رغم أننى كتبت كثيرا فى موضوع المرأة وقررت أن أتوقف ولو لفترة عن الاستمرار فى السباحة فى بحيرة راكدة تعطنت مياهها، فقد أثارنى انتشار النقاب فى شوارع مصر ورأيت صاحبات النقاب يتبخترن به مزهوات مرحبا بهن فى المستشفيات وفى مبنى التليفزيون وفى الجامعات والعديد من أماكن العمل، وقد شجعنى للخوض فى هذا الموضوع موقف فضيلة شيخ الأزهر والعديد من رجال الدين الرافضين لهذا الزى المرعب وتوضيحهم أنه يسىء للمسلمين والمسلمات ولا علاقة له بالدين. عدة أسئلة تطن فى أذنى وأذن كل من يرى امرأة تتسربل بثوب أسود وتخفى بدنها ووجهها وأحيانا عينيها تحته، لماذا تفعل ذلك بنفسها؟! أى نص قرآنى أو حديث صحيح يأمرها بذلك؟! لماذا تخفى هويتها عن الآخرين؟! وإذا كانت مضطرة للخروج إلى العمل فما الذى يرغم الآخرين على أن يتعاملوا مع شبح أسود لا يرونه؟! أليست هذه الظاهرة دليلا على تفشى مرض الميسوجينى Mysogyny فى المجتمع المصرى وسرعان ما ستنتقل إلى بقية المجتمعات العربية؟! وكلمة ميسوجينى فى الأصل يونانية وتعنى كراهية النساء، وهو موقف سلبى تجاه النساء بشكل عام وليس لامرأة على حدة. وفى رأيى المتواضع أن جل، إن لم يكن كل، المفسرين القدامى كانوا مصابين بذلك الداء.. داء الميسوجينية، أى كراهية المرأة، وأن المتشددين المعاصرين ورثوا ذلك الداء أو تلك الصفة عنهم لسبب بسيط وهو أنهم لم يحاولوا مطلقا التحرر من أسر التفسيرات القديمة، بل منهم من قدسها ورفعها إلى مكانة تكاد تطاول إن لم تتجاوز مرتبة السنة النبوية، تلك إشكالية عجز عن حلها المتشددون دينيا وكانت الثقب الذى مازال يتسع حتى يكاد يمزق الثوب كله. الخطأ الأكبر الذى وقع فيه المتشددون دينيا هو اعتمادهم فى أفكارهم ومواقفهم على مراجع قديمة تنتمى إلى العصور السالفة، حيث كان وضع المرأة يختلف كلية عن وضعها حاليا، وهو التناقض الذى أوقعهم فى حالة من الحيرة والارتباك الشديد، يتأرجحون بين عالمين أولهما تحتجز فيه النساء فيما يسمى بالحريم ويتم تداولهن فى الأسواق كما السلع التجارية، عرضة لقانون العرض والطلب، وثانيهما عالم اليوم حيث تحظى المرأة بكل الحقوق الإنسانية وتحصل على أعلى الشهادات العلمية وأرفع الجوائز العالمية، وحيث تتبوأ نساء لا حصر لهن أعلى المناصب فى بلادهن ويحظين بالاحترام والإجلال من الجميع. تلك معضلة عليهم أن يحلوها ويختاروا إلى أى العالمين ينتمون؟! عالم الأمس، أم عالم اليوم والغد؟! والحق أن إشكالية المرأة والمجتمع بدأت مبكرا قبل نزول الديانات الكتابية بقرون، نلمحها فى أفكار بعض من نبجلهم حتى اليوم من فلاسفة، ففيثاغورث مثلا اعتبر الرجل قد خلق من مبدأ الخير ومعه النور والنظام، بينما المرأة خلقت من مبدأ الشر ومعها الفوضى والظلام! والمرأة فى جميع الشرائع القديمة لم تحظ بأية حقوق، بينما أثقل كاهلها بالواجبات والممنوعات والمحظورات! وتقرأ العجب إذا ما تصفحت مواقع الإنترنت أو عدت إلى كتاب "وول ديورانت" وغيره حول قصة الحضارة لتتعرف إلى مكانة المرأة فى الشرائع القديمة. ففى شريعة مانو عند الهنود اعتبرت المرأة أسوأ من الوباء والجحيم والسم والأفاعى والنار، وكانت إذا مات زوجها أحرقت حية ودفنوها معه، وإذا بقيت حية تباع مع ما يباع من أمتعة الزوج! وظل هذا التقليد الوحشى سائدا فى الهند حتى بعد أن أصدر الاستعمار البريطانى قانونا يمنع إحراق المرأة حية مع زوجها الميت. وفى الديانة الزرادشتية تمتعت المرأة الفارسية ببعض الحقوق مثل حق طلب الطلاق، وملك العقار، وإدارة الشئون المالية للزوج بتوكيل منه، ولكن أوضاعها ساءت بعد انتهاء عهد زرادشت وعادت إلى ما كانت عليه من مهانة، وكان الرجل الفارسى يستحل البنت والأخت والأم والشقيقة وغير الشقيقة، ويجمع بين الأختين! وفى شريعة حمورابى عند البابليين والآشوريين فى العراق والشام كانت المرأة تعتبر مثل السائمة، وليست لها الأهلية للملكية ولا للتصرف، وإذا قتل رجل ابنة رجل آخر فعليه أن يسلمه ابنته ليقتلها أو يسترقها حسبما يشاء! وفى الجاهلية كان الوضع متناقضا فالوضع العام للمرأة كان يتصف بالمهانة، لا أهلية لها ولا ذمة مالية ولا حقوق رغم أنها تعتبر متعة للرجل يكثر من الزواج