناك تطلق من فوقه تحذيراتها، فى حين يسيطر خطباء ودعاة التطرف والسلفية على آلاف المنابر ويخاطب مشاهير دعاتهم الملايين من شاشات القنوات الفضائية، بينما يختار الأزهر فى هذه القضية بالذات أن يقف على الحياد وأن يمسك العصا من المنتصف، وبالطبع فإن الحديث عن المؤامرة الغربية وقوة المسلمين التى ستزداد مع زيادة عدد المواليد لابد أن يعجب السامعين من البسطاء ويمحو أى أثر لحملات «انظر حولك» حتى لو كان حديثا خاليا من العقل والمنطق والفقه أيضا وحتى لو كان العقل يحتم على المواطن أن ينظر حوله ويتأمل فى الحال الذى وصل له معظم المسلمون رغم أنهم لا يشكون من قلة ولكن من كثرة ولكن كغثاء السيل. على أن مراجعة الخطب والدروس التى خصصها مشاهير الدعاة السلفيين لقضية تنظيم الأسرة تشى بانطباع عام وموحد، وهو أنهم لايستخدمون حججا فقهية أو أحاديث دالة إلا فى نطاق ضيق للغاية يستهلون به الحديث تأكيدا للتحريم ثم ينطلق كل منهم بعد ذلك فى إبداء آراء تبدو وكأنها منطقية صرفة يدللون بها على فساد فكرة تنظيم النسل وكيف أنه بإمكان المسلمين أن يغزوا الصحراء ويطولوا الغرب طولا وقوة لو تزايد نسلهم أكثر وأكثر وكيف أن هذه الدعوة هى دعوة ومؤامرة غربية المنشأ، الدافع لها هو الخوف من المسلمين ومن تزايد عددهم وتنامى قوتهم، بل إن واحداً منهم قال إن ضرب شركات توظيف الأموال جزء من هذا المخطط وخطوة ذات علاقة وثيقة بالدعوة لتنظيم النسل! وهو كلام فى مجمله أكثر من خرافى وأكثر من مضحك لكنه للأسف لا يجد من يرد عليه وإن وجد فلن يجد منابر ذات مصداقية تتعامل مع الموضوع على أنه شأن ثقافى وسياسى أو قضية ذات بعد قومى حيث يرتبط الحديث عن تنظيم الأسرة فى أذهان الكثيرين بعبارات مثل «حسنين ومحمدين» و«اللولب» والعازل الطبى وانظر حولك إلى غير ذلك من عبارات هزلية ارتبطت بسذاجة التناول الإعلامى فى فترة من الفترات فى حين أن الأمر فى واقعه جد خطير. وقد حاولت تحليل خطاب ثلاثة من أشهر دعاة السلفية وهم محمد حسان وأبو إسحاق الحوينى ومحمد حسين يعقوب تجاه هذه القضية وكانت الخلاصة أن خطابهم شبه موحد وتسيطر عليه نفس الأفكار والتى ترجع الأمر إلى مؤامرة غربية وتربطه بعدد من الممارسات التى يرفضها المسلمون جميعا مثل الإجهاض أو زواج المثليين! أو إباحة الزنا ولعل مرجع هذا أن هؤلاء الدعاة تعلموا الفقه والدعوة فى مجتمعات غير مصرية تعانى من ندرة السكان ويقوم خطابها الفقهى والثقافى على التشجيع على زيادة النسل وهو أمر لا عيب فيه لأن الزيادة أو التنظيم ليست حلالا أو حراما إلا بقدر ما يقضى الواقع فى المجتمع وبقدر ما تقضى مصلحة المسلمين فيه فقد تكون مصلحة المسلمين فى مكان ما وزمان ما أن يتكاثروا وهنا يصبح التكاثر مطلوبا كما قد تقضى المصلحة فى زمان ومكان آخر أن ينظم المسلمون نسلهم حتى يستطيعوا بلوغ أسباب القوة وهنا يصبح التنظيم مطلوبا، هذا ما يقوله العقل والمنطق لكن دعاة السلفية لايؤمنون بهذا والفقه لديهم هو ما حفظوه هناك ليسمعوه لنا هنا. أبو إسحاق الحوينى واحد من أشهر دعاة السلفية وأكثرهم شعبية وأقلهم حرصا على موازنة خطابه بميزان العقل والمنطق وهو يعتبر تحديد النسل جريمة ويخلط بين التحديد والتنظيم ويصف الفتاوى التى تدعو لتنظيم النسل بأنها متهتكة وهو يسوق عددا من الأحاديث المتعارف عليها فى هذا السياق أشهرها الحديث الشريف «تناكحوا تكاثروا فإنى مباه بكم الأمم يوم القيامة». لكنه سرعان ما ينفض يديه من محاولة إقناع السامعين عن طريق الأحاديث الدينية ويخلع ثوب الداعية ليرتدى ثوب المفكر ويطرح سؤالا يتولى هو بالطبع الإجابة عليه والسؤال هو: لماذا تحددون النسل؟ ويجيب: «يقولون: لا يوجد طعام ولا شراب كأنهم هم الذين يرزقون الناس ونقول: أوجدوا للعاطلين فرص عمل نحن لا نعانى من كثرة النسل.. فى مصر مثلا نعيش على 4% من المساحة إذن المسألة كلها فساد إدارى! وليست كثرة نسل!!» ثم يعرج الحوينى على قضية تهمه هو وتياره وهى قضية توظيف الأموال قائلا: «الضربات الجائرة المستمرة لتوظيف الأموال - يقصد شركات النصب باسم الإسلام - كانت سببا فى هروب رءوس الأموال للخارج، المصريون كانوا يحولون كل عام 4 مليارات دولار ولكن بعد ضرب الشركات تقلص المبلغ»! ثم ينتقل الحوينى إلى مرحلة التشجيع على إنجاب مزيد من الأطفال قائلا: يأتى لك بصورة غريبة لامرأة كبيرة البطن يمسك بها أطفال كثيرون وهى فى أسوأ صورة وأخرى جميلة معها 3 أطفال فقط وهذا ليس هو الواقع أنا أعلم أسراً فيها 8 أطفال و12طفلا ومن أفضل الأسر وفيها ترابط أسرى ليس موجودا فى أسر الثلاثة! ملحوظة: لابد أن هذه الأسر يتزوج عائلها من أربع سيدات على التوالى كما يفعل بعض دعاة السلفية. ويواصل الداعية السلفى حديثه قائلا: لماذا تكذبون؟ كل هذا تنفير من كثرة الولد وكثرة الولد نعمة ألم يقل النبى «صلى الله عليه وسلم» إنى مكاثر بكم الأمم؟ ألا تريد تحقيق أمنية النبى «صلى الله عليه وسلم»؟ والأكيد أنه بعد هذا السؤال العاطفى والمضلل والمغرق فى الابتزاز فإن الملايين الذين يستمعون لدروس الحوينى ويتأثرون بها سينصرفون على الفور محاولين تحقيق أمنية النبى كما صاغها وقدمها لهم الداعية الحوينى! ورغم أننا لسنا فى مقام الرد على منطق الحوينى المغلوط فإننى أندهش للغاية لأننا لم نر عالما أزهريا معتدلا يخرج على الناس ليذكرهم بحديث آخر للرسول «صلى الله عليه وسلم» يقول فيه «توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها قالوا أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال لا بل كثرة ولكن كغثاء السيل» ولعل معنى الحديث واضح وليس فى حاجة للشرح وهو يؤكد أن القوة ليست بزيادة العدد ولكن بالتعليم والتدريب والمهارة وامتلاك أسباب القوة وهى كلها أشياء لا يمكن توفيرها لملايين يتوالدون بالملايين كل يوم وهو ما يؤكد أننا فى حاجة لتنظيم النسل أكثر من أى شىء آخر. الغريب أيضا أننا لم نر عالما مستنيرا أو مفكرا عاقلا يقول إن اليهود الذين نشكو ونبكى من سيطرتهم على العالم ليسوا سوى 15مليون شخص امتلكوا أسباب القوة والمهارة والتعليم فحكموا وتحكموا بينما يشكو المليار وثلاثمائة مليون مسلم من ضعف الحال ويخشون سوء المآل. وإذا انتقلنا للشيخ محمد حسان وهو أكثر دعاة السلفية رغبة فى استخدام المنطق ومحاولة «عقلنة» الخطاب السلفى، سنجده يخصص لهذه القضية عدة دروس وخطب من بينها درس بعنوان «الأزمة السكانية والحلول الغائبة» وهو يدخل فى الموضوع مباشرة، معتبرا أن الحديث عن الأزمة السكانية هو صراع بين الحق والباطل وبين الغرب والمسلمين وهو يرى أن الغرب افتعل هذه الأزمة التى تبين حقدهم على الإسلام! وهو يبدى دهشته من الأدبيات العالمية التى تحذر من الانفجار السكانى فى العالم كله ويبدى رأيه العلمى فى المسألة مستهينا بالرقم الذى تحذر منه الدراسات التى تتوقع أن يصل عدد سكان العالم فى 2050 حيث يقول (5,12) مليار نسمة! فقط إنهم يتألون «أى يسيئون الأدب» على الله! الله هو الذى يحدد الرزق ويرى «حسان» أن الغرب يخاف من اختلال موازين القوى لصالح المسلمين! ولأنه - أى حسان - يحاول أن يبدو أكثر منطقية من زملائه - فإنه يقتبس عددا من الأدبيات الغربية حول الزيادة السكانية والتى تعبر عن مخاوف من زيادة عدد سكان العالم الثالث بشكل عام، لكنه يمارس الخداع ويصورها وكأنها مخاوف من ازدياد عدد المسلمين مع أنه من الطبيعى أن تخاف دول الرفاهية الغربية من زيادة عدد سكان العالم الثالث، مادامت تجد نفسها فى النهاية مطالبة بتحمل مسئولية إطعامهم أو هجرتهم أو إسكات غضبهم من الأوضاع التى يجدون أنفسهم فيها. فى نفس السياق يربط «حسان» بين