شهد العام الذى يودعنا عدة أحداث صبت كلها للأسف فى نفس أتون توتر العلاقة بين الإسلام والغرب المستعر منذ عقدين ونيف.. حادث مقتل الشهيدة مروة الشربينى على يد مهووس متعصب فى ساحة المحكمة، وحادث حظر بناء المآذن السويسرية الذى ألقى بتاريخ كامل من التسامح والليبرالية السويسرية فى مقبرة الظلامية والتطرف، وحادث مقتل ضباط الجيش الأمريكى على يد زميلهم الطبيب النفسى المسلم نضال مالك حسن بقاعدة عسكرية فى لحظة خلل كثف من كآبتها ديانة القاتل، ليطل ذلك الرأس القبيح للإرهاب حين يقترن بالإسلام ويخرج لسانه للجميع دون فارق بين ملة أو جنس أو عرق! فى خلفية المشاهد التصادمية الثلاثة وغيرها من جدل عالمى حول طالبان التى عادت بقوة، استمرت أحداث العنف الطائفى فى أكثر من دولة على خريطة العالم، فى "لندن" مصادمات عنيفة بين المسلمين وقوات الشرطة، فى "الولاياتالمتحدة" تتدخل قوات الجيش والشرطة لدك "إمارة إسلامية" أقامها مسجون مسلم أسود خرج من السجن ليتواصل مع مسلمين آخرين بالقرب من حى "كوينز" الفقير ويدشنون إمارتهم المزعومة، حتى فى "الصين" - أى فى أقصى شرق الحضارة الإنسانية وليس فى الغرب، امتدت صراعات العنف الطائفى بين عناصر يرجع انتماؤها لتنظيم القاعدة وبين السلطات الرسمية هناك! تلك الأحداث المتلاحقة أعادت تكرار نفس السؤال: هل الإسلام فى حالة تصادم مع الغرب؟ وهل لم يستطع المسلمون بعد التأقلم مع معطيات الحضارة الأوروبية والأمريكية لاسيما بين أولئك الذين اختاروا الحياة فى قلبها لسبب أو لآخر، تلك المعضلة التى وجدت بعضا من آراء تحليلية مغايرة أكثرها طلب الفصل تماما فى التعامل بين مسلمى الشرق ومسلمى الغرب، بل إن عددا من هؤلاء المحللين ذهب إلى المزيد من التفصيلية وطالب بعدم الخلط بين مسلمى الغرب ممن ينتمون للجيلين الأول والثانى من المهاجرين وبين الجيل الثالث والأجيال الناشئة التى ولدت على أراضى دول غربية وتحمل جنسياتها بالتبعية. صورة قاتمة هناك بعض الأصوات فى الداخل والخارج فى المقابل ترى أن الإسلام بات فى إشكالية حقيقية مع الغرب، وإن كان ذلك مرده إلى المسلمين أنفسهم حسبما يرى هؤلاء، فهناك تاريخ حديث من الاصطدامات بين المسلمين وغيرهم، وبين المسلمين وبعضهم البعض أسهمت فى رسم صورة قاتمة للديانة وأتباعها فى عيون العالم، ويرون فى حوادث انتهاك حقوق المرأة التى بلغت فى بعض الدول العربية والإسلامية حد القتل والسجن والجلد والتعذيب لأمور تتعلق بارتداء البنطلونات والمايوهات والتورط فى علاقات عاطفية، لكنها أمور تستوجب القلق على المعطيات الاجتماعية وأركان الحياة اليومية فى مجتمعات تحترم للغاية حرية الفرد رجلا كان أو امرأة حال تنامى الوجود الإسلامى فيها ناهيك عن تولد تيارات راديكالية إسلامية داخلها! ربما كانت هذه الطروحات جميعها يحمل كل منها وجها للحقيقة، إلا أن هناك جوانب أخرى يغفلها أو يتغافل الكثيرون عنها، كل لعلة فى نفسه، أحد هذه الجوانب هو ما رصدته جماعات مراقبة الحريات الدينية، وجمعيات الكشف عن التحرش العنصرى والطائفى، وللحق فإنها وجدت نتائج تستحق كثيرا التأمل والتوقف عندها، منها مثلا دراسة حديثة لمعهد "المجتمع المفتوح" - مؤسسة بحثية إنجليزية مستقلة - تم إجراؤها على 11 مدينة أوروبية من مدن غرب أوروبا ذات الطبيعة المنفتحة التى تلقى إقبالا من المهاجرين العرب والمسلمين، ووجدت الدراسة أن المسلمين هناك يفضلون ويميلون فعلا للانخراط فى المجتمع والحياة فيه دون انغلاقية