بها تحت مسميات عديدة كالاستبضاع والرهط، ونكاح الإماء، والمتعة، والشغار، ولكنه إذا شاء عضلها، بينما لم يكن العرب يعترفون بأية حقوق للمرأة ولم تكن ترث الأب والزوج، بل تعتبر هى بذاتها إرثا تكون من نصيب أحد ورثة الزوج، وكان البعض يئدون بناتهم كما جاء فى القرآن الكريم، نجد أن بعض القبائل كانت تمجد الأم وتنتسب إليها، وبعض ملوك شمال الجزيرة كانوا ينسبون إلى أمهاتهم كالمنذر بن ماء السماء ملك الحيرة، وعمرو بن هند، كما كان الكثير منهم يكنى بابنته مثل النابغة الذبيانى فيدعى أبا دمامة، وبعض النساء كن موضع تقدير رجال القبيلة حتى أشركوهن فى شئون الحياة العامة والخاصة! وفى اليونان القديمة كانت النساء يعشن فى ركن منعزل من الدار "الحريم" يفصله عن الجزء الخاص بالرجال باب مغلق، وبمقتضى قانون أثينا لم يكن يسمح للمرأة أن ترفع دعوى أمام القضاء إلا عن طريق الكفيل القانونى، كما كانت النساء يمنعن من الاقتراب من الأماكن التى يناقش فيها الرجال والفتيان مسائل عقلية أو يمارسون شئونا مدنية كالملاعب، والأسواق، ودور القضاء.. إلخ، وقد انعكس ذلك الوضع المهين على صورة المرأة فى الملاحم كالأوديسة، حيث نجد مثلا علاقة بينيلوب زوجة يوليسيس بابنهما تيليماك علاقة تبعية وخضوع فهو يأمرها دائما بأن تعود إلى البيت وإلى النول لتغزل أو تشرف على الخدم. كما تأثر به فلاسفة الإغريق الذين أثروا على كل من جاء بعدهم بفكرهم خاصة فيما يخص المرأة. فأرسطو عرّف المرأة بأنها رجل ناقص، وسقراط شبه المرأة بشجرة جميلة، لكنها مسمومة، إذا أكلت العصافير ثمارها ماتت فورا، وأفلاطون رأى المرأة أدنى من الرجال من حيث العقل والفضيلة. وعندما زار هيرودوت مصر وكتب عنها أبدى تعجبه واستياءه من أن النساء المصريات يخرجن إلى الأسواق ويمارسن التجارة بينما الأزواج يقومون بالغزل والنسج! وفى محاورات أفلاطون نجد على لسان سقراط ما يعبر عن كراهية عميقة للنساء، وتصوير لجنس الأنثى يعكس إلى حد كبير الانحطاط المعاصر لوضع النساء، الأمر الذى دفع العديد من الدارسين إلى الشك فى أن أفلاطون ورفاقه كانت تسيطر عليهم الجنسية المثلية، فقد كانوا فى مناقشاتهم عن الجنس والحب يعبرون عن تفضيلهم حب الجنسية المثلية على حب الجنسية المغايرة، تأكيدا على السمو الأخلاقى للأول. وقد تحسنت أوضاع المرأة قليلا فى الحضارة الرومانية إلا أن قانون الألواح الاثنى عشر كان يقرب لرب الأسرة أن يبيع من يشاء ممن هم تحت ولايته، وحصر حق البيع فى ثلاث مرات للابن، بحيث إذا باع الأب ابنه ثم عاد واشتراه، ثم باعه، ثم اشتراه ثم باعه فيصبح حرا، بينما تظل البنت تحت سلطان رب الأسرة حتى يموت، وهذه السلطة تمتد إلى الزوجات، وهى تشمل البيع والنفى والتعذيب، بل القتل، وفى القانون الرومانى كانت المرأة تعتبر فاقدة الأهلية كالأطفال والمجانين. وحدها تقف الحضارة المصرية القديمة شامخة تعتز ببناتها ونسائها وتوليهن الملك، وتقر بسلطتهن على الأفراد والجماعات، المرأة المصرية القديمة شاركت فى سن القوانين، وفى تسيير الشئون السياسية، وتمتعت بكامل الحقوق المادية، وكانت لها الحرية المطلقة فى أن تتصرف فى شئونها دون رقابة، وفى حالات عديدة اعتبرت سيدة البيت وكان الأبناء ينسبون إليها، وإذا مات الزوج انتقلت إليها السلطة على الأبناء الذين لم يبلغوا سن الرشد، ولو فى علاقات الأسرة بالدولة، وموضوعها يستحق أن نفرد له مقالا أو عدة مقالات أخرى. ولسوء حظ المرأة المسلمة تأثر المفسرون والمشرعون القدامى "وكلهم رجال" بالفلاسفة الإغريق بعد أن ترجموا الفلسفة اليونانية إلى العربية، كما تأثروا بكل من سبقهم من حضارات ما عدا الحضارة المصرية القديمة، وابتعدوا عن روح النصوص القرآنية، بل حاولوا أن يطوعوها لأفكار الفلاسفة القدماء كما حشدوا فى تفاسيرهم إسرائيليات لا حصر لها. ومازال هناك الكثير ليطرح للنقاش، ولكنه - كالعادة - قد يثير زوبعة من الاعتراضات والاتهامات التى اعتدنا أن نتلقاها كلما عنَّ لأى كاتب مصرى أن يطرح أفكاره على قرائه، على أمل أن يستفيد من وجهات نظرهم، وعلى افتراض أن الخلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية. ومازال للحديث بقية.