لقد كان الإنسان العربى منذ العصر القديم ينظر إلى المرأة بالفكر الشرقى والتقاليد الموروثة من عصر القبيلة، فالمرأة بالنسبة إليه من الممتلكات التى يحرص عليها، وعلى بقائها بعيدة عن أعين الآخرين، ورغم نزول الأديان.. ورغم انتشار التعليم.. والاختلاط بالشعوب الأخرى فمازالت هذه الغيرة الشديدة تسيطر على الكثير من الأسر العربية خاصة فى الطبقة الوسطى. وما عهد المشربية والنقاب والخمار عنا ببعيد فالكثير من الآباء المعاصرين وخاصة من أنصاف المتعلمين يحرمون نساءهم من أى فرصة للاختلاط بالعائلات الأخرى وبالجيران ويغلقون على البنات أى فرصة للتعارف البرىء بالشباب فيمنعونهن من ارتياد النوادى الاجتماعية بكل أنواعها، ومن أى نشاط رياضى أو اجتماعى أو مدرسى، ومنهم من يتمادى فى الحرص فيحرم البنات دون البنين من الالتحاق بالجامعات المختلطة وقد يمنعها من التعليم العالى ويحرمها من العمل فى أى وظيفة حتى لا يكون لها مورد رزق مستقل ولا ترى الناس والمجتمع وسوف نرى نتيجة هذا السلوك فى أضرار منع الاختلاط. حكم الدين فى الاختلاط هناك ثلاثة ألفاظ تتردد على ألسنة العوام والجماعات الإسلامية بمفهوم واحد رغم أن الفارق بينها فى الشريعة كبير، وهى الاختلاط، الخلوة، الحجاب وسوف نتحدث عن الحجاب فى باب مستقل، لأنه خاص بزوجات الرسول (صلى الله عليه وسلم). أما كلمة الاختلاط فهى لفظ مستحدث فى عصرنا الحاضر وفى مرحلة التخلف والجهل التى يمر بها العالم الإسلامى، ولم تكن هذه القضية تشغل بال العالم الإسلامى أو تشغل شباب المسلمين فى عصور الإسلام الأولى، إلى حد العنف والمظاهرات واستعمال السلاح كما هو الحال اليوم، فالاختلاط ظاهرة اجتماعية صحية وضرورية فى جميع شعوب العالم المتحضر ومعناه البسيط مشاركة النساء والرجال معاً وتعاونهما فى كل مرافق الحياة والعمل والعلم، مجتمع ناهض متعاون منجز. منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى نهاية العصر العباسى كان هناك اختلاط طبيعى فى المجتمع الإسلامى.. والقرآن الكريم يصف هذا الاختلاط بقوله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، فقوله تعالى بعضهم أولياء بعض، أن المرأة كالرجل لها حق الأمر والنهى فى المجتمع، فهذا هو الاختلاط السليم. وقد كان الرسول كمصلح اجتماعى يختلط بنساء المسلمين ويحدثهن ويحدثنه، وروى البخارى ومسلم أن المرأة من نساء المدينة كانت تأخذ بيد الرسول وتسحبه من يده إلى مكان بعيد عن أعين الناس حتى تشكو إليه بهمومها ومشاكلها العائلية ويحلها لها، وكان القرآن يبارك هذا ويقول قد سمع الله قول التى تجادلك. وعن أنس أن امرأة لها فى بالها شىء فقالت يارسول الله لى حاجة إليك، فقال لها انظرى إلى أى السكك شئت أقضى لك حاجتك، فخلا معها فى بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها (تيسير الوصول إلى أحاديث الرسول). ومن هنا نقول إن الخلوة التى كرهها الإسلام تكون جائزة إذا كانت فى الخير والصلاح وفى ذلك يقول الله تعالى ولكن لا تواعدوهن سراً إلا أن تقولوا قولاً معروفاً.. (البقرة 235). ولم يتغير حال المسلمين إلا مع ظهور الحكم المملوكى حيث كان المماليك إن اعجبتهم أى امرأة تسير فى الطريق يخطفونها ويغتصبونها مما جعل المرأة المسلمة تعتزل الحياة والمجتمع. وإذا رجعنا إلى عهد الرسول.. فالمرأة كانت تشارك فى كل ميادين الحياة والعمل فى المسجد وفى