عانيت الأمرين حتى وافق الأستاذ «شريف عبدالحق» مدرس مادة الفيزياء على أن يعطى ابنتى درساً خصوصياً.. وأن يلحقها بالمجموعة الأولى فى السنتر الذى يضم مائيتى طالب وطالبة بعد أن نلت من توبيخه الشىء الكثير، فقد اتهمنى بالتسيب.. والاستهتار والغفلة التى تشى بانعدام «الأخلاق» وموت الضمير لعدم حرصى على مستقبل كريمتى بإهمالى الاتصال به لحجز مكان لها منذ نهاية العام الدراسى السابق. المدرس أصر بعد ذلك أن يتقاضى أجر عشر حصص مقدماً، فلما أبديت دهشتى.. وطلبت منه تفسيراً لذلك، أفحمنى برجاحة منطقه، وشفافية تبريره: - لنفترض أن نجلتك تخلفت عن حضور إحدى الحصص أليس ذلك معناه أنها قد أجرمت فى حق زميلة لها وحرمتها من فرصة الالتحاق بالسنتر والاستفادة من التحصيل؟!.. إن أقل عقاب لها أن تتحمل أجر الحصة، وفى هذا إرساء لقيمة العدل.. والعدل لو تعلم أحد المبادئ الأخلاقية المستقرة التى أتبعها دائماً. لم أتمالك نفسى فهتفت بانبهار: - يا هووه على الأخلاق يا أستاذ. ما أن أتممت جملتى حتى بادرنى معلقاً: - بمناسبة الأخلاق.. هل تعلم أن وزارة التربية والتعليم بقيادة وزيرها الجديد النشط الهمام د. أحمد زكى بدر- الذى آل على نفسه أن يقود ثورة التغيير.. والتطوير والتى تشمل كل مناحى التربية والتعليم- قررت استحداث مادة جديدة اسمها «الأخلاق» سوف يتم تدريسها ابتداء من العام القادم.. هذه المادة سوف تضمها كتب تجمع فضائل الدينين الإسلامى والمسيحى والقيم الأخلاقية المشتركة بينهما.. وهى قيم الحب والتسامح والشرف والتعاون والتعايش مع الآخر.. وترسيخ فكرة «المواطنة» وأهمية أن تسمو فوق «الطائفية». أعربت عن دهشتى وأنا أردد ساخراً: - إن تدريس مادة عن الأخلاق اعتراف صريح بأننا أصبحنا مجتمعاً بلا أخلاق. وقبل أن أسترسل فى الإفصاح عن عدم قناعتى بأن تدريس مادة «الأخلاق» كفيل بخلق مجتمع جديد تسوده «الأخلاق» أكد لى: - ما أحوجنا هذه الأيام بالذات إلى كتاب مشترك تجتمع فيه القيم المشتركة للأديان- هذا بالإضافة طبعاً إلى تنقية مناهج التربية الدينية من الشوائب الضارة بالوحدة الوطنية- حيث يطلع المسلم على القيم المشتركة فى الدين المسيحى ويطلع المسيحى على قيم الدين الإسلامى دون أن نترك ذلك لمصادر أخرى تشعل الفتن وتعمل على تشويه دين أمام معتنقى دين آخر. - أفهم من ذلك أن واضعى منهج الأخلاق سوف يكونون من رجال الدين. - طبعاً.. وصاحب الفكرة هو د. «قدرى حفنى» أستاذ الاجتماع وأحد أعضاء لجنة القيم التى أصدرت تقريراً ينتقد تطرف المناهج.. واقترح إصدار كتاب عن قيم التعددية لإشراك القيم الأخلاقية فى الأديان.. وسوف تقوم لجنة مشتركة من رجال الدين الإسلامى والمسيحى من وضع فصوله الحميدة. صحت معترضاً: - المناهج لها أسس تربوية،ونحن -رسمياً وحتى إشعار آخر- ننتمى إلى دولة مدنية وليس دولة دينية.. لذلك ينبغى أن تكون اللجنة المكلفة متعددة التخصصات.. قد تتضمن رجال الدين ولكن يجب أن تعتمد فى أساسها على خبراء علم الاجتماع والتربية النفسية