الحاكم الأسطورة .. ونظام الحكم المستحيل رئيس تكلمه الملائكة! التجسس في جولات سرية للحكام.. هل يصلح للعصر الحالي؟ أن يكون شخص مثل عمر رضوان الله عليه .. لامواطن ولاحاكم .. ليس فقط نظام حكمه هو المستحيل .. عمر أمير المؤمنين نفسه مستحيل .. غير مسبوق وغير ملحوق .. وإذا كان نظام حكمه قد ارتبط بطبيعته .. فكيف بنا يمكن أن نتوهم أن طريقته في إدارة شئون الدولة يمكن أن تتكرر .. أو تستوحي .. أو تستلهم .. أو تقتبس .. أو تنقل. لا أتحدث بالطبع عن قيم العدل والمساواة والأمانة .. هذه في حد ذاتها قيم يسعي إليها البشر منذ بدء الخليقة .. وقبل أن يولد عمر رضي الله عنه .. وقبل أن تؤسس دولته .. وإنما عن الطريقة التي حكم بها .. والمأثورات المنقولة عنه في ذلك .. تلك التي يعتقد البعض أنها يمكن أن تسوق علي أنها نموذج للدولة الدينية التي يروجون لها. لجلال الدين عبدالرحمن أبوالفضل السيوطي كتاب شهير اسمه (تاريخ الخلفاء).. أعود إليه هنا لكي أرصد المرويات في خصائص وصفات عمر .. ما نقل منها عن نبي الله محمد (صلي الله عليه وسلم) علي الأقل .. وفيها ما يؤكد أننا بصدد شخصية من غير الممكن تكرارها .. وهي نقطة عبرت عليها سريعا في الحلقة السابقة .. وأعود إليه اليوم تفصيلا. لقد قال الرسول (ص) عنه: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر" .. والمحدثون تعني الملهمين .. ويقول السيوطي في هامش كتابه: (المحدث هو من ألقي في روعه شيء من قبل الملأ الأعلي فيكون كالذي حدثه غيره به)..وقيل: (من يجري الصواب علي لسانه من غير قصد).. وقيل: (مكلم - أي تكلمه الملائكة من غير نبوة). ولست أعتقد أنه يمكن أن يدعي أي حاكم اليوم .. رئيسا أو ملكا أو سلطانا أو رئيس وزراء .. أنه يمكن أن تكلمه الملائكة .. أو يريد أن نعامله علي أنه يقول الصواب دون أن يقصد .. أو يأتيه إلهام من الله ولو لم يكن نبيا .. هذه مواصفات انتهي عصر وجودها .. وأهمية حكام العصر الحالي في الديموقراطية أيا ما كانت إيجابياتهم أو مساوئهم أنهم بشر مثلنا .. لايتميزون عنا إلا بما أوليناه لهم بالطريق الديموقراطي.. أو أي من سبل صنع الشرعية.. فاخترنا طوعا أن نعطيهم الصلاحيات وقبلنا أن نجعل لهم اختصاص الحكم. رسول الله (ص) كرر الثناء في مواصفات ومناقب سيدنا عمر رضوان الله عليه .. بما يفيد استحالة أن يكون هناك حاكم مثله .. وفي ذلك أواصل نقل بعض ما قال النبي (ص) ما يؤكد هذا المعني: قال(ص): "لو كان بعدي نبي لكان عمر ابن الخطاب". وقال (ص): "إني لأنظر إلي شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر". وقال (ص): "أول من يصافحه الحق عمر، وأول من يسلم عليه، وأول من يأخذ بيده فيدخله الجنة". وقال (ص): "إن الله وضع الحق علي لسان عمر يقول به". وقال(ص): "إن الله جعل الحق علي لسان عمر وقلبه". وقال (ص): "عمر سراج أهل الجنة". وقال (ص): "لايزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش هذا بين أظهركم".. وأشار بيده إلي عمر رضي الله عنه .. وهذا حديث يستوجب مزيدا من الإمعان .. إذ يعني أن الفتنة يمكن أن تأتي في أي عصر يلي عصر عمر .. وأن وجوده شرط منعها .. ومن ثم فإن المنع مؤقت .. لأن سيدنا عمر لم يعش بعد نبي الله كثيرا .. ومات مثل بقية البشر .. فصفاته الأسطورية لم تمنع حقيقته البشرية. ولا أعتقد مهما بلغ حاكم من تيه وخداع أنه يمكن أن يدعي أن جبريل عليه السلام قد حادث النبي (ص) بشأنه.. يقول الحديث الشريف : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : "جاء جبريل عليه السلام إلي النبي (ص) فقال : "أقرئ عمر السلام ..