أماكن العمل والتجارة والرزق، وفى الزيارات العائلية وفى المناسبات الاجتماعية واللهو البرىء، وفى مهنة الطب والتمريض . قواعد الاختلاط: الإسلام دين معاملات كما هو دين عبادات. وقد نظم الإسلام قضية الاختلاط فى المجتمع الإسلامى تنظيماً دقيقاً.. ووضع لها القواعد والروابط حتى لا تحدث أخطاء أو انحرافات. والقاعدة الأولى: هى منع الخلوة فى أى لقاء بين الجنسين، وذلك لقول الرسول ما اختلى رجل مع امرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما. وقوله لا يخلون رجل مع امرأة إلا مع ذى محرم.. متفق عليه. ومعنى الخلوة فى الشريعة الإسلامية وجود الرجل مع المرأة التى تحل له فى مكان مغلق ولا ثالث معهما، أو فى مكان منعزل بعيد عن أعين الرقباء، وتنتفى الخلوة بوجود الناس معهما فى مجتمع مفتوح، أو بوجود ذى المحرم. القاعدة الثانية: عن أماكن الاختلاط: فلا يحل للمرأة المسلمة أن ترتاد مكاناً فيه خمر أو مجون أو خلاعة، بل تذهب إلى الأماكن التى فيها وقار وعلم، أو ترفيه برىء كالمسرح أو السينما أو الندوات العلمية والدينية أو الزيارات العائلية، ومن أهم أماكن الاختلاط الراقى والعفيف دور العلم، ويجب أن يكون فى هذه الدور مشرفون وأخصائيون للإشراف على حسن السير والسلوك، وأفضل مكان للاختلاط العفيف هو دور العبادة كما سيأتى بعد. ثالثاً: آداب الحديث: حيث يقول القرآن الكريم وقلن قولاً معروفاً. فلا يجوز للمرأة المسلمة أن تسمع كلاماً فيه خروج عن آداب الإسلام أو تتكلم بغيره. رابعاً: عمل المرأة: فلا يجوز لها أن تعمل إلا العمل الشريف والرفيع، فلا ترتزق من عرض أنوثتها.. أو تكسب من مفاتنها، بل يكون رزقها وعملها من إنتاج عقلها وتعليمها ومهاراتها وخبرتها. خامساً: ملابس المرأة: وهذه تقتضى الحشمة والوقار الإسلامى وسوف نأتى إلى باب عن زى المرأة بالتفصيل الدقيق وبما يتوافق على الجمع بين شروط الإسلام ومتطلبات الحضارة العصرية. سادساً: الاختلاط فى المساجد والندوات الدينية: هذه قضية كاد العالم الإسلامى أن ينساها بسبب القيود التى مرت بها الأمة الإسلامية فى ظل الحكم المملوكى ثم التركى، وكبداية نقول إن الإسلام لا يمنع المرأة المسلمة الملتزمة من الدخول إلى المسجد سواء كان للصلاة أم لحضور درس الدين، ولا يمنعها من المشاركة فى الحوار الدينى وحتى السياسى، وفى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت المرأة المسلمة تدخل المسجد وتصلى فى أى مكان شاءت، وسواء كانت بجوار الرجل أو أمام الرجل أم خلفه فهذا لا يبطل صلاتها أو صلاته (الفقه على المذاهب الأربعة) وبعض المذاهب يشترط أن تكون بينهما فرجة أى مسافة تسع رجلاً حتى لا يحدث احتكاك، وهذا نفس ما يحدث فى هذا العصر فى الحرم النبوى الشريف، ومعروفة قصة المرأة الجميلة التى كانت تحرص على الصلاة خلف الرسول مباشرة وتحضر مبكرة لذلك، وقد لاحظ بعض المصلين جمالها وكانوا يستأخرون عنها وبعضهم كان يتقدم عنها. وقد نزلت فيها الآية الكريمة ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين، وقد حاول بعض المعسرين منع النساء من المسجد بالليل، فقال صلى الله عليه وسلم (لا تمنعوا إماء الله دور الله) وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل فقال أحد المعسرين لا ندعهن يخرجن فيتخذنه دغلا، والدغل هو المفسدة، فغضب ابن عمر غضباً شديداً ونهر الرجل قائلاً: أقول قال رسول