اغلق شارع القصر العينى ،حيث أعمل فتركت سيارتى ولجأت إلى الأوتوبيس والميكروباص ووجدتنى محاصرا بحوارات الطريق مع ناس مثلى يشعرون بالقلق والتوتر وعدم الفهم وكان الهدف مجرد الفضفضة عن هم أصبح يحمله الجميع ودفعنى هذا الهم إلى الوقوف على الرصيف فى احد الشوارع الجانبية المجاورة لمجلس الوزراء لأناقش الشباب وأتأمل دموع الصبايا وقطرات الدم النازفة من أولادنا وأذهلنى تكرار مشاهد الكر والفر والصراخ وحوارات الطوب وسقوط الضحايا من ميدان التحرير إلى أطفيح ومن إمبابة إلى ماسبيرو ومن شارع محمد محمود إلى مجلس الأمة، نفس المشاهد الهستيرية تتكرر فى كل الأحداث المؤسفة التى عشناها منذ نجاح ثورة يناير حتى الآن.. وتذكرت دورات تدريبية رائعة حضرتها منذ أكثر من عشر سنوات وكانت عن حل الصراع أو إدارة الأزمات أو يمكن أن نسميها فن إدارة الفوضى وكانت هذه الدراسات نوعا من السحر الذى جذبنى فأضفت إلى مكتبتى العديد من الكتب والدراسات الحديثة وفى ظل حالة الفوضى الجماعية التى نعيشها الآن رجعت إلى مكتبتى فوجدت النظريات العلمية تفسر وتروى أسرار ما يحدث فى مصر من مشاهد دامية بكل ما فيها من صرخات وقنابل غاز وشعرت كأننا جميعا للأسف أصبحنا ضحية لخبراء فى إدارة الأزمات يجيدون فنون إدارة الفوضى إنه سحر العلم الذى يجب أن نتعلمه حتى نوقف الأحداث المؤسفة التى نعيشها، أما إذا تفوقنا فى هذا السحر فإننا نستطيع أن نحمى أنفسنا ونبنى مستقبلنا. سحر العلم سخرت يوما من التسلح الأمريكى الزائد أمام أحد خبراء العسكرية المصرية فقال لى: فى معركة المماليك ضد الغزو الفرنسى لمصر كانت آخر مواجهة بين السيف والمدفع وفى معركة صدام حسين أمام الغزو الأمريكى للعراق كانت آخر مواجهة بين جندى المشاة التقليدى والدبابة وأسلحة الثوره التكنولوجية الثالثة إنه سحر التقدم الذى يحقق النصر دائما لمن يجيدونه وعلى المتخلفين فى استيعاب هذا السحر مواجهة الهزائم والمشاكل والفوضى والأزمات بلا أمل.. تذكرت هذا الكلام وأنا أقارن بين جهود العلماء فى تطوير أساليب حل الصراعات والأزمات وفنون إدارة الفوضى، وبين حوارات الغازات والطوب والصراخات والضحايا التى تدور بالقرب من مقر عملى بشارع قصر العينى ووجدت حلولا لأزماتنا ومخرجا لنا من دوامات الفوضى التى نعيشها بشكل متكرر. وكان من الصعب أن ألخص عشرات الكتب والدراسات كما كان من الصعب تلخيص كل المشاهد الصعبة التى عشناها جميعا خلال الأشهر العشرة الأخيرة لذلك أكتفى فقط بعرض بعض اللمحات السريعة ومنها أن إدارة الفوضى تعنى بالأساس كيفية التغلب عليها بالأدوات العلمية والتنفيذية المختلفة وتجنب سلبياتها بل والاستفادة من إيجابياتها وذلك من خلال التنبؤ بالمخاطر المحتملة وإعداد الخطط لمواجهتها واتخاذ القرارات اللازمة لحلها وفى هذا المجال يمكن اعتبار مجموعة العمل التى قادها الراحل العظيم حافظ إسماعيل من قصر الطاهرة قبل وأثناء وبعد حرب 1973 مجموعة إدارة أزمة ذات كفاءة عالية مهدت مسرح العمليات الداخلى والخارجى لحرب أكتوبر وفتحت الطريق للنصر الذى تحقق. هذا معناه أن مواجهة الأزمات المتكررة التى تواجهها مصر تحتاج إلى فريق عمل ذى كفاءة عالية يعمل تحت قيادة أعلى سلطة لأن إدارة الأزمات بفاعلية تحتاج ردود أفعال غير تقليدية مقيدة بضيق الوقت وضغوط الموقف ويعتمد هذا الفريق على توافر المعلومات والتخطيط واستخدام وسائل علمية للتعامل مع الأزمات مثل المحاكاة والسيناريوهات المتنوعة بما فيها الأسوأ ويمكن فى هذا المجال الاستعانة بمراكز التفكير والكفاءات العلمية المتوفرة فى مصر. عموما يمكن القول بأن الدول التى اعتمدت قياداتها على فرق خاصة ذات