خرجت المرأة فعليا لميدان العمل الرجالي منذ الحرب العالمية الثانية بتشجيع من الحكومة الأمريكية لتملأ الفراغ الاجتماعي والمهني الذي خلفه ذهاب الرجال إلي الجبهة، وسرعان ما انتقلت الفكرة من الولاياتالمتحدة إلي دول العالم الغربي وعلي استحياء للشرق.. انتهت الحرب ورفضت المرأة في العالم كله أن تعود مرة أخري مجرد "ربة منزل"! "الإيكونوميست" البريطانية رصدت المياه الكثيرة التي جرت تحت جسر "عمل المرأة" علي امتداد العقود الماضية، وقدمت بالوثائق والدراسات استشرافا لمستقبل المرأة العاملة والتحديات التي تنتظرها والحلول العملية التي يجب علي الحكومات والمؤسسات توفيرها من أجل الاستفادة من الطاقة الإبداعية الجبارة للنساء! المجلة البريطانية خرجت بغلاف يحمل نفس "البوستر" الشهير الذي ساد الحملة الإعلامية "الأمريكية" منذ 70 عاما لفتاة ترتدي الأفرول وتعصب رأسها بمنديل وتستعرض عضلاتها، وفيما كان شعار حملة الحرب العالمية "بإمكاننا أن نفعلها"، فإن عنوان غلاف "الإيكونوميست" "نعم، فعلناها" ، وبين الشعارين عقود طويلة قضتها النساء العاملات في صراع لإثبات الذات والحفاظ علي الحياة الأسرية ورعاية الأبناء قبل أن يتفوق الوجود الحريمي علي الرجل في سوق العمل مستحوذا علي نصفه إلا قليلا في قطاعات بالغة الحيوية، وفي دول العالم الثري ! عبر 5 صفحات ناقشت المجلة "القوة النسائية"، نظرية "النسوية" أو "الفيمينزم" بمفهومها الجديد، اقتحام المرأة لسوق العمل، مؤكدة أنه في غضون أشهر قليلة ستتخطي المرأة حاجز ال 50٪ من إجمالي القوي العاملة في أمريكا، محققة بذلك أغلبية غير مسبوقة، لكن ذلك لا يمنع أن النساء يشكلن بالفعل نسبة 50٪ + 1 أو أكثر بين خريجي الجامعات في دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ، كما أن النساء يحتللن قمة الهرم الإداري في مؤسسات تجارية متعددة الجنسيات في أوروبا وأمريكا مثل "آريفا" الفرنسية و "بيبسيكو" الأمريكية، وبرغم ذلك فإن التغيير الاجتماعي الأكبر الذي ينتظره العالم هو تمكين المرأة اقتصاديا، فالنساء الآن يدرن مؤسسات وهيئات، كانت تعاملهن فيما مضي كمواطنين "درجة ثانية"، حيث ظلت المرأة فترة طويلة عرضة "للمفاضلة الجنسية"، أي ميل أصحاب العمل إلي توظيف الرجل لمجرد أنه رجل حتي وإن تساوي معها في المؤهلات، وأحيانا حتي لو كان أقل منها كما أنها عانت طويلا من فكرة تخليها عن حلمها المهني الخاص وترك العمل بمجرد الزواج وإنجاب الأولاد ! لقد رحب الرجال في مجمل الأمر بعمل المرأة إلا أنه تظل هناك حقيقتان مهمتان كان علي السيدة العاملة دائما التعامل معها، أولا تلقيها لرواتب أقل دائما من نظرائها الرجال في نفس الدرجة الوظيفية، وتأخير ترقيها إلي المناصب المهمة من ناحية، ومن ناحية أخري تدهور حياتها الأسرية واضطرارها إلي تحمل ضغوط وصعاب شاقة جدا من أجل الحفاظ علي استقرار الأسرة وتربية الأبناء، وهي مهمة عسيرة في ظل قوانين قيدت كثيرا من حريات المرأة، ففي الولاياتالمتحدة مثلا لا تمنح الأم إجازة أمومة وليس من حقها إجازة حضانة لا مدفوعة الأجر ولا غير مدفوعة، حيث توفر التشريعات هناك للموظفة إجازة وضع فقط غير مدفوعة الأجر بحد أقصي 12 أسبوعا في الدولة التي استغلت طاقات نسائها لأقصي حد لمدة تربو علي قرن إلا ربع وسط ضغوط قوية لتغيير الوضع، أما في أكثر دول أوروبا، فإن المرأة تحصل علي