وأخبره أن غضبه عز ورضاءه حكم". وقال (ص): "ما في السماء ملك إلا وهو يوقر عمر، ولا في الأرض شيطان إلا وهو يَفْرَقُ من عمر".. وقال (ص) : "إن الله باهي بأهل عرفة عامة، وباهي بعمر خاصة".. وقال (ص): "الحق بعدي مع عمر حيث كان".. وقال (ص): "إن الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم إلا خر لوجهه". ولست أريد أن أضيف إلي ما سبق الكثير مما ذكر في صفات وخصائص عمر من آخرين غير رسول الله (ص) .. فليس بعد قوله قول .. حتي لو كانوا من كبار الصحابة .. الاستخلاص في هذه النقطة أننا بصدد شخص غير عادي .. لا يمكن أن تجده الآن .. وعلي الرغم من ذلك فإنه بكل مواصفاته تلك كان يمكن أن تفوته بعض الأمور .. فلا تستبين له إلا بعد أن يستخدم قدراته في أن يسبر غور الحقائق التي فاتته. علي سبيل المثال هناك واقعة تذكر بخصوص قرار أصدره أمير المؤمنين عمر بشأن مدة غياب الجند عن بيوتهم .. تظهر أنه لم يكن يعرف ما هو المدي الزمني الذي يمكن أن تحتمله المرأة بعيدا عن زوجها .. حتي لو كان حذيفة رضي الله عنه قد قال : "كأن علم الناس كان مدسوسا في حجر عمر".. وحتي لو كان قد قال ابن مسعود رضي الله عنه "إنه ذهب بتسعة أعشار العلم". وأما الواقعة التي أقصدها فتروي هكذا: خرج عمر ذات ليلة يطوف بالمدينة وكان يفعل ذلك كثيرا .. إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلق عليها بابها وهي تقول: تطاول هذا الليل تسري كواكبه.. وأرقني أن لاضجيع ألاعبه فو الله لولا الله تُخشي عواقبه.. لزحزح من هذا السرير جوانبه ولكني أخشي رقيبا موكلا بأنفسنا لايفتر الدهر كاتبه مخافة ربي والحياء يصدني.. وإكرام بعلي أن تنال مراتبه.. وبعد أن استمع عمر رضي الله عنه إلي هذا فإنه كتب إلي (عماله بالغزو) ألا يغيب أحد أكثر من أربعة أشهر .. ولكن رواية أخري أكثر تفصيلا تقول إن سيدنا عمر بعد أن استمع إلي تلك الأبيات سأل المرأة: مالك؟ فقالت: أغزيتَ زوجي منذ أشهر وقد اشتقتُ إليه .. قال : أردت سوءا ؟ قالت : معاذ الله، قال: فاملكي عليك نفسك، فإنما هو البريد إليه .. فبعث إليه .. ثم دخل علي حفصة - رضي الله عنها - فقال: إني سائلك عن أمر قد أهمني فافرجيه عني ؟ كم تشتاق المرأة إلي زوجها ؟ فخفضت رأسها واستحيت، قال: فإن الله لايستحي من الحق، فأشارت بيدها ثلاثة أشهر وإلا فأربعة أشهر .. فكتب عمر ألا تحبس الجيوش فوق أربعة أشهر. وبالإجمال فإن ما ذكر كله .. يقتضي نقاشا حول ثلاث نقاط .. تصب في النتيجة التي نسعي إليها .. وهي استحالة تكرار نظام الحكم علي طريقة سيدنا عمر: 1 - أما وإن كان سيدنا عمر بتلك الصفات التي ذكرها رسول الله (ص) ..كيف يمكن أن تقوم ديموقراطية إذن ؟! بمعني آخر إذا كان الحاكم بهذه الخصائص .. كيف يمكن أن يترشح .. ويجري انتخاب عليه .. لقد سئل خليفة رسول الله الأول أبو بكر الصديق في مرضه : "ماذا تقول لربك وقد وليت عمر" ؟ قال : أقول له وليت عليهم خيرهم. ولايمكن في العصر الحالي أن نقيس من هو أخير الناس .. إذ مات الخليفة أبوبكر .. وكان يمكنه ذلك في صدر الإسلام .. تعقدت الأمور .. ولم يعد من الممكن للناس أن يحكموا علي الناس أو علي الحكام بمنطق هذا نعرف أنه أخيرنا أم أن هذا أكثرنا شرا .. الاختيار لا يكون إلا استنادا إلي مقومات محددة .. تقوم علي عناصر القيادة والتاريخ السابق والرؤية المعلنة .. لأنه لا يمكن أن نرهن أوضاع الأمة بأن نعتقد أن هذا الشخص أفضل من غيره دينا. المترشحون للحكم في الأنظمة العصرية يطرحون أنفسهم علي الناس من خلال الانتخاب .. ويقدمون برامج .. ويعلنون تعهدات .. وقد بلغ سيدنا عمر مكانته السياسية بأن اختاره أبوبكر .. شخص واحد.. ثم مارس الحكم .. مع الوضع في الاعتبار أن الشيعة يعتقدون أن عليا كان أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر معا .. وعلي أساس التعهدات والبرامج يحاسب الناس حكامهم .. ويتعاملون مع ما يقومون به .. ولو خرج حاكم الآن وقال اتركوني لله وحده يحاسبني لعومل هذا علي أنه نوع من الخديعة والتدليس .. ولفسدت أحوال الأمم .. إذ لايكون فيها قانون ولاتسود فيها قاعدة. 2- حين انشغل سيدنا عمر بقصة تلك المرأة التي عانت من غياب زوجها .. فإنه حسب إحدي الروايتين وليس الاثنتين .. ذهب إلي ابنته يستطلع رأيها .. فخجلت وفق ما تقول الرواية ولم تنطق بشهادتها إلا حين طمأنها بأن الله لايستحي من الحق .. وبعد ما قالته السيدة حفصة رضوان الله عليها فإنه قرر ألا يغيب رجل عن زوجته في الغزو أكثر من أربعة أشهر . ولكن السؤال هنا له أكثر من وجه: هل يجوز لحاكم في العصر الحالي أن يطلب مشورة في أمر يخص هذه المسألة الجوهرية من ابنته.. وينقل هذا عنه .. حتي لو تكلما في الأمر فهل يكون هذا هو الأصل الذي يستند إليه القرار .. لقد كان هذا مقبولا من أمير المؤمنين عمر .. لما له من مكانة فيما بين المسلمين .. وفي تاريخ الإسلام .. ولكن هذا لو حدث الآن لن يكون مقبولا .. لأن هناك جهات استشارات علمية موثقة .. تستطيع أن تبني رؤيتها علي حقائق وليس فقط علي تجربة امرأة أيا ما كان موقعها الديني . ولو تردد الآن أن حاكما يستشير ابنته أو زوجته قبل أن يصدر قرارا .. في أي أمر .. وليس فقط فيما يخص شئون الجيش لاعتبر ذلك معيبا .. ولتعرض لسيل من النقد .. والتعنيف الشعبي. ثم من الذي يمكن أن يجعل حاكما يثق في رأي ابنته بخصوص مسألة من هذا النوع؟! .. ألا يمكن أن يكون لدي سيدة دون غيرها طبيعة مختلفة .. فهذه يمكنها أن تنتظر شهرا وهذه يمكنها أن تنتظر سنة .. وألا يمكن أن يكون حياء السيدة حفصة قد منعها من أن تصارح ولي أمر المؤمنين بما في مكنونها .. فاختارت أبعد ما يمكن أن تحتمله أي امرأة؟ والأهم، أنه كان بمقدور سيدنا عمر وفق خصائصه وعلمه أن يستنتج أن ما تشير إليه واقعة تلك المرأة هو ظاهرة عامة يمكن أن تطبق نتائجها علي الجميع .. فإنه لايوجد دليل علي أن ما يمكن أن يسمعه الحاكم من أي مواطن الآن يعبر عن مشكلة عامة ..فقد يكون الأمر في واقعة أخري ليس سوي مجرد موضوع خاص .. لايقتضي قرارا عاما .. وقد يكون عاما بالفعل لكن التأكد من هذا يقتضي إخضاع الأمر لاختبارات وآليات بعينها. أيا ما كان الحال فإن تلك ليست هي الطريقة التي يمكن أن يتم بها استطلاع المواقف التي تبني عليها قرارات خطيرة من هذا النوع في العصر الحالي .. لاسيما حين يتعلق الأمر ليس بشئون مشاعر النساء .. وإنما تحركات الجيوش بناء علي ذلك .. فهذه قاعدة تقرر علي أساسها عملية استبدال المشاركين في الغزو .. ونظام تحركات الجند .. وتكاليف مالية مهولة .. وعمليات انتقال قد تقود إلي أن يعرف الخصوم مواعيد بعينها فيصطادون المتحركين صوب أسرة العائلات تلبية للقرار. 