ينتهى عام "2009" البهيج بحصاده السعيد بتقدم مبهر تحققه زهرات يانعات تمثلن تياراً دافقاً من المنقبات المناضلات فى طريق الجهاد العظيم لإرساء قواعد مجد ورفعة للمرأة المعاصرة فى مواجهة انحلال وتفسخ وانهيار دعائم حضارة فاجرة سمحت للسافرات الكافرات بالظهور فى الأسواق والطرقات والجامعات والمنتديات.. وقد أعربن عن غضبهن العارم فى مواجهة قرار وزير التعليم العالى لرفضه تأديتهن الامتحانات أو الإقامة بالمدن الجامعية.. وبعضهن فى مواجهة قرار وزير الصحة بمنعهن من ممارسة مهنة الطب والتمريض فى المستشفيات بهذا الزى.. وأخريات فى مواجهة قرار رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون بمنع ظهور المذيعات المحجبات. وينتهى عام "1928" بانتهاز "هدى شعراوى" فرصة مرور عشرين عاماً على رحيل المصلح الاجتماعى "قاسم أمين" لتقيم احتفالاً تكريماً له وإحياءً لذكراه فى دار مسرح حديقة الأزبكية، ويضم الاحتفال عدداً من الشخصيات العامة والقيادات النسائية.. وقد كتبت جريدة "السياسة" عن هذا الاحتفال بإفاضة وكان من بين ما قالته عن هذه المناسبة: إن الوفاء وعرفان الجميل من أخلاق المرأة، فالاتحاد النسائى بدعوته إلى الاحتفال بذكرى "قاسم أمين" قد زاد المرأة رفعة.. وأرضى روح ذلك المصلح العظيم.. وبرهن على أن المرأة خليقة بالمقام الرفيع الذى تسعى إلى تبوؤه بمساعدة أفاضل المصلحين من الرجال (وليس نفوراً من جنسهم وخوفاً من ذئابهم المتأهبين للانقضاض عليهن فى التو واللحظة لافتراس عفافهن). وقد ألقى "هدى شعراوى" بهذه المناسبة كلمة أكدت فيها أن الاحتفال ليس دافعه فقط الاعتراف بفضله وجهاده فى نصرة المرأة.. بل لتحيته على حبه للخير.. ومعونته الصادقة فى تكوين الجمعية الخيرية الإسلامية.. وابتكار فكرة الجامعة المصرية.. وشجاعته الأدبية النادرة فى تأليف كتابيه: "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" فى وقت كان النطق باسم المرأة يعد سباً وخزياً.. وذكّرت "هدى شعراوى" الحضور بآخر كلمة نطق بها "قاسم أمين" فى حفلة نادى المدارس العليا.. وهو يحيى الطلبة الرومانيين ليلة وفاته إذ قال: كم أكون سعيداً فى اليوم الذى أرى فيه سيداتنا يزين مجالسنا كما تزين طاقات الزهور قاعات الجلوس. فإذا ما عاد بنا الزمان إلى ما قبل ذلك بكثير حيث عصر يزينه الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوى" "1801 - 1873" الذى أورد فى كتابه "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز".. الفصل بين تغطية وجه المرأة.. وكشفه وبين السلوك السليم، مؤكداً أن عفة المرأة مسألة داخلية وأن قيمتها بما فى عقلها لا بما يغطى وجهها وأن تميزها مردود إلى تكوينها النفسى والفكرى لا إلى الملابس التى تحجبها أو تخفيها أو تنتقب بها، فالعبرة بما فى داخل العقل وليس بما خارج الوجه.. ولم يكتف "رفاعة" بمثل هذه الأفكار أو يجعلها مرتبطة بمرحلة فتية من العمر.. وإنما جعلها من مبادئه الثابتة.. لذلك كان كتابه "المرشد الأمين لتعليم البنات والبنين" درساً آخر على مواصلته الإيمان بأفكار "تحرير المرأة" والعمل على مساوتها مع الرجل وذلك من منطق الاحترام لها والتقدير لأدوارها الخاصة والعامة فى الأسرة والمجتمع. يقول د. "جابر عصفور" فى كتابه المهم "دفاعاً عن المرأة" فى معرض حديثه عن "الطهطاوى" ومدى استنارته: لم استغرب عندما وقعت عيناى على الوثيقة التى كتبها "رفاعة" بخط يده لابنة خاله كريمة الشيخ "محمد الفرغلى" حين تزوجها.. حيث يتعهد لها بما لا يمكن تخيله من شيخ فى عصره بل فى