والمناهج التربوية.. وليس هناك مانع من الاستعانة بمتخصصين فى علوم الدين فى إطار الإشراف العام لأساتذة علم النفس والاجتماع والتربويين و... ... ثم من قال لك أنه لن تحدث خلافات وانقسامات منهجية وربما عقائدية بين طرفى تلك اللجنة.. بل ربما بين أعضاء كل طرف.. و.. قاطعنى بنفاد صبر مؤكداً: - المهم.. هل تعلم إنى كلفت بتدريس تلك المادة الجديدة ابتداء من العام الدراسى القادم؟! تملكنى الذهول وأنا أردد له: - كيف وأنت تخصصك الفيزياء وهى مادة علمية.. تدرس الأخلاق وهى مادة أدبية؟! ضحك ملء شدقيه فى استهزاء وحدجنى بنظرة احتقار وهو يردد فى استعلاء: يبدو أنك لا تعيش زماننا يا أخ.. ألم يخبرك أحد أننا نحيا فى كنف زمن العولمة.. وما العولمة؟!.. إنها تعنى أن العالم قد صار قرية واحدة أزيلت فيها الحدود بين الدول والقارات وانزاحت الحواجز والأسوار.. واختلطت الثقافات والمعارف.. وتداخلت وامتزجت التخصصات. ثم ما لبث أن نصحنى بأن أحجز مكاناً لابنتى فى السنتر الذى يزمع تكوينه من الآن لإعطاء دروس خصوصية فى تلك المادة.. والدفع مقدماً.. لم أجد مفرًا من أن أصيح مكررًا: - يا هووه على الأخلاق. قالت لى ابنتى: إذا كان هناك إصرار على تدريس تلك المادة، فلماذا لا يدرسونها أولاً لسائقى الباصات بالمدرسة؟!.. أبديت دهشتى وسألتها: اشمعنى يعنى السائقين بالذات؟! قالت: لأننى إذا تأخرت نصف دقيقة عن الميعاد.. ينصرف السائق ويتركنى بينما يظل واقفاً منتظراً زميلتى «نانا» أكثر من نصف ساعة حتى توقظها أمها وترتدى زى المدرسة وتمشط شعرها وتتناول طعام الإفطار، ذلك لأن والدها الثرى ينقده مبلغًا شهرياً محترمًا.. ثم لماذا ثانياً لا يدرسون تلك المادة لبواب المدرسة الذى يرفض دخولى المدرسة إذا تأخرت.. ويفتح الباب على مصراعيه ل«طاطا» حتى لو وصلت بعد انتهاء الحصة الأولى للسبب نفسه الخاص ب... «نانا»..؟!.. ثم لماذا ثالثاً لا يدرسون تلك المادة لعاملة الكانتين التى امتنعت عن بيع الحلوى والمرطبات لى لأنى أصر على أن أطلب منها باقى النقود؟! ثم لماذا رابعاً لا يدرسون تلك المادة للمدرسين والمدرسات؟! هل تعلم أن مس «عفيفة عبدالرحيم» تتوعدنى بالرسوب لأنها لا تعطينى درساً خصوصياً.. بينما انحنت فى امتحان نصف السنة لتلتقط «البرشامة» التى وقعت من «فافى».. على الأرض وقدمتها لها مرددة بحنو وحنان بالغ: - خدى يا حبيبتى.. دى وقعت منك. والسبب أيضاً معروف. ناهيك عن تنامى وازدياد أعداد المنتمين إلى منظمة «السيكوباتيين» من المدرسين والمدرسات محترفى الضرب المبرح الذى يفضى إلى إحداث عاهات.. وأحياناً إزهاق الأرواح.. وازدهار جرائم التحرش الجنسى.. وأخيراً قعدات الكيف والمزاج وتدخين الحشيش واحتساء «السبرتو» داخل قلاع التربية والتعليم. ثم استطردت مرددة: - ثم لماذا لا يدرسون تلك المادة ل... قاطعتها فى توتر وضجر هرباً من عجزى عن الإجابة عن أسئلتها صائحًا: - كفاية بقى أسئلة.. أنا عندى صداع.. وعاوز أنام. داهمتنى صائحة فى غضب: - يا هووه على الأخلاق.