بعد أن رأينا للأسف تضارب آراء رجال الدين حول النقاب، هل هو فريضة على النساء أم لا، وبعد اختلاف رجال القانون حول كون ارتداؤه حرية شخصية أم هو مرتبط بقيود مصالح وأمن المجتمع، أصبح الدور الآن على اختلاف رجال القضاء حول النقاب.. الاختلاف ظهر فى عدة أحكام قضائية أصدرها عدد من محاكم القضاء الإدارى مؤخرا فى القاهرة والمنصورة وبنى سويف وأسيوط حول أحقية ارتداء الطالبات للنقاب فى الامتحانات وداخل المدن الجامعية. الأحكام القضائية التى أعطت للطالبة الأحقية فى ارتداء النقاب عللت أن منعهن يعد تجاوزاً للحدود المنطقية والحقوق الشخصية التى كفلها الدستور المصرى ولأحكام محاكم مجلس الدولة «محكمة القضاء الإدارى والمحكمة الإدارية العليا» التى أصدرت مؤكدة على أحقية المرأة فى ارتداء النقاب، وأيضا مخالفة لنصوص المادة الثانية من الدستور التى تؤكد على أن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع فى مصر والمادة 41 من الدستور التى تؤكد على أن الحرية الشخصية حق طبيعى وهى مصونة لا تمس. بينما جاءت أسباب الأحكام القضائية التى أيدت قرار وزير التعليم العالى وعدد من رؤساء الجامعات بمنع دخول الطالبات الامتحان بالنقاب، أن المنع لم يكن القصد منه تقييد حرية الطالبات بهدف الانتقام منهم لأسباب شخصية وإنما استهدف القرار فى المقام الأول المصلحة العامة، حيث يصعب إقرار إجراءات خاصة للتحقق من الطالبات المنتقبات لدى دخولهن لجان الامتحانات المتناثرة. كما أن وسائل التكنولوجيا الحديثة - كما قالت الأحكام - وخاصة التليفونات المحمولة ومستلزماتها والتى بلغت حدا متناهيا فى صغر حجمها أضافت عبئا على أعمال المراقبين فى لجان الامتحانات فبات من الصعب اكتشافها، وبالتالى لا ضرر إزاء أن تكشف الفتيات عن وجوههن أثناء الامتحانات، طالما كان ذلك محددا بمدة مؤقتة من الناحية الزمنية وذلك لحين انتهاء عمليات الامتحانات. ومع تضارب الأحكام والأسباب عقد المستشار «عادل فرغلى» رئيس محاكم القضاء الإدارى اجتماعاً موسعاً مع جميع رؤساء المحاكم لمعرفة سبب هذا التضارب رغم أن هناك مبدأ مستقر عليه من فقهاء القضاء بأن القاضى لا سلطان عليه فى قضائه سوى القانون، ومن ثم فالقاضى حر تماما فى تكوين عقيدته ورأيه لذلك من الطبيعى أن نجد اختلافاً فى كثير من الأحكام فى نفس الموضوعات. المستشار عادل فرغلى قال لنا أنه لاحظ خلال الأيام الماضية ومن خلال أحكام محاكم القضاء الإدارى فى القاهرة والمنصورة وبنى سويف وأسيوط أن هناك اختلافا وتناقضا فى الأحكام والحقيقة أن هذا الاختلاف جاء نتيجة لاختلاف من أقام هذه الدعاوى القضائية. فهناك قضايا طالبت فيها الطالبات المنتقبات بإلغاء قرار رئيس الجامعة بمنعهن من دخول الامتحانات وفى هذه القضايا حكمت محاكم القضاء الإدارى فى جميع المحافظات بأحقيتهن بدخول الامتحانات مع إلزامهن بالكشف عن وجوههن عند دخول لجان الامتحان للتحقق من شخصيتهن لأن هذا مبدأ مستقر عليه فى أحكام القضاء الإدارى «الحرية المقيدة بالنظام». وهناك قضايا - والكلام للمستشار عادل فرغلى - طالبت فيها المنتقبات بالأحقية فى ارتداء النقاب داخل لجان الامتحانات وكان رأى الجهة الإدارية «وزير التعليم العالى ورؤساء الجامعات» بأن النقاب يهيئ فرصة للغش فى الامتحان بدون رقابة ويترتب على ذلك عدم المساواة بين الطلبة خاصة مع التقدم التكنولوجى ووجود البلوتوث وتلقى الإجابات من الخارج. وفى هذه القضايا حدث تضارب فى الأحكام، فبعضها أيدت عدم ارتداء النقاب داخل اللجان والبعض أعطى لهن الحق. وجميع هذه الأحكام بالطبع سيتم الطعن عليها أمام المحكمة الإدارية العليا التى لم تصدر الحكم النهائى بعد. ؟ سألنا المستشار عادل فرغلى: لكن هناك أحكاما قضائية نهائية صادرة من المحكمة الإدارية العليا على أحقية الطالبة أو المرأة فى ارتداء النقاب. - أحكام المحكمة الإدارية العليا النهائية كانت خاصة بدخول إحدى طالبات جامعة الأزهر مكتبة الجامعة الأمريكية بالنقاب المحكمة أعطت لها هذا الحق لأن هذا يعتبر حرية من الحريات العامة التى كفلها الدستور والقانون المصرى، ولكن فى نفس الوقت هذه الحرية مقيدة، حيث أعطى الحكم الحق للجهة الإدارية - الجامعة الأمريكية - الأحقية فى التأكد من شخصية الطالبة بالكشف عن وجهها عند دخول الجامعة، وبالتالى يحق للطالبة ارتداء النقاب داخل الجامعة وفى المدرجات، أما بالنسبة للنقاب داخل الامتحان أو ارتداء أستاذة الجامعة للنقاب فى المحاضرات - رغم أن التدريس هو فى الأساس تفاعل بين الأستاذ والطالب - فإن المحكمة الإدارية العليا لم تفصل فى هذا بعد. ؟ ولماذا اجتمعت مع رؤساء محاكم القضاء الإدارى؟ - اتخذنا قراراً فى الجمعية العمومية لمحاكم القضاء الإدارى هذا العام على منع تضارب الأحكام التى تصدرها المحاكم مادامت هناك مبادئ عامة.. وعندما يرى أى رئيس محكمة أنه يختلف مع أحد هذه المبادئ ويقتنع برأى مخالف سيحكم به، عليه أن يبلغنا وتعقد الجمعية العمومية، فقد يقنعنا برأيه أو نقنعه، لكن فى النهاية عليه أن يحكم بما هو مقتنع به لأن للقاضى الحرية المطلقة فى أحكامه. وعندما عقدنا الاجتماع الأسبوع الماضى وحضرنا الأحكام اكتشفنا عدم وجود اختلاف بين الأحكام وإنما الاختلاف فى موضوع أو طلبات الدعوى القضائية. إذا كان الحال هكذا فى أحكام محكمة القضاء الإدارى مع النقاب فإن نفس الحال بالنسبة لأحكام المحكمة الإدارية العليا وأحكام المحكمة الدستورية العليا وإن كانت المشكلة أن الاختلاف بين أحكام محكمة القضاء الإدارى يتم الطعن عليها أمام المحكمة الإدارية العليا التى تصدر أحكاماً نهائية وبالتالى فإن الإدارية العليا تبقى الأقوى فى تنفيذ الأحكام وأيضا أحكام المحكمة الدستورية العليا أحكام نهائية وهى الأقوى بين جميع محاكم مصر. المحكمة الإدارية العليا أعطت الحق للمرأة فى دخول الجامعة والنوادى بالنقاب، بينما المحكمة الدستورية العليا رأت عدم دخول الطالبات المدارس والمعاهد بالنقاب ولكل منهما أسانيده القانونية. أحكام المحكمة الإدارية العليا عن أحقية الطالبات فى ارتداء النقاب أكدت فى أسبابها أنه إذا كان جمهور علماء الإسلام قد استقر عندهم أن وجه المرأة ليس بعورة، فيجوز لها الكشف عنه، إلا أنهم لم يحظروا عليها ستره إلا فى الطواف حول الكعبة المشرفة. أما حكم المحكمة الدستورية العليا الذى أيد منع النقاب فى المدارس والمعاهد فله أيضا أسانيده القانونية والدينية.. الحكم كان يوم 18 مايو عام 1996 برئاسة المستشار «عوض المر» وأيد قرار وزير التعليم آنذاك الدكتور «حسين كامل بهاءالدين» بمنع النقاب وقال فى حيثيات الحكم أن قرار منع النقاب فى المدارس لاينال من حرية العقيدة ولايقوض أسسها أو يعطل شعائر ممارستها ولايناقض جوهر الدين فى الأصول الكلية التى يقوم عليها، بل يعتبر اجتهادا مقبولا شرعا ولايتوخى غير تنظيم رداء للفتاة فى دائرة المعاهد التعليمية عبر المراحل الدراسية التى حددها بمالاينتقص من حيائها أو يمس عفاتها أو شئ بعوراتها فإن هذا القرار يدخل دائرة تنظيم المباح ولايعد تعديا على حرية العقيدة. المستشار «محمد محمد غنيم» رئيس هيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية العليا فى دراسته عن حقوق المرأة بين الشريعة الإسلامية والقانون المصرى والقضاء الدستورى فسر لنا هذا الحكم وأسانيده بوضوح، وقال إن هذا الحكم قائم على خمسة أسباب: أولها: إن هيئة وثياب المرأة لايوجد بشأنه نصوص قطعية الدلالة فى الشريعة الإسلامية ومن ثم فهى من المسائل الاختلافية التى ينفتح لها باب الاجتهاد. السبب الثانى: أن ما تتوخاه الشريعة الإسلامية من ضبطها لثياب المرأة أن تعلى قدرها ولاتجعل للحيوانية مدخلا إليها ليكون سلوك المرأة رفيعاً لا ابتذال فيه ولا إحتيال وبما لا يوقعها فى الحرج إذا أعتبر جسمها كله عورة مع حاجتها إلى تلقى العلوم على اختلافها وإلى الخروج لمباشرة ما يلزمها من الأعمال التى تختلط فيها بالآخرين. السبب الثالث: أن قرار منع النقاب لا ينال من حرية العقيدة التى نص عليها الدستور فى المادة 46 منه ولا يخالف جوهر الدين فى الأصول الكلية بل يعتبر اجتهاداً مقبولاً شرعاً لا يتوخى غير تنظيم رداء للفتاة فى دائرة المعاهد التعليمية عبر المراحل الدراسية التى حددها بما لا ينتقص من حيائها أو يمس عفافها أو يشى بعورتها. والسبب الرابع: عدم إخلال القرار بالحرية الشخصية إذ أن تلك الحرية لا ينافيها أن يفرض المشرع فى دائرة بذاتها قيوداً على الأزياء التى يرتديها بعض الأشخاص فى موقعهم من هذه الدائرة لتكون لها ذاتيتها فلا تختلط أرديتهم بغيرها. أما السبب الأخير فهو عدم إخلال القرار بما كفلته الدولة للتعليم إذ أنه لم يطلق أزياء طلبة المعاهد التعليمية من القيود بل جعل رداءهم موحداً وملائما بما لا يخل بقيمهم الدينية.