لم نكن في حاجة لنتائج الجولة الأولي للانتخابات البرلمانية حتي نتنبأ بمستقبل اليسار المصري.. مات إكلينيكيا.. جل المحاولات التي يمارسها ساسته، وحالة الزخم التي تفرضها نخبته، مجرد إطالة الأمد في الجسد العليل بإبقائه علي أجهزة التنفس الصناعي لفترة قد تطول أو تقصر، لكنها لن تبعث فيه روحا تجعله يستعيد نشاطا فتيا في الحياة السياسية، تخنقه إشكالياته الذاتية، وأداؤه المترهل، وخلافاته البينية، ومواقفه الاستراتيجية، واختياراته التكتيكية، وانقطاع صلتهم بالشارع والقوي العمالية، التي تسربت من بين أيديهم لصالح القوي الإسلامية. من الصعب حصر حجم الإشكاليات التي تواجه اليسار.. فخطاب النقد الذاتي بدأ منذ 15 عاما ولايزال مستمرا، حتي ابتذل قيمته، بعد الاكتفاء بتحديد نقاط الضعف دون أدني محاولة لرأب الصدع أو إجراء تدريبات وتكتيكات تنفخ عضلاته السياسية التي أصابها الوهن لدرجة أهانت وأهالت علي التاريخ النضالي الطويل لتلك الحركة التي كانت طليعة كل فعل ثوري تقدمي ثم تنحصر لصالح قوي أخري علي الساحة. لا شيء علي أرض الواقع يشي بمستقبل أفضل لليسار المصري رغم حالة الانفتاح والانفلات السياسي الحاصل حاليا، واستفاد منه الجميع إلا أنه جاء وبالا علي اليسار الذي انضوي تكتيكيا تحت شعار الليبرالية البراق.. تلحف به خوفا من النقد وكشف حجمهم الحقيقي خصوصا أن النخبة الثقافية والإعلامية منهم، وفي هذا إعلان فشل شخصي لهم وفقدانهم أرضيتهم بل و«أكل عيشهم»! قراءة طالع اليسار لا تتم ولن تفلح إلا بثورة من داخل الحركة لإسقاط نظامها القائم، الجاثم علي أنفاسها لعشرات السنوات- لا تقل عن ثورة 25 يناير- فلن تشفع أي محاولات استشفاء.. فات الوقت عليها.. لم تعد تجدي أي مسكنات خصوصا أن دولة جديدة تتشكل حسب شكل بنيوي أعاد للأحزاب هيبتها، فلم يعد مقبولا تشرذم اليسار في جماعات احتجاجية مثل «الجمعية الوطنية للتغيير» أو «كفاية» وغيرها تنتهي أدوارها بانتهاء هدف إنشائها ولا تنتظم في شكل سياسي شرعي قادر علي جذب الجماهير التي تركب موجتهم ثم تنزل لتستقل أول قطار إلي محطة السلطة في البلاد. -- حزب التجمع- منبر اليسار الرسمي - الذي يري كثيرون من اليساريين أنه تماهي مع النظام السابق ولم يستطع أن يطوي تحت جناحه التيار الناصري والقومي، وفقد النفوذ في الشارع، وانخفض توزيع صحيفة الأهالي- الناطقة بلسان حزبه-، وظلت قياداته في معظمها تنتمي لشريحة عمرية تجاوزت الستين وأصبح الشباب الطامح لتولي مقعد القيادة عليه أن يقبل بدور السكرتارية للرموز.. لم يعد يقوي علي تحمل المسئولية اليسارية وأصبح في موقف حرج لا يتناسب مع الحركة اليسارية وتاريخها. «التجمع» أفلت من العقاب مؤقتا بعد أن رضي أن يكون تابعا لحزب المصريين الأحرار- حديث النشأة - الذي يقود ما يسمي بالكتلة المصرية ليتحصل علي ما تيسر من مقاعد القائمة، وحتي المرشح اليساري الوحيد علي المقعد الفردي «البدري فرغلي» اقتنصه لتاريخه السياسي وليس لأيديولوجيته وانتماءاته السياسية خصوصا أنه استقال من التجمع وإن ظل علي يساريته! الحزب لا أمل له إلا بثورة داخلية بعد أن تكلس علي نفسه، فلم يدخل تحالف الكتلة