أجواء الكآبة والسواد الذي رسمه الكاتب الإنجليزي «تشارلز ديكنز» في روايته «أوقات عصيبة» داخل مدينة «كوك تاون» تجسدت بالفعل بكل ملامحها في كفر الزيات التي زارتها لجنة تقصي الحقائق بمجلس الشعب عن تسرب اليورانيوم من بعض المصانع.. هذه المدينة التي كانت من أرقي المدن المصرية في الزمن البعيد أصبحت صورة حقيقية لمدينة الفحم والضباب والتلوث البيئي الذي سوّد أوراق الشجر الخضراء وعتم البيوت والمباني باللون الرمادي القاتم من انبعاثات المصانع! تناقضات غريبة بين أهل هذه المدينة، فوسط حياة قاتلة بروائح الكبريت وانبعاثات أدخنة كريهة أمرضتنا خلال زيارة لم تزد علي 5 ساعات.. نجد اختلافات بين الأهالي حول مصانع أسمدة كفر الزيات .. فمع الدخول للمدينة كان البعض مرابطا عند مجلس المدينة في حالة اعتصام بسبب التلوث البيئي القاتل الناتج من هذه المصانع مطالبين بإغلاقها أو نقلها إلي أي مناطق صناعية، ومع دخول هذه المصانع تجد الآلاف من أهالي المدينة الذين يعملون في هذه المنشآت الصناعية يعيشون في حالة قلق وخوف من تعرض مصانعهم للغلق خاصة أنها مصدر رزقهم الوحيد لدرجة أنهم أقسموا أن صحتهم تمام ولا يعانون من أي أمراض ويعيشون في حياة بيئية نظيفة! كان أول القرارات للجنة وهي في طريق العودة هو فتح ملفات تلوث جميع مصانع كفر الزيات، وليس ملف الشركة المالية والصناعية للأسمدة المتهمة بتسريب إشعاعي من اليورانيوم المستخلص من الفوسفات المستخدم في السماد المحبب، فأعضاء اللجنة أجمعوا علي أن الحياة في كفر الزيات قاتلة ولابد من أخذ قرار حول مواجهة هذا التلوث دون التأثيرعلي مصادر رزق الأهالي. وفيما يتعلق بتسرب اليورانيوم قررت اللجنة بشكل مبدئي، كما طالب نائب كفر الزيات ووكيل لجنة الدفاع والأمن القومي بالبرلمان أمين راضي بتشغيل المصنع لمدة 72 ساعة متواصلة بقوته الكاملة وإجراء قياس علي وجود إشعاع من عدمه بواسطة الأبحاث علي التربة والنيل علي مستويات متباعدة في الطول والعمق والنباتات وإجراء تحاليل عينة علي المواطنين القريبين من مجال المصنع. وكانت اللجنة قد وجدت نفسها في موقف مرتبك وسط تخبطات جميع الأطراف المعنية حول وجود تسريب لليورانيوم أم لا، فكان الخلاف في البداية بين مسئولي هيئة الطاقة الذرية ومساعدي وزير البيئة من جهة وأساتذة كلية العلوم في جامعة طنطا من جهة أخري. وشهدت الزيارة مسلسلات عدة بدأت من مكتب المحافظ عبد الحميد الشناوي وسط تحفز نواب الشعب لمواجهة أي تسترات علي الإشعاع، واعترف المحافظ أنه قام بإغلاق المصنع من حوالي 9شهور بسبب 14 تحفظا بيئيا وأنه لن يقبل بأي تهاون أو استهتار بصحة المواطن، ولكن هناك استثمارات موجودة ويجب أن نتعامل بتأنٍ هنا، فتدخل محمد خليل العماري رئيس اللجنة البرلمانية قائلا: لا يهمنا الاستثمارات.. نحن لجنة الصحة وصفتنا حماية صحة المواطن التي لها الأولوية عن أي استثمارات. ورفض النواب ما طالب به أحد مسئولي الطاقة النووية بأن الموضوع يتم التعامل معه بسرية تامة حتي لا يثار الذعر بين الأهالي وأن يتم الابتعاد عن الصحافة تماما، وإذا تأكدنا من عدم وجود تسرب إشعاعي نعلن ذلك للجميع، واذا اكتشفنا وجود تسريبات فلنقم بمعالجته دون معرفة الصحافة، مما أثار النواب قائلين: إحنا مبنعملش حاجة غلط .. إحنا بنصحح الغلط والصحافة طول عمرها بتساعدنا. وبين شد وجذب وجه عميد كلية العلوم بطنطا الاتهام إلي الخبير د. طارق النمر صاحب الأبحاث التي كشفت وجود يورانيوم، بأنه غير متخصص في الطاقة النووية وأنه علي المعاش وصاحب بروباجندا، وهنا اعترض النواب قائلين: إن هناك لبسا لا يقبلون به وتلاعبا بالبرلمان ، فبعد أن جاء النمر منذ أسبوعين ليتحدث عن إشعاعات يأتي عميد علوم طنطا ليقول إنه غير متخصص مطالبين بمحاكمة الكاذب أو المخطئ فيهما. وفي إطار المحاكمات أيضا، فجرت لجنة التقصي مفاجأة أثناء اجتماعها بمقر الشركة في وجود التنفيذيين والمسئولين عن القضية، وكانت المفاجأة هي الخطاب الذي صدر علي أساسه حكم المحكمة فيما يتعلق بتسرب اليورانيوم، ويقول الخطاب إن كلية العلوم بجامعة طنطا هي المعنية بالكشف والتحقيق في وجود تسريبات إشعاعية من عدمها وهيئة الطاقة النووية غير معنية بذلك فارتبكت القاعة من فحوي هذا الخطاب، لأن الهيئة هي المعنية بحكم القانون بالكشف الإشعاعي، وطالبوا بالكشف عن مرسل الخطاب فقال العماري إنه طارق النمر فصاح المسئولون من الطاقة الذرية ووزارة البيئة بأنه انتحل صفة غير صفته وخالف القانون وما قام به جريمة يحاكم عليها، فكان التدخل من نائب رئيس جامعة طنطا الذي أعلن أن النمر لا يمثل الجامعة وأنه علي المعاش وليس له أدني علاقة بهذا الأمر، والجامعة مستغنية عن خدماته!