مازال الظلاميون من فقهاء المصادرة، ومحترفى التحريم والتجريم يطلون علينا بعيونهم الزجاجية، يعقدون لجان محاكم التفتيش، يزاولون من خلالها نشاطهم المريب والقبيح فى خنق الحريات وتجريم المبدعين، والتنقيب فى قلوبهم وصدورهم لضبط كوامن الانحراف الأثيم.. ونوايا النفس الخبيثة سعيا إلى ردة حضارية تشمل الفن والثقافة والحياة. لقد كنا فيما مضى نحتمى بالمثقفين والفنانين فى التصدى لدعاة التخلف وأعداء التنوير والجهلة الذين لايفرقون بين الخطاب الأخلاقى والدينى، وبين الخطاب الفنى.. والذين لو انسقنا وراء جهلهم وتخلفهم لحطمنا التماثيل واللوحات العارية وحرقنا مسرحيات «شكسبير» وروايات دستوفيسكى وقصص تشيكوف وكتب «ألبير كامى» و«سارتر» وأعمال «نجيب محفوظ» و«يوسف إدريس» وكتب الفلسفة وكل إبداعات التراث الإنسانى.. ولضمنا والسماك الذى طعن «نجيب محفوظ» فى رقبته خندق واحد.. ولسادت ثقافة الهكسوس.. ولطلت علينا آثار العهد المملوكى فى التفكير ولتوقف الإبداع. المصيبة أن الأمر لم يتوقف فقط عند حدود اختلاط الخطاب الدينى بالخطاب الفنى.. بل شمل أيضا اختلاط الخطاب الدينى بالخطاب الرياضى.. أقول هذا وقد أضحكتنى المفارقة المدهشة.. فبينما خصصت «روزاليوسف» فى عدد سابق ملفا بعنوان «الدين والكرة» دعت فيه إلى رفض وصف منتخب الساجدين.. وعدم الانسياق وراء مروجى الفتن ومحترفى تعكير الأجواء الصافية بحثا عن صيد خبيث.. أولئك الذين نجحوا فى النزول بالدين من عنان السماء إلى الشوارع والميادين.. والساحات والملاعب حتى أصبح مثل عصا غليظة معلقة فى الهواء لإرهاب الآمنين والمؤمنين بالفطرة بما يمثله ذلك من استنفار مارد الغضب الأعمى وإحالة من يحاول التصحيح والتحليل إلى مارق مهما كانت درجته العلمية وشفافية وصدق اجتهاده. ذلك أن التصاق وصف «الساجدين» بمنتخب مصر الوطنى فى اللعبة الأكثر شعبية وجاذبية فى العالم يصعب جدا التعامل معه على أنه مجرد Nick name هدفه تمييز منتخبنا لأنه ينسحب على شخصية الدولة المفترض أنها وفقا للدستور دولة مدنية لا دينية. تتمثل المفارقة المضحكة فى تصور عكسى أوردته الكاتبة المعروفة صافى ناز كاظم فى مقال أخير لها بعنوان «تفسير المطالبة بتحريم مباريات كرة القدم»، تستنكر فيه أن يتم اختصار معارك مصر وأفراحها وأحزانها فى إنجازات لعبة اسمها كرة القدم.. وتتحدث عن المباراة المؤسفة التى جرت فى 18 نوفمبر 2009 بين منتخبى مصر والجزائر، والتى أسفرت عن تنابز فاحش عشوائى قادته أو استخدمته أطراف من البلدين الشقيقين لم تكن كلها من السوقة ولا من الدهماء ولا من متوسطى العلم والثقافة.. وترى أن كل ما يؤدى إلى عداوة وبغضاء بين أهل وإخوة هو نزع من نزع شياطين الإنس والجن.. وهو بالقياس على الخمر والميسر يكون من الواجب اجتنابه لعلنا نفلح.. وهى تضع هذا التفكير أمام أهل الذكر والعلم لعلهم يرون أن من الواجب إصدار فتوى بتحريم مباريات كرة القدم حتى يعود أهلها إلى رشدهم وتعود الرياضة إلى أصولها.. حتى لا نجد أنفسنا نستدرج إلى حمية الجاهلية نقتل أنفسنا ونخوض فى أعراضنا ونرمى محصناتنا من دون تأثم أو خشية من لعنة الله فى الدنيا والآخرة.. هكذا بجرة قلم أصدرت الكاتبة فرمانا باتا قاطعا بإلغاء ذلك النشاط الإنسانى البشرى.. وإغلاق الأندية والاتحادات ونسف المدرجات التى هى أصنام آثمة وتسريح اللاعبين.. وإحراق منزل «جدو» اللعين - الذى لقبه الكفرة بصانع السعادة - وقريته «حوش عيسى».. ونفى الزنديق زيدان الذى يلعب