إجازة وضع وحضانة تمتد لشهور لكنها غير مدفوعة الأجر، مما يعني إسقاط حقها تعسفيا في الحصول علي دخل ثابت في الوقت الذي يعني فيه رعاية طفل جديد احتياجها إلي كل مليم، وهو ما أدي بدوره إلي تأخير الموظفات لممارسة حقهن في إنجاب الأطفال لأقصي حد ممكن، وبالتالي سقطن فريسة لصناعة أدوية الإنجاب وعمليات التلقيح الصناعي مما يلتهم القطاع الأغلب من دخولهن لاحقا، كما أن تلك الدول الرأسمالية الصناعية الثرية لا تعمل علي توفير نظام رعاية صحي وسليم للأسرة والأطفال، مما يشكل ضغطا هائلا علي المرأة نفسيا وصحيا واجتماعيا، وينعكس بالسلب في الوقت نفسه علي مستقبل هؤلاء الأطفال، وبالتالي علي مستقبل المجتمع كله، والغريب أنه برغم اندفاع قطار "عمل المرأة" عالميا بأقصي طاقاته متجاوزا كل تلك العراقيل، تظل هناك مجتمعات تحاول إيقافه وإبطاء سرعته منها اليابان وبعض دول جنوب أوروبا، وبالطبع علي رأس الجميع الدول العربية، وكلها ستدفع ثمنا غاليا وقريبا جدا لإهدار طاقاته النسائية وإحباط أمل المرأة العاملة فيها حسبما تقول "الإيكونوميست"! يسير منحني عمل المرأة في العشرينيات من عمرها بشكل جيد جدا في المؤسسات والشركات التي تندرج تحت تصنيف جهات العمل الأكثر ضغطا، حيث تحقق فيها المرأة نجاحات مذهلة وملموسة، ليبدأ المنحني المهني لها في التباطؤ في الثلاثينيات بشكل يعجزها عن تحقيق طموحها خاصة إذا كانت زوجة وأما، ليتوقف المنحني تماما في أربعينيات العمر نظرا لصعوبة الجمع بين متطلبات العمل التي تصل إلي ذروتها بطبيعة الحال في تلك الفترة، والحفاظ علي الأسرة التي تصل إلي نقطة حرجة جدا في الفترة نفسها، مما يؤدي إلي ظاهرة "التسرب الوظيفي" - إن جاز التعبير - أو خروج المرأة من سوق العمل في أقصي مراحلها العمرية نشاطا وإبداعا، وتزداد الأزمة حدة بين "النساء المعيلات" أو أولئك اللاتي يعلن أسرهن بشكل كامل في حالات الطلاق ووفاة الشريك! وإذا كانت "المفاضلة الجنسية" هي العقبة الحقيقية التي واجهت مسار النزعة النسوية في بداية التاريخ المهني للمرأة، فإن الأمومة باتت المشكلة الرئيسية أمام النظرية النسوية في مرحلتها الحالية، ففي الولاياتالمتحدة تحصل السيدة العاملة التي لا أطفال لها علي دخل مساو تقريبا لدخل الرجل، بينما تقل كثيرا النسبة لدي الأم العاملة، كما لوحظ أن الأطفال الذين ينتمون لأمهات عاملات فقيرات الدخل يعانون من الفقر بالتبعية، وكذلك الذين ينتمون لأسرة متوسطة الدخل يعمل فيها الأب فقط مقارنة بالشريحة الاجتماعية نفسها التي يعمل فيها الوالدان، وبعبارة أخري فإن رفاهية جيل المستقبل ترتبط بشكل وثيق بعمل الأم واستقرارها فيه. تلك التحديات لم يعد من الممكن تجاهلها أكثر من ذلك، وبالفعل فإن هناك اتجاها عالميا يسير علي استحياء للتعامل معها، وتقديم حلول لها، وإن كانت فردية أو محدودة النطاق، ولعل أكثر هذه الحلول مدعاة للتأمل هو ما أطلق عليه "مرونة موقع العمل"، فكثير من المؤسسات وخاصة المؤسسات القانونية والاستشارية لم تعد تقيد القوي العاملة النسائية فيها "بالقعدة علي المكاتب" طوال ساعات العمل، وبعضها تغاضي بالفعل عن ضرورة وجود الموظفة بالمكتب ما لم تكن المسألة تستدعي ذلك جديا، مقابل أن يتم إنجاز مهامها الوظيفية بالكفاءة نفسها، وبعض أرباب العمل وجد أن "الاستثمار في الجو الأسري" يحقق فائدة قصوي لموظفيه، فبدلا