3- نأتي إلي مسألة أكثر جوهرية .. وهي تلك التي تتعلق بالآلية الأشهر التي استعان بها سيدنا عمر رضوان الله عليه في معرفة أحوال العباد .. وهي كما في قصة تلك المرأة: الإنصات ليلا إلي ما يجري بين الناس .. أو ما يصل في بعض الأحيان إلي حد التنكر والاختفاء بينهم لكي تصل إليه الانطباعات بلا وسيط .. وممارسة التعسس ولا أقول التجسس لكي ينكشف له ما يدور في الخفايا. هذه مسألة أكثر جوهرية .. ليس فقط لأن أحد القراء قد قال في العدد الماضي وما الذي يمنع الحاكم من أن يمضي ولو مرة في الشهر ولو مرة في السنة بين الناس لكي يعرف أحوالهم بهذه الطريقة .. ولكن لأنها تعبر عن قناعة حقيقية في الثقافة العربية .. وفي ذهنية المواطن العربي .. خاصة بعد أن عضدت تلك القصص أساطير ذكرت في حكايات ألف ليلة وليلة ومنقولات سجلت عن خلفاء وأمراء آخرين بعد سيدنا عمر .. وبينهم وبينه بون هائل. دعك هنا من عمليات التحقق الواجبة من تلك الوقائع .. ومن الأسئلة التي قد تثور في ذهنك بخصوص أن المرأة التي سمعها سيدنا عمر كانت بالمصادفة تقرض الشعر الموزون عن حالها ولا تقول مجرد كلام منثور .. ولكن إليك بعض الملاحظات: - كانت الخلافة الإسلامية في عصر سيدنا عمر قد اتسعت بحيث يفوق الأمر طاقة جولاته خارج منطقة مقر حكمه .. فقد فتح في سنة 14 هجرية كلا من دمشق وحمص وبعلبك والبصرة والأبلة .. وفي سنة 15 فتح الأردن واليرموك .. وفي سنة 16 فتح الأهواز والمدائن وتكريت وبيت المقدس وحلب وأنطاكية .. وفي سنة 17 كان عام الرمادة والقحط .. وفي سنة 18 فتح جنديسابور وحران والموصل .. وفي سنة 19 فتح قيسارية .. وفي سنة 20 فتحت مصر وأجلي اليهود عن خيبر وعن نجران.. وفي 21 فتح الإسكندرية ..وفي سنة 22 فتح أذربيجان وهمذان وطرابلس الغرب وعسكر وقومس.. وفي سنة 23 فتح أصبهان وما حولها . أي أن الدولة اتسعت شرقا وغربا وشمالا .. وخرجت كثيرا عن نطاق المدينةومكة الجغرافيين .. ولست أعتقد أنه كان بإمكان سيدنا عمر أن يلم بكل هذه المناطق من خلال اطلاع سري مباشر عبر عمليات تجول ليلية .. ففي كل البقاع كان هناك وال يقوم بدوره .. وكان النظام يقضي بأن سيدنا عمر يحاسب الوالي وفق ما يري ووفق ما يتلقي من شكاوي .. أي أن لذلك حدودا .. وللطاقة سقفا .. وللمرور اليومي نطاقا. ولا أعتقد أنه كان يمكن لأي حاكم، عمر أو من بعده، أن يقوم بهذا الجهد .. في ظل عدم توافر وسائل النقل الحديثة .. وأنه كان يستخدم إما طاقته الجسدية في التحرك أو فوق البعير .. ولاشك أن القيام بهذا ولو مرة في الأسبوع كان سيؤثر علي قدرة الحاكم في أن يلم ببقية جوانب وضرورات الحكم .. لأن الجولات الليلية تستنفد طاقته وقدرته. ومن جانب آخر فإن اقتصار هذا النشاط علي بقعة من نطاقات الحكم دون غيرها يعني نوعا من عدم المساواة بين مختلف أرجاء الدولة .. إذاً ما ذنب مواطن في أذربيجان أن الخليفة لا يمر ببيته لكي يسمعه .. أليس عليه أن يساويه بمواطن في مكة لكي يطلع علي شئونه .. أو لنقل أن الرئيس كان بمقدوره أن يمر علي حي في القاهرة .. فما ذنب الحي الثاني .. وما ذنب الساكنين في أسوان مثلا. إن علينا أن ندرك أن تلك حكايات وأساليب قد عمر بها تراثنا .. وانتهت .. ولم يبق منها إلا قيمة أن نتعلم أن يكون الحاكم ملما بأحوال مواطنيه .. أما الوسيلة فإن التي تقرر نوعها ظروف العصر وتعقيداته .. وفي آليات الدول الحديثة ما يوفر أساليب كثير لهذا من خلال الأجهزة المختصة والجهات المعنية. ونكمل الأسبوع القادم