فى نادٍ أجنبى كافر.. ويقبل صديقته جهارا نهارا قبلات ساخنة احتفالا بالفوز.. وتكفير «حسن شحاتة» وجهازه الفنى وقطع أيديهم وأرجلهم.. «خلف خلاف» - ذلك رغم أن المعلم يقوم بزيارة «السيدة زينب».. والحسين.. وقراءة القرآن والمعوذتين قبل المباريات.. ويتبرك بالمسبحة وذبح العجول.. ويصطحب معه فى بعثة المنتخب رجل دين حتى يجلس مع اللاعبين ويهدئ من روعهم قبل المباريات الصعبة ويبث الطمأنينة فى نفوسهم.. حتى لا تعود بوحشية إلى فعلة «قابيل» الشعناء قاتل أخيه «هابيل».. داعية كل الأطراف التى أججت الفتنة إلى واجب إخماد الحريق فورا والاعتذار إلى الأمة العربية بأسرها عن جريمة إباحة سفك دمها وشغلها بتفاهة الأمر عن ذكر الله وعن الصلاة فى ظل مناسك تجميعنا لاتفريقنا إلى هجائيات الشاعرين الآثمين «جرير» و«الفرزدق» أى أنه بينما رأى المثقفون نوعاً من التزيد المتمسك بأهداب تدين شكلى فرضه اللاعبون وجهازهم الفنى فى تعسف وإقحام وخلط بين «الدين» و«الرياضة» رافضين أن يكون التدين سر التفوق طارحين سؤال: «هل الله ضد الفريق المهزوم؟!» على النقيض ترى الكاتبة أن «الساجدين» مارقون وأن كرة القدم هى ساحة الشيطان.. والرياضيون إخوان الشياطين. هذا وقد سبق فى نفس هذا السياق التحريمى القائم على فتوى المصادرة والأحكام غير النقدية القاطعة... وفى مجال آخر هو مجال الفن التشكيلى أن طرحت الكاتبة افتراضا يحمل حكما حاسما باترا تفرضه علينا - مؤداه أنه إذا كان كل ما ينتمى إلى عالم التجريد فى الفن التشكيلى - من وجهة نظرها - «حلال».. إذن فإن كل ما ينتمى إلى عالم «التشخيص» و«التجسيد» هو حرام.. وبالتالى فإن هناك فنا «مؤمنا» وفنا «كافرا» (نظرية نقدية جديدة) مثلما هناك مايوه شرعى ومايوه غير شرعى.. وقد سبق أن قالت بعد زيارتها لمعرض للفنان الكبير الراحل: «كنير كنعان» حيث أكدت أنها أشفقت عليه أن يسير وحده باسم «مصر» مع فرقة الاستكشاف العالمى الفنى للتحرر من قيود «المرئى» أى التجسيد والتشخيص الذى يبتر الحقيقة ويكرس للظاهر المخادع.. والجملة غريبة وغامضة.. تقرأها «تنخض» وتتصور أنها تحمل مضمونا عميقا.. وتتأملها فإذا بها خاوية من أى معنى له قيمة، فلم يصادفنى هذا التحليل العجيب الذى يحقر من أهمية التشخيص فى أى مدرسة أو اتجاه نقدى أعرفه أو يعرفه الفنانون والنقاد التشكيليون.. هذا التحقير الذى يصير بموجبه الفنانون المشخصون من أمثال «بيكار» وسيف وانلى ومحمود سعيد وحامد ندا وجورج البهجورى وجاذبية سرى مثواهم جهنم وبئس المصير. وهذا معناه - باختصار وبساطة ودون مواربة - أن الخطاب الدينى هو البوصلة التى تحرك اتجاهات وأهداف الفنان.. ولتذهب إلى الجحيم كل المدارس الفنية التى صنعت تاريخ الفن التشكيلى، فالتجريدية هى الأجدر والأقدس.. أما من يبدعون التماثيل لشخصيات العظماء فهم فنانون غير راشدين.. ذلك أن التماثيل مظهر لحصيلة فنية وثقافية لديانة لانؤمن بها ولاتعبر عنا.. ولايحبها شعبنا ولا يحترمها، وبالتالى فإن الكاتبة بثقافتها العريضة قد وضعت نفسها فى خندق واحد مع تلك الأمية التى قفزت فى يوم ما من فوق سور متحف الفنان المثال «حسن حشمت» حطمت تماثيله باعتبار أنها أصنام. المدهش إذن فى هذا الهراء أن الكاتبة أعطت لنفسها حق أن تفرض وصايتها علينا جميعا كمصريين وتختصرنا فى شخصها الكريم معبرة عن توجهنا «التجريدى المؤمن الأصيل» فى مستهل القرن الواحد والعشرين.. كما عبرت عن توجهنا الحتمى والأيديولوجى العميق إلى تكفير كرة القدم.