من تشتيت المرأة بين أسرتها وعملها، فيمكن مساعدتها علي إنجاز مهامها المنزلية مادام ذلك سيصب في النهاية في الصالح العام لسير العمل، بل إن هناك من ذهبوا لأبعد من ذلك لتوفير "بيئة مهنية صديقة للأسرة"، حيث لم يجد أصحاب العمل غضاضة في التعامل مع موظفيهم من الرجال من منطلق تلك الآلية إذا ما كانوا يتبادلون رعاية الأطفال وأعمال المنزل مع شريكاتهم، فيمكن للرجل ممارسة مهام عمله من المنزل مادامت الضرورة اقتضت ذلك، وأصحاب هذا الفكر يرون أن الإصرار علي الاحتفاظ بالموظفين علي مكاتبهم هو نوع من التعنت في ظل الدفعة التكنولوجية الهائلة التي وفرت أجهزة الكمبيوتر والاتصالات المرئية بأسعار مقبولة وبأعلي الإمكانيات، وينتظر هؤلاء المزيد من التطور التكنولوجي لتوظيفه من أجل استقرار الأسرة، فإذا كانت المكنسة والغسالة ساعدت منذ بدايات القرن الماضي علي خروج المرأة من بيتها للعمل مقابل توفير بضع ساعات من المهام المنزلية التقليدية، فإن الكمبيوتر والموبايل سيعيدانها إلي المنزل من جديد دون أن تفقد ميزة عملها بالخارج! "مرونة موقع العمل" قوبلت لدي البعض بمرونة من نوع آخر، فالبعض طرح "مرونة ساعات العمل" كخطة لدعم عمل المرأة، فبإمكانها أن تحصل علي عدد مضاعف من أيام الإجازات مقابل توزيع ساعات تلك الإجازة الإضافية علي جدول العمل دون الإخلال بمتطلباته بما يوفر لها فرصة أكبر للتواجد مع أسرتها، إلا أن النموذج الأوروبي وتحديدا الإسكندنافي للتعامل مع واقع عمل المرأة داخل وخارج المنزل هو نموذج يدعو للتأمل إن لم يكن الانبهار برغم أن بعضا من أوجه القصور إذا ما قورن بالنتائج المهنية التي حققتها المرأة في الولاياتالمتحدة، ففي النرويج والسويد لجأت النساء منذ سنوات إلي استغلال نظام "الكوتة" أو حصة المرأة البرلمانية وحصصها في المناصب العامة إلي أقصي حد حتي أن نسبة لا يستهان بها من العاملين في نواحي التشريع ومنظومة العمل القانوني هناك هن من النساء اللاتي أسهمن بدورهن في سن قوانين تخدم المرأة إلي حد بعيد وتصب في إطار دعمها مهنيا! هناك 40٪ من المشرعين في دول الشمال الإسكندنافي من السيدات، وهؤلاء لم يدخرن جهدا في الضغط علي الحكومة لتوفير حضانات مدفوعة الأجر وعالية المستوي لأبناء العاملات في مكان عملهن، ولذلك فإنه ليس من المستغرب أن تصبح هذه الدول صاحبة أكبر معدلات لتوظيف النساء في العالم كله، وأقل معدلات بطالة نسائية كما أنها حققت المعدلات الأدني عالميا فيما يتعلق بالمشكلات الاجتماعية والنزاعات العائلية المرتبطة بالحضانة ورعاية الأطفال مقارنة ببريطانيا وأمريكا! ولعل هذا من شأنه أن يسيل لعاب البعض في السير وراء النهج الإسكندنافي مطالبين بتدخل الدولة لتشجيع عمل النساء وتوفير الرعاية المادية الفائقة لهن، إلا أن "الإيكونوميست" تلفت النظر إلي استحالة ذلك، فتفضيل الموظفين علي أساس الانحياز الجنسي يصب في إطار فكري غير ليبرالي ويحيد عن مبدأ تكافؤ الفرص، كما أن تلك الرعاية المادية الفائقة طويلة الأجل وإجازات رعاية الطفل الممتدة من شأنها إضافة عبء اقتصادي قوي علي المؤسسات المهنية، مما يدفعها في نهاية الأمر إلي الانحياز لتشغيل الرجال، وهو ما يفسر حسبما تري المجلة البريطانية - عمل النساء في السويد وفي عدد من الدول الإسكندنافية في القطاع الحكومي العام وانخفاض نسبة النساء العاملات في المؤسسات