سواء ظهرت السيدة العذراء مريم أم لم تظهر.. فلا شك أن مئات الآلاف من المصريين تمنوا أن يزورهم طيفها.. سهروا الليالى محتشدين جنبا إلى جنب متطلعين لظهور العذراء التى أحبوها، مسلمين وأقباطا، وتمنوا أن تطل عليهم وتواسيهم بنظرتها الوادعة وروحهاالمؤمنة المطمئنة.. اجتمعوا على تبجيلها وتوقيرها.. فالمسلمون يلقبونها بالعذراء البتول خير نساء العالمين الساجدة الراكعة المصطفاة القانتة الصِديقة الطاهرة الصائمة المعصومة، وعند المسيحيين هى القديسة المكرمة المطوبة من السمائيين والأرضيين، دائمة البتولية (العذراء كل حين)، الشفيعة المؤتمنة المعينة، السماء الثانية الجسدانية أم النور الحقيقى الحمامة الحسنة أم الحمل وأم المخلص. مصر التى آوت العائلة المقدسة وأنقذتهم من الغدر، لماذا لاترد لها مريم الجميل وتزور بطيفها خيال المصريين لتهدئ نفوسهم. كيف لا تشتاق مريم إلى كل قطعة من أرض مصر لامستها قدماها المطهرتان، لكل جبل وهضبة وصحراء ووادى ومدينة وقرية مرت بها، للمصريين الذين رحبوا بها واستضافوها فى ديارهم، ألا يستحقون أن تزورهم العذراء وقت الشدة لتربت على أكتافهم وتطمئنهم أنهم شعب مبارك، وأن الساعين إلى الفرقة والفتنة لن يفلحوا أبدا فى تمزيق بلدهم؟! هى للمسلمين مطهرة من قبل أن تولد ، منذ أن نذرتها أمها وهى جنينا فى بطنها لخدمة بيت المقدس (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّى إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.. فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حسنا).. وقد شاءت حكمة الخالق عز وجل أن يجعل الجنين المبارك أنثى، فكما كرم الله تعالى الذكر وجعل آدم بدء الخليقة ، كرم الله الأنثى وألقى إلى العذراء بروح منه رسول الله وكلمته عيسى المسيح، وذلك آية للناس رحمة من الله، فى العهد الجديد »أن نسل المرأة يسحق رأس الحية« (تك15:3). وتذهب بها الأم إلى الهيكل لكى توفى بنذرها وينتهى الأمر إلى أن يكفلها زكريا زوج خالتها.. فإذا ما بلغت سن الشباب، قررت أن تحتجب عن الناس وتتخذ لنفسها مكانا شرقيا تواصل فيه تفرغها للعبادة كأنما شىء ما بأعماقها ينبئها بأنها مختلفة عن كل الناس. ويعدها للدور العظيم المقدر لها، وكلما زارها زكريا ليمدها بالطعام والشراب، وجد عندها أصنافا من الفاكهة، والطعام، فيسألها متعجبا: من أين يأتى لك هذا؟ فتقول: رزقنى به اللّه (إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ).. ويضرع زكريا المسن إلى الله أن يرزقه بذرية تكفيه مؤنة الحياة فتحل بركة مريم على ذلك الرجل الطيب ويكافأ على بره بها ويستجيب الخالق لدعائه فيسمع الملائكة تناديه أثناء صلاته (أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ).. وتمر السنون وتصبح مريم فى كفالة يوسف النجار، الرجل التقى الخاشع للّه.. ويظهر لها جبريل بإذن ربها على هيئة رجل فتفزع منه، وتتضرع قائلة : (إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا).. ومن الطبيعى أن يكون لتلك الكلمات على مريم وقع الصاعقة (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا)، ولكن جبريل يطمئنها: (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَى هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا). ولابد أن العذراء الطاهرة التى تعلم تماما أنها لم يمسسها بشر أصابها الأرق لليالى طوال فكيف ستنبئ أهلها بما حدث.. هل سيصدقونها؟ هل سيرتابون فيها؟ وماذا سيكون مصيرها هى ومن تحمله فى أحشائها التى بدأت تنتفخ وتظهر الحمل. ولم تجد بدا من الهرب إلى وادٍ مهجور، ويخرج قومها بحثا عنها، فلا يجدونها، فتاة وحيدة فى واد مهجور تعانى الجوع والعطش وآلام المخاض تتساند إلى جذع نخلة وتتخيل أن يعثر عليها قومها ويسألوها عمابها فتبكى (يَا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا)، ولكى يبث الطمأنينة فى قلبها يبعث الله إليها بجبريل (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّاوَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا. فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا). وينزل كلام الله لها على لسان جبريل بردا وسلاما، وتبث فيها الثقة. وفى خضم تلك المحنة العظيمة تشعر العذراء بحمل اليصابات زوجة زكريا الشيخ فتنطلق إلى حيث كانت تقيم اليصابات مع زوجها لكى تخدمها، وتعترف لها بحملها »أنا أيضا