ودون عزلة فى "كوميونات" خاصة، وهو عكس الاعتقاد السائد تماما لدى السلطات هناك، التى تفترض تلقائيا رغبة الجاليات المسلمة فى التقوقع على نفسها كنوع من التميز أو التمييز، وكشفت الدراسة كذلك عن تضاعف عدد المسلمين بحلول عام 2025 فى هذه المدن ليتعدى ال 40 مليونا دون أن تكون هناك قاعدة بيانات حقيقية موسعة تعبر عنهم! استطلاع حماية الدراسة التى أجراها معهد المجتمع المفتوح كشفت عن نتائجها قبيل أسبوعين من بدء العام الجديد، عرضت سلسلة للقطات من لقاءات أجريت مع مسلمين من مختلف الأعمار والأصول: فى هولندا - أمستردام وروتردام، وبلجيكا - أنتويرب، ألمانيا - برلين وهامبورج، الدنمارك - كوبنهاجن، المملكة المتحدة - ليشيستر ولندن، فرنسا - مارسيليا وباريس، استكهولم بالسويد، وتبين أن عددا محدودا منهم تمسك بدولة المنشأ التى وفد منها عند تقديم نفسه فيما جنح أغلبهم إلى تعريف أنفسهم كمواطنين بتلك الدول الأوروبية، إلا أن كلا الفريقين أجمع تقريبا على شعورهم بعدم تقبل سكان هذه المجتمعات الأوروبية لهم كمواطنين، فبرغم حالة الانتماء والارتباط التى عبر عنها هؤلاء المسلمون فيما يخص علاقتهم بجيرانهم وبالأحياء التى يسكنون فيها الآن، إلا أنهم يستشعرون ميل المجتمع نحو معاملتهم كغرباء أو وافدين أو أجانب، ويرون أن قوانين حظر إظهار الرموز أو الملبوسات الدينية كان لها أثر ضار، فى حين أن حوادث بعينها مثل اغتيال الفنان الهولندى "المسىء ثيوفان جوخ، كانت لها نتائج مؤسفة عليهم، حيث تحول المسلمون فى هولندا إلى "كبش فداء" نفس فيه العامة عن غضبهم تجاه القصور الأمنى للدولة بالدرجة الأولى! وخلصت الدراسة القيمة والمحايدة إلى عدة نتائج وتوصيات منها أن 61٪ ممن شملهم الاستطلاع لديهم شعور أكبر بالانتماء للدولة ككل مقابل 72٪ كان انتماؤهم الأكبر للمدينة التى تستضيفهم، لم يتردد أغلب المسلمين الذين لهم حق التصويت الانتخابى فى خوض العملية الانتخابية سواء داخل البلدية أو على مستوى الدولة، لايزال القطاع الأكبر من المسلمين غير الحاملين لهوية الاتحاد الأوروبى غير مندمجين فى مجتمعاتهم خاصة فى فرنساوألمانيا، كما أكد نصف عدد المبحوثين تعرضهم لحادث تفرقة عنصرية واحد على الأقل خلال الأشهر الاثنى عشر المنصرمة، وكشفت الدراسة عن أن نسبة البطالة ترتفع إلى ثلاثة أضعاف بين المسلمين عنها بين غيرهم، وأوصت كذلك بإبقاء السلطات على المناطق ذات الأقليات كمناطق مختلطة عرقيا ودينيا دون عزل المسلمين مع العمل على تأمينها وضمان عدم تحول العنصرية إلى عقبة أمام المسلمين عند اختيار سكنهم، وأخيرا على الاتحاد الأوروبى جمع البيانات الإحصائية الدقيقة حول الأقليات وتوفير كل سبل المساواة بينهم فيما يتعلق بالتعليم والسكن والمعاملة والتوظيف وغيرها من الخدمات والحقوق. الهجرة الداخلية دراسات أخرى من هذا النوع فجرت مفاجأة بشأن حركة "الهجرة الداخلية" للمسلمين المهاجرين من/ إلى الدول الأوروبية، حيث كشف تقرير حديث عن مؤسسة "آى. بى. بى. آر" البحثية المستقلة عن زيادة أعداد المهاجرين المسلمين إلى 1,1 مليون مسلم مهاجر مستقرين فى بريطانيا وحدها! المفاجأة أو بالأحرى المفارقة أن الشريحة العظمى من هؤلاء المهاجرين لم يفدوا مباشرة إلى بريطانيا من دول النشأة، وإنما وفدوا إليها من دول أوروبية أخرى بالاتحاد واجهوا فيها ما أسمته المؤسسة البحثية حالة كامنة من رهاب الإسلام، رغم أن تلك الدول كانت مقصدهم الأصلى عندما اتخذوا قرار الهجرة فرارا