الله وتقول لا ندعهن.. رواه مسلم. ولما زاد عدد المصلين وازدحم المسجد قال الرسول خير صفوف الرجال أولها وخير صفوف النساء آخرها، وذلك بقصد التنظيم فى الزحام وليس لمنع الاختلاط. واليوم بسبب الزحام الشديد فى المساجد وخاصة فى صلاة الجمعة يضطرون إلى تخصيص مكان للسيدات وقد يكون فى دور علوى، وقد تعود العامة على ذلك وأصبحوا يتصورون أن الإسلام يمنع الاختلاط فى دور العبادة، وهذا خطأ.. فإذا لم يكن هناك زحام فلا حرج، فلا يوجد، أى مانع شرعى أن تصلى المرأة بجوار الرجل أو خلفه أو أمامه. وما أجدرنا بالاهتمام بهذا النوع من الاختلاط العفيف الشريف فى دور العبادة، وأن نشجع المرأة على ارتياد المسجد والمشاركة فى دروس الدين، فهذه إحدى القضايا الحيوية التى يفتقدها العالم الإسلامى، ونحن فى مواجهة صحوة جديدة عصرية، وهذه العزلة تجعل المرأة المسلمة بعيدة عن الدين ومحرومة من دروس العلم، ويكون ذلك فى غير صلاة الجمعة التى فيها زحام. فوائد الاختلاط وأضرار منعه: 1- من أهم فوائد الاختلاط إتاحة فرصة اختيار الزوجة أو الزوج وذلك من خلال التعارف العائلى والاجتماعى ودور العلم والعمل والنوادى الرياضية والنقابية والسياسية وغيرها. وفى غياب الاختلاط كما هو حادث فى أغلب الدول الإسلامية يصبح الزواج بالطرق البدائية الفاشلة، ويضطر الشباب إلى زواج الأقارب الذى ثبت ضرره الصحى، والرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول عنه لا تزاوجوا الأقارب فتضووا أى يضعف نسلكم، أيضاً يصبح الزواج على هوى الأم أو الخاطبة واختيارها. وهذا بطبيعة الحال يؤدى إلى فشل معظم الزيجات فى المجتمع المغلق، أو إلى تعدد الزوجات، وقد قدرت بعض المراجع الإحصائية أن بين كل ثلاث حالات زواج فى العالم الإسلامى واحدة تنتهى بالطلاق، وهذه أكبر نسبة فى العالم كله وفى حالات كثيرة يلجأ الرجل إلى تعدد الزوجات بسبب فشل زواجه السابق. ومعنى ذلك أن نظام الزواج وبناء الأسرة المسلمة يكون مفككاً وضعيفاً منذ نشأته. 2 - ومن أخطر نتائج منع الاختلاط فى المجتمع الشرقى سقوط الكثيرين من الشباب الصالح والمستقيم فى حب بنات الهوى وبنات الشارع والزواج منهن، فبسبب صعوبة الاختلاط بالعائلات المناسبة والأسر المحافظة، يضطر الشباب إلى التعارف بأى فتاة سهلة المنال من بنات الشارع أو بنات الهوى والزواج منهن، والنتيجة ما نشاهده من المشاكل العائلية والخصومات والعداوات وقد يضطرونه إلى طلاقها. 3 - وفى غيبة الاختلاط يغيب الحب .. ولا شك أن الحب عنصر هام لبناء الأسرة واستمرارها ونجاحها، وجميع أعداء الاختلاط يعترفون بأهمية الحب لنجاح الحياة الزوجية، ولكنهم يزعمون أن الحب يمكن أن يأتى بعد الزواج وليس قبله، وأن طول العشرة والوفاق بين الزوجين هو الذى يخلق الحب، وهذا تصور خاطئ وبعيد عن العقل والمنطق، فليس بيد الإنسان أن يحب فى أى وقت يشاء وأى ظروف تفرض عليه، وكثير جداً من هذا الزواج ينتهى بالفشل والطلاق عندما يكتشف الزوجان بعد طول العشرة والتجارب استحالة الحب بينهما.. وكثير من هذه الحالات يؤجل الطلاق إلى أن يكبر الأطفال ويستغنوا عنهما حتى لا يكونوا الضحية ثم يقدمان على الطلاق بعد كبر العمر. ومن أضرار منع الاختلاط تفكك الأسرة المسلمة: وهذا عكس ما يتصوره أعداء الاختلاط، الذين يتصورون أن انعزال المرأة والأسرة على نفسها وعدم اختلاطها بجيرانها والمجتمع المحيط بها، يجعلها