المصرية من مركز قوة وإنما أمسك بذيلها للتشبث بآخر فرص النجاة بشكل لا يليق، أصبح مجرد تابع، غاب اسمه، تناساه الناخبون في المعركة الانتخابية وتصدرت الأحزاب الليبرالية - أعمارها لا تتجاوز أيام - المشهد عنها وحققت أرضية في الشارع ولا سبيل سوي أن تتنحي قيادات الحزب وتترك الساحة لشباب أكثر حركة وديناميكية وإلا سيفوته القطار ويصبح مجرد ذكري. -- ليس الأمر بأفضل حال بالنسبة للتيارين الناصري والقومي، سواء علي المستوي الداخلي والصراعات الناشبة بين قياداته علي بقايا حزب.. حيث غابت الفكرة وبقي رمز ناصر مرفوعا في الميدان.. لم تكن القيادات علي قدر المسئولية في تحمل الأمانة وتركوها طوعا وانشغلوا بمجرد مقعد زائل علي رئاسة الحزب وتركوا كل مقاعد البرلمان.. قتلوا الفكرة الناصرية بعدم خوض الحزب العربي الناصري للانتخابات أصلا في حين خان حزب الكرامة اليسار بقبوله ترشيح أعضاء منه علي قائمة حزب الإخوان مثل «أمين إسكندر» في اعتراف منهم بضعف ثقل التيار اليساري ومرشحيه وأنه إن احتاج قبلة حياة فستكون من الإخوان! خارجيا بدأ التيار القومي يفقد زخمه مع سقوط نظام القذافي في ليبيا وانشغال النظام السوري في أزمته الداخلية والخروج الآمن لعبدالله صالح من السلطة في اليمن ومن قبلهما نظام البعث العراقي.. تزامن ذلك مع محاولات استقطاب مجلس التعاون الخليجي لأعضاء من خارجه وجس نبض مصر في الأمر، وهو ما اعتبره البعض بداية لحل جامعة الدول العربية وتأسيس كيان جديد قائم علي معايير مختلفة. يبدو أن مشاهد الميادين باقية، فالفكرة الناصرية في ذاتها تتآكل لصالح الارتباط بشخص عبدالناصر نفسه الذي سيظل رمزا قد نختلف حوله أما أفكاره فكانت محل نقد سلوكيات مريديه التي جعلتنا نكفر بها! -- واقع الأمر أن اليسار الفاعل يتمثل في مجموعة حركات تطلق علي نفسها أحزاب اليسار السرية مثل الاشتراكيين الثوريين والشيوعي المصري وهي كيانات يسارية كانت خارج حزب «التجمع»، ولها باع في العمل السري وكانت ضمن أطراف الثورة سواء بالتظاهر والاعتصام أو الدعاية والتعبئة.. وكالعادة تراجعت بعد أن كانت مؤثرة ومحركة للأحداث منذ 25 يناير.. وربما الحالة الثورية التي يعيشها البلد دفعتهم للاعتقاد بأنهم لو عادوا للعمل العلني مثل الحزب الشيوعي المصري بصفته أول حزب يساري عرفته مصر يمكن أن ينجحوا في استقطاب الشارع مرة أخري لكن ظل الوضع كما هو عليه وأصبحوا منغلقين علي أنفسهم أكثر مما سبق. إلا أن الحل جاء من خلال الدعوة لتأسيس حزب جديد لليسار تحت اسم «حزب التحالف الشعبي»، يضم أطياف اليسار التي خرجت من التجمع اعتراضا علي سياساته أو لم تنضم له من الأصل خصوصا.. وهو في نظر البعض طريق ثالث أمام اليساريين إما أن يخوضوه بشجاعة أو ينقلبوا بثورة تصحيح قوية لا تقف عند حدود رأس حزب التجمع بل تصل إلي كل أجزائه.. المهم أنه لا سبيل لرسم مستقبل اليسار- إذا ظل علي قيد الحياة- إلا بإفراز قيادة مؤهلة توحد الصفوف وتعبئ الطاقات وتستوعب الأفكار لتكون قطبا رئيسيا فاعلا في الحياة السياسية وتستطيع أن تخلق بيتا لليسار، وإن كانت مؤشرات الاختلافات غير مبشرة علي الإطلاق!؟ [email protected]