الاقتصادية وهيئات الإدارة إلي أقصي حد ممكن مقارنة بأمريكا التي تتقلد فيها السيدات مناصب إدارية ومالية واقتصادية حساسة، فضلا عن عملهن بالقطاع الخاص بمعدلات فائقة عكس السويد! لكن ذلك لا يعني بالضرورة ترك المرأة تخوض المعركة وحدها، بل من الممكن طرح بعض البدائل والحلول التوفيقية غير المكلفة التي تخدم هدفين في الوقت نفسه، أولا: مساعدة السيدة العاملة، وثانيا: رعاية الأسرة بشكل حقيقي يصب في مصلحة مستقبل المجتمع، ومن هذه الحلول مثلا تعديل الجدول الدراسي، والمنظومة التعليمية، وهي حلول يجري تطبيقها بشكل فردي بحت، فالمدارس الألمانية تنتهي الدراسة بها عند منتصف النهار، وهناك عدد منها بدأ تأخير ساعات انتهاء اليوم الدراسي ليستوعب أبناء العاملات اللاتي يتأخرن في العمل لما بعد منتصف النهار كثيرا، وفي الولاياتالمتحدة بدأت بعض المدارس تقدم جدولا دراسيا ينتهي متأخرا، وألغت الإجازة الصيفية التي تستغرق شهرين، وبعبارة أخري فإن هناك مدارس بدأت بالفعل تتجه لتولي مسئولية أكبر في رعاية الأبناء وحتي لا تضطلع بها الأم وحدها، وتري "الإيكونوميست" أن أمريكا لا تستثمر سوي نسبة ضئيلة من إجمالي الدخل القومي في رعاية أطفالها، وأنه آن الأوان كي يتغير ذلك قبل أن يفكر أوباما في طرح شعاره الشهير: "دعما حقيقيا للأسرة"! بشكل عام لم يعد "عمل المرأة" خيارا يمكن التخلي عنه، فإذا كانت "النسوية" في بداياتها تدعو للمساواة بين الرجل والمرأة، فإن عقودا من عمل المرأة خلقت "نظرية نسوية جديدة" قوية الأركان ومدعومة بالأبحاث والدراسات، والأهم بالتجربة العملية، فالمرأة أقل عدوانية من الرجل وأكثر سعيا وراء إرضاء جميع الأذواق وخلق تيار جمعي، وهي أقل تنافسية وأكثر تعاونا، وأقل هوسا بالسلطة وأكثر ميلا نحو العمل الجماعي، وحسبما تري "جودي روزنر" - جامعة كاليفورنيا - فإن المرأة اليوم أكثر براعة في الأعمال "التفاعلية" و"تبادلية المعلومات"، وهناك آراء مهمة تري أن المرأة "أفضل تفكيرا من الرجل" و"أكثر مثالية منه"، وكلها آراء مبنية علي قياس قوة المرأة بعد سنوات طويلة من اقتحام سوق العمل والتلاحم مع الرجل والاضطلاع بمهامه الخشنة بهدف إثبات الذات! في الوقت الذي تري فيه بعض النساء أنهن ربما كن أكثر حضورا في مؤسسات العمل ذات الطابع الفني والإبداع الحسي، فإنهن عليهن مراجعة أنفسهن بعدما أثبتت التجربة أن المرأة أكثر تفوقا في المؤسسات المهنية الخشنة وأكثر نجاحا بعدما شغلت مناصب حساسة في "آريفا للطاقة النووية"، و"أنجلو أمريكان للتعدين" و"آرشر دانييلز ميلاند" لأعمال الزراعة، و"دوبون" للكيماويات، و"سونوكو" للبترول، و"زيروكس" للتكنولوجيا، وكلها بالمناسبة شركات ترأسها سيدات! الحقيقة أنه إذا ما تعلق الأمر بالاستقرار المادي، فإن الخيار يكون عسيرا أمام الأم فمنظومة "رعاية ما بعد اليوم الدراسي" لاتتوافر إلاَّ في عدة مناطق محدودة من العالم منها السويد والدنمارك وفرنسا بشكل محدود ومقاطعة "كيبك" الكندية، في المقابل فهناك دول بدأت تتخذ خطوات موسعة لمساعدة الأم منها النمسا وجمهورية التشيك وفنلندا والمجر التي تقدم ما يصل إلي 3 سنوات إجازة مدفوعة الأجر للأم العاملة، أما ألمانيا فقد أقرت مؤخرا "راتب إعالة" للوالد العامل لمساعدة الأم علي البقاء في المنزل وإعالة أبنائها، والطريف أن القانون قدمه وزير لشئون المرأة يعول 7 أطفال!