كفاءة عالية فى التعامل مع الأزمات كانت أكثر قدرة على تجنب الفوضى والمشاكل قبل وقوعها.. أو تجاوز آثارها السلبية إذا وقعت بالفعل بعكس الدول التى انتهجت أساليب ارتجالية فى مواجهة الأزمات وتعاملت بأساليب غير مدروسة مع بؤر الصراع والتوتر والفوضى مما يؤدى غالبا إلى ضعفها أو تفككها أو على الأقل تخلفها، إنه سحر العلم الذى يكاد يكون السر الوحيد وراء تقدمنا أو تخلفنا فى المستقبل. عناصر الأزمة وإذا كانت الأزمة باختصار هى موقف صعب قابل للحل فإن حل الأزمة التى تواجه المصريين لا يمكن أن يحدث إلا بتحليل عناصر هذه الأزمة ودراسة عناصر القوة والتحديات التى تواجه كل عنصر منها وبعدها يمكن إعادة ترتيب العلاقة بين هذه العناصر فى اتجاه تخليص مصر من الأزمات التى تواجهها، وهذا يعنى إعادة بناء المجتمع المصرى وإعداده بشكل مناسب يؤهله لبناء الدولة الحديثة القادرة على تحقيق التقدم والازدهار. والمتابعة المتأنية للأحداث التى عشناها منذ نجاح الثورة وحتى الآن تضع أمامنا حقيقة أن أهم العناصر المؤثرة فى الأحداث التى تمر بنا هى المجلس العسكرى والقيادات السياسية والفكرية والجماهير المصرية والثورة المضادة الهادمة للمجتمع سواء كانت داخلية أو خارجية. وفيما يتعلق بالمجلس العسكرى نجد أنه لم يصنع الثورة وبالتالى لم يتول قيادتها وإنما هو يمثل سلطة تسيير شئون البلاد فى المرحلة الانتقالية التى تنتهى بعد عدة أشهر بعد إعادة بناء مؤسسات الدولة وتسليم السلطة إلى سلطة مدنية منتخبة من الشعب.. وللحقيقة نجح المجلس العسكرى فى حماية الثورة وكان سبباً من أسباب نجاحها وتبنى شعاراتها العامة التى أعلنت فى بداياتها كما تحمل مسئولية إعادة بناء الدولة على أسس عصرية، وللأمانة اتخذ المجلس العسكرى خطوات جادة وفعالة فى هذا المجال.. من الاستفتاء إلى الانتخابات البرلمانية ومن إصدار القوانين اللازمة إلى تحديد جدول زمنى لتسليم السلطة، وساعد المجلس العسكرى فى تنفيذ مهامه جموع الشعب المصرى وبدا ذلك واضحا فى مواقف كثيرة منها الاستجابة الجماهيرية الرائعة والمتحضرة من المصريين الذين شاركوا فى العملية الانتخابية.. وفى المقابل واجه المجلس العسكرى تحديات صعبة منها مثلا أنه يعمل بلا حزب سياسى قوى يسانده.. وبلا إعلام يدعمه..وبلا أوضاع اقتصادية مواتية.. وأيضا بدون توافر درجة مناسبة من الاستقرار الأمنى.. حيث تابعنا الأحداث المتفجرة بشكل متتال وعلى فترات متقاربة وبشكل مربك.. ومن التحديات التى تواجه المجلس العسكرى أنه يعمل بدون تعاون كاف من باقى عناصر الأزمة المصرية.. أو حتى تفهم لطبيعة المؤسسة العسكرية ورجالها فالجيش ليس حزباً سياسياً.. ورجاله ليسوا مفاوضين.. إنهم جنود يقاتلون فى سبيل تحقيق الهدف ببسالة.. وهدفهم فى حالتنا هذه إعادة بناء الدولة المصرية الحديثة.. ورغم كل هذه التحديات المربكة كان يعمل بطريقة ناجحة ويبدو أنه يملك بعض آليات إدارة الأزمات التى أعانته على تحقيق بعض النجاحات التى أراها هائلة فى ظل التحديات الصعبة التى تواجهه والتى تناولت بعضها فى هذه العجالة. ومن عناصر الأزمة المصرية أيضا القيادات السياسية والفكرية.. وفى هذا المجال يمكن القول بأن من التحديات التى يواجهها المجلس العسكرى أيضا أنه لم يجد كيانا واحدا يمثل سلطة الثورة يستطيع أن يتفاعل معه بشكل إيجابى.. حيث أصبح على المجلس التعامل مع أكثر من 150 تحالفاً وائتلافاً تمثل شباب الثورة.. ونحو 50 حزباً سياسياً قديماً وجديداً.. وأكثر من 100 شخصية عامة مؤثرة منهم مرشحو الرئاسة وممثلو التيارات الفكرية السائدة وأدى هذا الوضع إلى تشتيت الجهود والكثير من التوترات.. والمشكلة الأخطر هنا