فى أمان من مشاكل الناس والعكس صحيح. والحقيقة أنه فى غياب الاختلاط والبعد عن المجتمع يضطر الزوج إلى قضاء وقته بعيداً عن أسرته فهو نهاراً فى عمله، وبعد الظهر يذهب إلى المقهى أو أى مكان مع أصحابه الرجال، تاركاً زوجته فى البيت، وبذلك يحرم الأطفال من رعاية الأب وجلوسه معهم، وبعض الرجال فى المجتمع الانعزالى لا يعود إلى بيته إلا بعد أن يكون الأطفال قد ناموا، أما فى المجتمع الذى يهتم بالاختلاط فإن الأسر رجالاً ونساء وأطفالاً يتزاورون ويتبادلون العلاقات الاجتماعية والتعاون على الخير، وإذا كانت هناك مشكلة اجتماعية أو خلافات زوجية فإنهم يتعاونون على حلها. 4- والاختلاط يصلح أخلاق الأمة رجالاً ونساءً: فالشباب الذى يتربى منذ الطفولة فى مجتمع مختلط ومدارس مختلطة، فيجد بجواره أخته أو جارته أو ابنة عمه، مثل هذا الشباب سيكون نوعاً آخر من البشر غير الإنسان البدائى الغليظ الذى لم ير البنات فى حياته. وإذا دخلت أى مكان للعمل أو الرياضة أو التجارة أو العلم، وكان فيه شباب من الجنسين معاً فهو قطعاً أهدأ طبعاً وأقل ضجة وأكثر وقاراً وأكثر إنتاجاً من المكان الذى فيه رجال فقط أو نساء فقط، وبلا شك فإن الفتاة التى تعودت على الاختلاط بالناس والمجتمع تكون أكثر مناعة وخبرة وبعداً عن الزلل من البنت الساذجة المحرومة من المجتمع ومن الاختلاط. 5 - الاختلاط يزيد طاقات الأمة وإنتاجها: فكثير من المفكرين والباحثين الاجتماعيين يشبهون المجتمع الإسلامى فى عصرنا الحاضر بإنسان يعيش برئة واحدة، بينما الأخرى معطلة بسبب عزل المرأة عن الحياة. 6 - الخطوبة الرسمية.. هل تكفى للتعارف: كثير من المعارضين للاختلاط.. يتصور أن فترة الخطوبة تكفى للتعارف والتفاهم بين الشباب قبل الارتباط الزوجى.. والواقع أن هذه نظرة خاطئة.. وتقدير غير واقعى.. وغير مأمون، فالمفروض أن الخطوبة الرسمية لا تأتى إلا بعد مرحلة التعارف والاختبار والانتقاء، حتى لا يكون هناك حرج إذا اكتشف أحد الطرفين عدم صلاحية الطرف الآخر له.. 7 - انتشار اللواطة والانحراف الجنسى فى المجتمع المغلق: الدكتور سيمون جراى طبيب أمريكى أخصائى أمراض النساء، وقد عمل فترة طويلة فى بعض الدول الإسلامية وخاصة مع الطبقات الحاكمة، وقد ألف كتاباً عن خبرته بعنوان أسرار وراء الحجاب، وهو بالإنجليزية، وفيه يذكر أنه بسبب الفصل الشديد بين الجنسين تظهر الانحرافات الجنسية والشذوذ الجنسى وأهمها اللواطة التى تتسبب فى الكثير من الأمراض العضوية والنفسية. محاذير الاختلاط وكيف نتلافاها: يقول أعداء الاختلاط إن فيه شرورا ومخاطر لا يمكن إغفالها، وأن الأفضل للمجتمع الإسلامى أن يتمسك بعزل المرأة وحبسها فى البيت لا تغادره إلا إلى القبر، ويستشهد هؤلاء بما يحدث فى الدول الأوروبية من فساد وإباحية وانتشار الدعارة والعلاقات المنحرفة، وأيضاً ما يحدث فى أنحاء كثيرة من العالم العربى والإسلامى فى أماكن الاختلاط المنفلتة كالملاهى والكباريهات من فساد وانحراف. ونرد على هؤلاء بأن الذى ندعو إليه ونطالب به هو مجتمع إسلامى مثالى عصرى يجمع بين تعاليم الإسلام فى الكتاب والسنة وحضارة القرن العشرين، مجتمع تشارك فيه المرأة فى خدمة الوطن والشعب فى كل شئون الحياة والحضارة، فتحارب الأمية والبطالة والتسول والفقر، وتخدم المعوقين والمسنين وأصحاب الحاجة، وتشارك فى الحكم والوزارة والانتخابات والمجالس الشعبية.