عصرنا هذا إذا شئنا التعميم.. وتنص الوثيقة على تعهد "رفاعة" لزوجه بألا يتزوج عليها ولا يقضى عليها ما أحله له الله من الجوارى فى علاقات عصره ويظل وفيا لها محافظاً عليها لا يتمتع بغيرها.. ولا ينظر إلى سواها مبقياً على احترامه لها ومن معاملته لها ومقراً بحقها فى الطلاق منه إذا أخل بالشروط التى وضعها على نفسه مع زواجه منها.. ويرجع تاريخ الوثيقة إلى الرابع عشر من شوال سنة 1255 للهجرة.. أى قبل سفر "رفاعة" إلى باريس سنة "1826".. ونص الوثيقة الخطية ما يلى: التزم كاتب الأحرف "رفاعة بدوى رافع" لبنت خاله المصونة الحاجة "كريمة" بنت العلامة الشيخ "محمد الفرغلى الأنصارى" أنه يبقى معها وحدها على الزوجية دون غيرها من زوجة أخرى أو جارية أيا كانت.. وعلَّق عصمتها على أخذ غيرها من نساء أو تمتع بجارية أخرى، فإذا تزوج بزوجة أخرى أيا ما كانت بنت خاله بمجرد العقد خالصة بالثلاثة، وكذلك إذا تمتع بجارية ملك يمين ولكن وعدها وعداً صحيحاً لا ينتقص ولا ينحل أنها مادامت معه على المحبة المعهودة مقيمة على الأمانة والحفظ لبيتها ولأولادها ولخدمها وجواريها ساكنة معه فى محل سكناه لا يتزوج بغيرها أصلاً.. ولا يتمتع بجوارٍ أصلاً ولا يخرجها عن عصمته حتى يقضى الله لأحدهما بقضاء.. هذا ما انجعلت عليه العهود.. وشهد الله - سبحانه وتعالى - بذلك وملائكته ورسله، وإن فعل المذكور خلافه كان الله تعالى هو الوكيل العادل لزوجة المذكور.. يقتص لها منه فى الدنيا والآخرة، هذا ما انحط عليه الاتفاق.. وكذلك إن أتعبته فهى الجانية على نفسها: رفاعة بدوى رافع 14 شوال سنة "1855". يورد د. "جابر عصفور" أنه ما أن انتهى نص الوثيقة التى قرأها فى الكلمة التى افتتح بها مؤتمر "رفاعة الطهطاوى" حتى سأل الحضور: ترى كم رجلاً فى هذه القاعة على استعداد لتوقيع وثيقة مشابهة.. وكم شيخاً من هؤلاء المشايخ الذين لا يكفون عن تكفير غيرهم قادر على أن يكتب لزوجه مثل هذا التعهد؟! إن هذه الوثيقة تظل شاهداً على عقلية زوج مستنير لم ينغلق عقله على تحيزاته الذكورية.. ولم ينظر إلى المرأة بوصفها مخلوقاً أدنى أو تابعا مذعنا لا عمل له سوى الطاعة أو الاستجابة إلى أوامر أو نزوات الذكر الأعلى وإنما نظر إليها بوصفها شريكة فى رحلة العمر.. ومثله فى تحمل المسئولية والنصف الآخر الذى يكتمل به معنى الحياة واستمرارها فى ظل الحب الذى يعنى التعاون فى مواجهة الصعاب والتكافؤ فى تحمل المسئولية. ثم يدور الزمان دورته.. ونأتى إلى عصرنا السعيد هذا فيخرج علينا الظلاميون أعداء الحياة.. وتجتاح بلادنا التيارات الوهابية.. ويسيطر الأصوليون.. ويعم التخلف.. ونصبح على أعتاب دولة دينية يحكمها المكفرون وفقهاء المنع والتحريم والمصادرة فتنتشر دعاوى الحسبة.. وتتهم "نوال السعداوى" بازدراء الأديان وتواجه بدعوى لتفريقها عن زوجها.. وحينما تتجاسر فنانة على خلع الحجاب يتم التحريض على إهدار دمها ومعاقبتها ببتر أطرافها.. ورجال يشتبكون مع رجل فى مترو الأنفاق لأنه تجرأ وجلس مكان امرأة خلا مقعدها.. ويضربونه ويمزقون ملابسه، فالجلوس مكان امرأة - كما أفتى المفتون وما أكثرهم - هو رجس من عمل الشيطان لأنه "نجاسة".. لماذا؟!.. لأن النساء من أهل النار. المصيبة أن تؤمن المرأة نفسها بذلك.. وتدعو إليه.. وترتضى لنفسها المهانة فتختصر وجودها فى خيمة سوداء وثقبين تتلصص بهما على عالمنا.. فتتحول طاقات الزهور التى تحدث عنها "قاسم أمين" إلى أشباح مستريبة تخشى الرجال وتخاصم المجتمع وتطفئ الشمس.. وتكره الحياة واصمة الكيان الأنثوى كله بأنه عورة.