مقترحات يرفضها المسلمون مثل الإجهاض وتأخير سن الزواج وبين تنظيم النسل مع أنه لا علاقة بين هذا وذاك. ثم ينتقل «حسان» للضفة الأخرى كمفكر وليس كداعية، مؤكدا أن المنجم الحقيقى للتنمية هو الزيادة السكانية ويضرب أمثلة باليابان وكوريا ودول أخرى استفادت من الزيادة السكانية، وهو منطق يمكن الرد عليه لكنه بعد ذلك يفاجأ مستمعيه وبعد أن يسرد عدداً من الآيات التى تتحدث عن رزق الله لعباده الصالحين بوجهة نظر يقول فيها إنه يرى أن «الاستغفار» هو حل المشكلة السكانية!! وبشكل عام فإن الحديث عن تفسخ الغرب وانحلاله الذى يريد تصديره لنا وكذلك الحديث عن المؤامرة الغربية على الإسلام هو أحد ثوابت الخطاب السلفى بغض النظر عن القضية المطروحة. وإذا انتقلنا لثالث الدعاة السلفيين محمد حسين يعقوب، سنجد أن خطابه لا يختلف كثيرا حيث ينتقد الدعاوى الرامية لتنفيذ خطط أجنبية للمجتمعات العربية حيث اعتبر أن مهمة الإنسان على الأرض هى إعمار الكون وأن ذلك بالطبع بتحديد النسل! ورغم أن إعمار الأرض لا يشترط الزيادة العددية أو أن يكون هناك الملايين ممن لا يجدون حظا من الرعاية الصحية أو التعليمية أو يمتلكون أى مهارات تؤهلهم لعملية الإعمار هذه، إلا أن يعقوب يتسق فى موقفه هذا مع الموقف العام للسلفية. موقف السلفيين فى هذه القضية يتماهى تماما مع موقف جماعة الإخوان المسلمين التى صرح مرشدها العام السابق محمد مهدى عاكف بتصريحات تدور حول فكرة المؤامرة الغربية أيضا، فى حين استشهد الداعية الإخوانى بلال الأزهرى فى مجلة نداء الإسلام بمقولة للشاعر والمفكر الإسلامى الباكستانى محمد إقبال يحذر فيها من دعوات الغربيين لتحديد النسل فى حين أن الغربيين يحاولون رفع نسبة الغربيين فى بلادهم والحقيقة أن المفكر الكبير وصاحب دعوة تأسيس الباكستان كوطن لمسلمى الهند كان متأثرا بظروف الصراع العرقى بين المسلمين والهندوس، ومرة أخرى نقول إن ما يصلح للمسلمين فى مجتمع قد لا يصلح لمسلمى مجتمع آخر. لكن الاستشهاد بإقبال كان الشىء الوحيد القابل للمناقشة فى الخطاب الإخوانى تجاه قضية الزيادة السكانية حيث يرى الداعية بلال أن الكفار يستهدفون الأسرة المسلمة وأن تحديد النسل يؤدى إلى انتشار الزنى على أساس أن ما يمنع الناس من الزنى هو فضيحة الإنجاب! ولكن وسائل منع الحمل تمنع الإنجاب! ولذلك يسهل الزنى ولا تخاف المرأة من العار! وهذا بالطبع كلام لا يستحق الرد عليه ولا تذكير دعاة الفضيلة بأن ما يمنع من الزنى هو الخوف من الله وليس الخوف من الفضيحة ولا من الإنجاب! وإلى جانب كل هذه الخرافات التى يمتلئ بها قطاع مؤثر للغاية من الخطاب الدينى تجاه قضية الزيادة السكانية، ستجد خرافة أخرى شعبية تتعلق بالفتنة الطائفية وتوصى كل فريق بأن يزيد من عدده فى مواجهة الفريق الآخر وهى خرافة مؤثرة للغاية وإن كان الواقع يقول إن الأسر الأكثر فقرا بين المسلمين والأقباط تنجب أطفالا بأعداد كبيرة سواء كان الأب والأم فيها مسلمين أو أقباطاً، إن العكس صحيح فلا يوجد طبيب أو مهندس ينتمى للطبقة الوسطى يقرر إنجاب عشرة أطفال نكاية فى مواطنيه من أبناء الدين الآخر سواء كان هذا الطبيب مسلما أو مسيحيا وهو ما يؤكد أن المشكلة اجتماعية وثقافية فى الأساس تتعلق بمستوى وعى الأفراد وتعليمه وفهمهم للحياة بأكثر مما تتعلق بأى شىء آخر وإن كان الخطاب الدينى المتخلف يلعب دورا فى تضليل البسطاء وإفساد وعيهم بهذه القضية وبقضايا أخرى كثيرة. وتبقى ملاحظة أخرى وهى أن الخطاب الأزهرى يتعامل مع هذه القضية بحذر وبأداء وظيفى يفتقر للحماس رغم أننا يمكن أن نسمع من العلماء المستنيرين كلاما كثيرا عن فقه الواقع وفقه المصلحة والاجتهاد لمصلحة الناس هذا إذا صح العزم وخلصت النيات وكان لدينا أمل فى اللحاق بركب النهضة التى نتحدث عنها ولا نراها!