أن أغلب هذه التيارات لم يرتق سلوكها السياسى إلى مستوى الأزمة التى يواجهها المصريون جميعا. وتمثل ذلك فى جوانب كثيرة منها مثلا أن قوة الطلب الحقيقى فى التعامل مع المجلس العسكرى كانت فى تنظيم المليونيات.. وإحداث الفوضى والمواجهات العنيفة.. ومنها عدم تمكن قيادات شباب الثورة من ممارسة العمل الجماعى التوافقى.. مما أدى إلى تفتيت القيادات الممثلة لهم.. والتضارب بشأن المليونيات التى مل المواطن العادى من تكرارها.. مما أدى فى النهاية إلى تراجع قوة الدفع لحركة شباب الثورة.. مما دعا بعضهم إلى الاستعانة بالبلطجية والأحداث كما يتردد.. وزاد من تعقيد الموقف أن بعض قادة الكيانات السياسية الكبيرة خفضت من سقف طموحها إلى مستوى ذاتى ضيف الأفق.. مثل الفوز بأكبر عدد ممكن من مقاعد البرلمان القادم.. ولجأوا إلى الاستعانة بأساليب رخيصة قد تفيدهم مرحليا.. ولكنها حتما ستضرهم على المدى البعيد.. ربما لذلك ظهر التصويت الطائفى.. وأحاديث المال السياسى. والمشاحنات بين التيارات السياسية.. وهكذا تراجع الهدف الأهم وهو بناء الدولة المصرية الحديثة القادرة على التقدم والازدهار.. والتعاون فى ذلك كمصريين لا كحزبيين.. ومشكلة أهدافهم المتواضعة تتمثل فى أن المواطن المصرى العادى شارك باهتمام فى إنجاح الثورة وفى الانتخابات البرلمانية لبناء مستقبل أفضل.. والويل لمن تحايل على صاحب السلطة الحقيقية وهو الشعب المصرى. أما بالنسبة للعنصر الثالث من عناصر الأزمة وهو الجماهير المصرية فتتمثل أزمتها فى أنها لم تجد من يحشدها فى اتجاه تحقيق الأهداف الوطنية العامة مثل إعادة بناء الدولة المصرية الحديثة.. أو حتى فى اتجاه تحقيق أهداف الثورة (الحرية والعدالة والعيش بكرامة).. ربما لذلك اتجهت قطاعات من هذه الجماهير إلى الاحتشاد لتحقيق مطالب خاصة ضيقة الأفق مثل الاعتراض على تعيين محافظ أو بناء كنيسة.. أو المطالبة بعلاوة أو تسوية مالية.. وهكذا.. وهو ما أدى بالتدريج إلى إضعاف الثورة.. وأصبحت أسمع دائما من الناس العادية (خدنا إيه من الثورة).. وضاعف من تعقيد هذا الوضع عدم توافر المعلومات وانتشار الضبابية والشائعات وعدم اليقين.. هذا الجو المرضى أتاح حرية الحركة للعنصر الرابع وهو القوى الداخلية والخارجية الهادمة للمجتمع والدولة.. والمشكلة هنا أخطر حيث لا تتوافر أى معلومات عن البدء فى مواجهة هذه القوى.. أو حتى توافر أى معلومات صحيحة عنها والاكتفاء بالإشارة إلى الطرف الثالث الذى يطلق النار على المتظاهرين والجنود فى كل الأحداث التى سالت فيها دماء المصريين.. وبعد كل هذا بالله عليكم كيف تخوض مصر وأهلها معركة البناء بلا معلومات أو خطة أو حتى مجموعة عمل لإدارة الأزمة.. وضاعف من تعقيد الموقف أن المصرى أصبح يواجه المصرى.. وأصبحنا لا نعمل جميعا كمصريين يقاتلون لتحقيق أهداف مصر الوطنية.. ونكتفى بهذا القدر. الحل فى الدول المتقدمة توجد فى كل إدارة من أصغر وحدة محلية إلى قمة هرم السلطة خبراء فى افتراض وتوقع الأزمات.. ووضع سيناريوهات لكل ما هو ممكن حدوثه منها بناء على معلومات دقيقة يزودهم بها خبراء آخرون فى جمع المعلومات وتنسيقها وتحليلها.. مع وجود حالة استعداد تام لدى مختلف قطاعات الدولة للتعامل الفورى مع أى أزمة طارئة. والاستعداد المسبق لما يمكن توقعه منها.. فضلا عن تأهيل العاملين بمختلف المؤسسات للتعامل الفورى مع أى أزمة كل فى حدود وظيفته ودوره المرسوم فى السيناريوهات الموضوعة.. أما عندنا فتتكرر المهازل الفوضوية.. وكأننا حتى لا نتعلم من تجاربنا..باختصار الحل فى إتقان سحر العلوم المتقدمة.. والويل للمتخلفين علميا.. لأن عليهم مواجهة الأزمات بلا أمل.