حبلى« فتقول لها أم يحيى: أنى وجدت ما فى بطنى يسجد لما فى بطنك فذلك قوله تعالى (مصدقا بكلمة من الله). بعد أن تضع العذراء مولودها تنطلق به إلى قومها.. ويصدم القوم ولا يخفون ريبتهم فيها (يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) ويتعجبون لم فعلت ما فعلت، فلم يتصور أحد حجم المعجزة التى تنوء بحملها تلك الفتاة الصغيرة (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)، وهنا تبدأ معجزات المسيح فينطق وهو وليد لم يتعدّ عمره أيامًا معدودة ليرد ارتيابهم (قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ آتَانِى الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا. وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا شَقِيًّا. وَالسَّلامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا).. أما يوسف النجار، فقد اضطرب وبدأ يشك عندما رآها حاملاً.. ولكن الملاك ظهر له فى رؤيا، وأنبأه بخطأ فكره، وبدّد شكّه.. وعندما عاين الطفل مولودًا امتلأ فرحًا، وصار نصير العذراء وحاميها ورفيقها حتى مماته. ولا تنتهى قصة مريم عند هذا الحد، فقد سمع الحاكم الرومانى بأمر الطفل المعجزة وخشى على حكمه وسلطانه منه وبعث جنوده ليقتلوه، وصدر الأمر الإلهى بأن تهرب به إلى مصر. زادها الإيمان وزوادها الحب والرحمة وفوق حمار هزيل تمضى رحلتها المضنية فى ربوع مصر وهى تحتضن طفلها عيسى عليه السلام وقلبها يخفق بشدة خوفا من أن ينزلق من بين ذراعيها، بينما يوسف النجار يسير إلى جوارهما ممسكا بمقود الحمار. رحلة طويلة شاقة اكتنفتها الآلام والمتاعب عبر صحارى وهضاب ووديان، كيف نجوا من الوحوش الضارية ومن قطاع الطرق كيف تحملوا حرارة الشمس وبرد الليل والجوع والعطش. ولكم تمنيت أن تصبح تلك الرحلة التاريخية المقدسة مزارا لكل من يرغب، حيث تسير القوافل متتبعة خط سير مريم من رفح إلى العريش إلى الفرما إلى تل بسطا إلى الزقازيق إلى مسطرد ثم بلبيس ثم سمنود ثم البرلس ثم سخا ثم وادى النطرون ثم المطرية وعين شمس وأخيرا الفسطاط ثم المعادى ثم بهنسا ثم جبل الطير ثم أشمون ثم ديروط الشريف ثم القوصية ثم قرية مير.. ويستقر المقام بالعائلة المقدسة فى جبل قسقام حيث يقام حاليا دير المحرق وحيث أقيمت أول كنيسة فى العالم وفى إحدى المغارات تسكن مريم والابن الغالى ويوسف النجار لمدة ستة شهور وعشرة أيام، وأخيرا تنتهى مسيرة العائلة المقدسة فى جبل درنكة ومنه تبدأ رحلة العودة، فتسير العائلة المقدسة ناحية الشرق حيث مدينة أسيوط، ومن مرسى السفن على النيل تستقل طريق العودة إلى مدينة الناصرة شمال فلسطين فى الجليل. هذه الرحلة التى تكثر عنها الروايات وتروى المعجزات، وأن الحاكم عندما وصلته تلك الأنباء بدا فى التحقيقات عرف أنها عائلة الطفل المقدس الذى يبحث عنه هيرودس، وأمر الحراس بالبحث عنه فى كل ركن من المدينة؛ بعدها بدأت رحلة الهروب الثانية وتظل العذراء تنتقل من مدينة إلى قرية على أرض مصر. اثنتى عشرة سنة والعذراء مختبأة فى مصر ويكبر فيها عيسى وتظهر معجزاته التى تثير الدهشة والفضول حول تلك العائلة.. وعندما تسمع بموت الطاغية هيرودس تقرر العودة إلى فلسطين، وتستقر ببلدة الناصرة حتى يبلغ المسيح ثلاثين عامًا ويبعثه اللّه برسالته. وتشارك العذراء ابنها فى كل الأعباء والمعاناة والاضطهاد حتى تفقده وهو فى ريعان الشباب، بعدها تبدأ رحلة الهروب الثالثة خوفا من بطش الرومان من مكان إلى آخر، حتى يحين أجلها وتصعد الروح إلى بارئها.. ومازلنا إلى اليوم لا أحد يعرف هل قبرها فى دمشق أم فى أورشليم أم فى مدينة إفسوس الأثرية فى تركيا.. ومؤخرا اعترف الفاتيكان بضريح السيدة العذراء فوق جبل بلبل على بعد 9 كيلومترات من مدينة إفيسوس الأثرية كمزار وحج للمسيحيين، ويقال إن السيدة العذراء قضت بذلك المكان أيامها الأخيرة، ويحتمل أنها قدمت إليه مع القديس يوحنا (جون) الذى كان يبشر بالمسيحية فى تلك المنطقة وقد بنيت كنيسة بالقرب منه، وقد زرت ذلك المكان منذ سنوات ورأيت سيدة تركية مسلمة تصلى فى ركن المصلى المخصص للمسلمين بينما سيدة مسيحية تشعل الشموع بجوار المذبح، وفى خارج الضريح ينبوع ماء مالح يرتشف منه البعض طلبا للشفاء من أمراضهم، وهكذا تجمع البتول المسلمين والمسيحيين إينما حلت. ولاعجب فهى النموذج الأعلى للعطاء الأنثوى وعمق الإيمان والرمز الأمثل لقدرة المرأة على الصبر والتحمل.