من دول النشأة لسبب أو لآخر، لكن "حالة رهاب الإسلام الكامنة" دفعتهم إلى إعادة الهجرة مجددا هذه المرة داخليا فى إطار حدود دول الاتحاد الأوروبى ليستقروا فى بريطانيا قدوما من ألمانيا أو النمسا أو فرنسا على سبيل المثال لما لمسوه من احتضان بريطانى حقيقى للإسلام وحالة من المواءمة والتعايش المجتمعى تميز البريطانيين مقارنة بسائر الدول الأوروبية! فى تحليلهم للنتائج التى وصلوا إليها يقول مسئولو "آى. بى. بى. آر" إن نحو 46٪ من إجمالى تعداد مسلمى "بريطانيا" البالغ 4,2 مليون لم يولدوا بالفعل على أراض بريطانية، وأنه على امتداد العقد المنصرم ارتفعت أعداد البريطانيين المولودين فى باكستان أو بنجلاديش بما يعادل 275 ألف شخص، أى ضعف سكان أوكسفورد، كما ارتفع عدد ذوى الأصول الصومالية، بل بالأحرى قفز من 40 ألفا عام 1999 إلى نحو 107 آلاف هذا العام، وهى تغييرات يراها محللو المؤسسات البحثية بمثابة "دفعة" فى طريق تغيير خارطة الديانات داخل المملكة المتحدة! الإخلاص والوطنية الدراسة واكبتها أخرى بهدف بحث أثر تلك الهجرات وما يصاحبها من تغيرات مجتمعية على فكرة أو مبدأ "الوطنية" أو "الإخلاص الوطنى" لمواطنى الدولة، وهو ما فجر مفاجأة من العيار الثقيل، حيث ثبت أن مسلمى بريطانيا هم الأكثر والأخلص وطنية بين نظرائهم فى القارة، حيث عبر أكثر من 75٪ من المبحوثين عن انتمائهم الوطنى كبريطان، لترتفع النسبة كثيرا إذا ما كان المبحوثون من أبناء الجيل الثانى من مسلمى أوروبا، ففى مقاطعات مثل ليشستر 94٪ من مسلميها يرون أنفسهم بريطان بالدرجة الأولى، بينما تنخفض النسبة إلى نحو 72٪ - وهى نسبة مرتفعة بالمناسبة - بين أولئك الذين ولدوا أصلا خارج المملكة المتحدة، النسب تنخفض بفروق هائلة فى عدد من دول ومقاطعات الاتحاد الأوروبى لتصل إلى 22٪ و25٪ فى هامبورج وبرلين على الترتيب! الحقيقة أن التحليلات أرجعت تلك النتائج إلى كون بريطانيا صاحبة أقوى برنامج دمج حقيقى لمواطنيها المسلمين فى قطاعاتها المجتمعية مقارنة بسائر الدول الأوروبية التى تظل عوائق الهوية وتراخيصها وفرص العمل بمثابة عراقيل حقيقية لم يتم بذل جهود ملموسة فعليا لتذويبها أمام المهاجرين المسلمين! إن دمج المسلمين فى المجتمعات الغربية فى حد ذاته يمثل اشكالية؛ فحتى قبيل هجوم 11 سبتمبر؛ كانت فكرة الدمج تعادل "تذويب الهوية"؛ وظل مسلمو الغرب يعبرون فى أدبياتهم كثيراً عن تلك المعضلة إذ كانوا يستشعرون - وينقلون إلينا كمسلمين شرق أوسطيين - إحساساً مستمراً برغبة المجتمع الغربى فى سلخهم من جذورهم التى جاءوا منها - على تباينها وأحياناً تناقضها - كثمن ينبغى عليهم دفعه مقابل تقبلهم كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات، وفى لحظة تاريخية بعينها جرى استقطاب مسلمى الشرق الأوسط لخوض معركة "إثبات الهوية" نيابة عن مسلمى الغرب فى العالم كله؛ وأصبح مسلمو المنطقة مؤهلين تماماً لتبنى أجندة "أقرانهم" المسلمين فى الغرب؛ بدءاً من صد الهجوم التقليدى السنوى على مسألة ذبح أضاحى الأعياد؛ نهاية بضرورة الاعتراف بجذورهم الوطنية مروراً بقضايا فرعية كتوفير المطاعم الحلال؛ وحق ممارسة الصلاة أثناء فترات العمل. تحول 11 سبتمبر لم ينتبه الكثيرون إلى التحول الذى أحدثه هجوم 11 سبتمبر فى مسيرة جميع الأطراف؛ الغرب كله بطبيعة الحال؛ ومن ثم الجاليات الإسلامية لديه؛ ومسلمى الغرب والشرق الأوسط؛ ففى اللحظة التى بات أبناء الحضارة الغربية مقتنعين أن كل "المسلمين سواء"؛ ووضع الجميع فى سلة واحدة؛ بدأت الجاليات الإسلامية تراجع حساباتها وترى أنه ليس من صالحها الراهن أن ترتبط بخيط واحد مع مسلمى الشرق الذين ألصقت بهم تهمة تنفيذ هذا العمل الإرهابى وذهب أكثرهم رهن الاعتقال فى "جوانتانامو"؛ ومن ثم بدأت أذرع الطاحونة فى الدوران تلقائياً عكس الاتجاه؛ مسلمو الغرب يتبرأون من الشرقيين؛ بعض تياراتهم يصفون هؤلاء الشرقيين بأنهم أقل مدنية وأقل تحضراً وأقل قبولاً للديموقراطية؛ رموز الجاليات الإسلامية تناشد مسلمى الشرق عدم التدخل فى شئونهم وشن التظاهرات الديماجوجية - أى التى يسيرها الدهماء - التى لن تفيدهم بقدر ما تسهم فى تعقيد قضيتهم؛ ويطالبون السلطات المجتمعية فى عوالمهم النائية بألا يخلطوا الأوراق بين هذا وذاك؛ ويشيرون فى كل مناسبة إلى ممارسة حقوقهم الطبيعية بشكل ديموقراطى؛ حتى فى أزمة المآذن أكدت الجاليات الإسلامية فى أكثر من مناسبة أن حق العبادة مكفول لهم فى "سويسرا" التى لم تلغ حق الصلاة أو التعبد وإنما فقط استفتت على قرار يحظر المآذن وليس المساجد وطالبوا المسلمين خارج "سويسرا" بالنظر إلى "نواتج" العملية الديموقراطية التصويتية البحتة! أزمة مروة الشربينى كانت مثالاً صارخاً آخر على تباين نظرة مسلمى الغرب والشرق للقضايا؛ فبرغم الحادث الذى طعن المصريين كلهم حزناً؛ لم يقدر لنا مسلمو الغرب غضبتنا وحزننا على أم بسيطة راحت ضحية الدفاع عن حقوقها وحقوق صغيرها بالخارج غدراً وعلى مرأى ومسمع من المسئولين؛ وطالبت الجاليات الإسلامية المواطنين الشرق أوسطيين بالتروى والتعقل فى رد الفعل معتبرين الأمر كله شأناً داخلياً يجرى نقاشه تحت مظلة القضاء الألمانى؛ لاسيما بعد أن طالبت بعض التيارات المحلية - عن جهل بالقوانين الألمانية - بإعدام القاتل معتبرين أن حكم السجن مدى الحياة غير كاف؛ فى ظل تعجب نفس هذه الأصوات - مرة أخرى عن جهل - من خلو قاعة المحكمة من الحراسة ومن عناصر الأمن المسلح إبان المحاكمة الأولى التى شهدت الواقعة؛ حيث ينص القانون الألمانى على إجراء ما يمكن تسميته "مناظرة" بين المدعين أو الأطراف المتنازعة دون ضرورة حبس أحدها - مادام غير متهم أو مدان مبدئياً - ودون الحاجة إلى وجود أفراد أمن بقاعة المحكمة الابتدائية! اختلاف الأجندات حتى سنوات قليلة كانت المظاهرات تندلع فى "مصر" وفى الدول العربية وفى الشرق الأوسط لأمور أخرى تتعلق بأجندة أساسية لمسلمى المنطقة منها مثلاً التصعيد "الإسرائيلى" ضد "الفلسطينيين"؛ والتعدى السافر على المسجد "الأقصى" لتتراجع هذه الأجندة تدريجياً إلى خلفية باهتة مقابل مظاهرات تأييد ارتداء الحجاب فى المدارس "الفرنسية"، و"الألمانية" وهى قضية لا ناقة لنا فيها ولا جمل؛ وبدلاً من أن يتجه مسلمو الشرق لمقاطعة "أمريكا" على خلفية أزمة الرسوم المسيئة فى جريدة محدودة الانتشار محلية التوزيع!! الأحداث الطائفية وإذا كان فشل التقاء الغرب والإسلام سمة عام 2009، فإن نفس العام شهد تباعد فى العلاقة بين المسلمين والمسيحيين فى مصر وإن كانت أحداثه مؤقتة وتقع لأتفه الأسباب، حيث تحولت الأحداث الطائفية في مصر إلي ظاهرة مثيرة لدرجة أنه لا يكاد يخلو شهر من شهور السنة من أزمة طائفية لأسباب تافهة منها خناقة علي رهن زجاجة مياه غازية وصراع علي شبكة دعارة في المنيا ضبط فيها مسلمون ومسيحيون، ومقتل مسيحي كان يتلصص على لقاء بين زوج وزوجته، وبالتأكيد مطلوب موقف من المؤسسة الدينية لمواجهة التطرف من الجانبين .