أعرف قطعا أنه سيكون هناك.. في جنة الرحمن مع الشهداء والصديقين و«البني أدمين» من الذين أحبوا البشر وكافحوا القبح ونشروا الجمال وقاوموا طغيان الفساد في أيامهم. كان هذا الرجل من الرقة بحيث «يجرح النسيم خديه» ومن الصلابة لدرجة الترفع الكامل عن إعطاء البعض شرف خصومته! التيار الإسلامي المتشدد كان هدفا من الأهداف الثابتة التي يوجه لها حجازي رسومه اللاذعة، وبما أن هذا التيار قد عاد بعد الثورة في أحزاب وتيارات علنية وفي صحف ومنابر وفضائيات توفرت لها كل الإمكانيات، وبعد ثورة كانت تري غالبية هذه التيارات أنها «خروج علي الحاكم» فمن الطبيعي أن تتنكر لمن دعوا لهذه الثورة ودفعوا أثمانا باهظة من أجل هذا اليوم الأعظم في تاريخ مصر.. 11 فبراير عندما أسقط المصريون الديكتاتور في أعظم ثورة شعبية في كل التاريخ الإنساني؟ تنكر التيارات الإسلامية عن تقديم بادرة «حسن نية» تجاه الفن يمكن تفهمه لكن هل أعطت مصر بمثقفيها وكتابها ووزارة ثقافتها «بعد الثورة» لقامة كبري مثل حجازي قيمته وقدره. كنت قريبا من الرجل لدرجة تمكنني من فهم عالمه والإجابة عن أسئلة شغلت محبيه مثل.. لماذا اعتزل الناس تماما.. هل أصيب فعلا باكتئاب؟ وما مصدر عبقريته وتفرده من بين كل فناني الكاريكاتير الكبار؟ في أول مرة قابلت فيها حجازي كنت أتوقع أن أشاهد رجلا حطمته الأيام وشارف علي النهايات.. ففي عام 2005 توالت مقالات العديد من كبار الكتاب تناشد حجازي الخروج من عزلته التي فرضها علي نفسه بحيث لا يلتقي أحدا ولا يسمح لأحد بلقائه، وكان أبرز هذه المقالات ماكتبه نقيب الصحفيين الكاتب الكبير الراحل كامل زهيري، إضافة إلي عشرات المقالات في الصحف التي تشيد بالرسام الذي ترتفع رسوماته بأي مطبوعة إلي أعلي درجات التوزيع والانتشار، وترددت أقاويل عن أن الرجل دخل في موجة من الاكتئاب الحاد نظرا للتدهور الحاد في أوضاع مصر علي كل المستويات ولفقدان الأمل لدي الجميع في حدوث أي تغيير، فقد كانت هذه السنة هي بداية صعود جمال مبارك بقوة وإنهاء بيع القطاع العام كله وذروة النفوذ الإسرائيلي في المنطقة. وقابلت حجازي أكثر من 50 مرة الأمر الذي يشعرني بصعوبة أن أعتبره الآن قد مات؟ هل يموت مثل الفنان حجازي؟ في اللقاء الأول لم أشاهد رجلا عجوزا قد حطمته الأيام.. بل علي العكس تماما.. فأنا الآن أمام رجل يضج بالحيوية والتمرد والتنظيم الشديد.. رجل يعرف ماذا يريد وسط مجتمع تائه تماما؟ في هذه الأيام من عام 2005 طلبت من الشاعر فؤاد قاعود الذي كنت أزوره أسبوعيا في منطقه «حمامات القبة» أن يحدد لي موعدا مع حجازي.. وأجاب فؤاد باقتضاب: «حجازي قرأ كتير من شغلك وبيحب كتاباتك بس ما بيقابلش حد، أنا بقابله مرة كل أسبوع وهو كويس جدا».. كان فؤاد قاعود هو صديق رحلة وكفاح حجازي وأقرب إنسان لقلبه وقد طافا مصر كلها في الستينيات لوصف مصر بعد الثورة بالرسم والشعر ونشرت هذه الأعمال في «روزاليوسف» و«صباح الخير» وعبرت عن مجتمع جديد يتشكل وعن آمال كبيرة علي جمال عبدالناصر وتخوف شديد من غياب الديمقراطية.. وإن اختلف قاعود عن حجازي بحدة الطباع والنفور العنيف من أدعياء الموهبة، لكن أنا ممكن أصف لك بيته فين بالضبط في المنيل وحاول أنت. بعداللقاء بيومين كنت في الشارع الذي يقطن فيه حجازي في حي المنيل وصعدت إلي الطابق الذي يقطنه وفوجئت به يفتح الباب «يا أستاذ حجازي صباح الخير أنا محمود صالح شغال صحفي وأنت عارف أني بحبك جدا ولازم بس أسلم عليك».. فتح حجازي الباب بترحاب وخجل ودخلت إلي شقته التي شهدت فصولا ورجالا وفنانين من أبدع من عرفتهم مصر. استمر اللقاء سبع ساعات كاملة، وفي البداية قال لي «أنا عارفك كويس من فؤاد قاعود وقريت لك شغل وعارف أنك بتتنقل كتير بين الصحف وعاوز أسمعك أكتر من أني أتكلم».. وهو ما حدث بالفعل، وجدت نفسي أتحدث باستفاضة «وغضب» عن أحوال الصحافة التي كانت تمر بواحدة من أسوأ مراحلها وعن صناعة نجوم عديمي الموهبة وعن موهوبين حقيقيين من جيلنا يعملون في صحف يديرها رجال من أمن الدولة يمثلون دور المعارضين، وعن تصاعد معدلات الغباء في المجتمع نتيجة سنوات طويلة من حكم مبارك. ثم تحدثت عن جيل حجازي وكيف أنني التقيت وقابلت معظم نجومه بينما بدا لي حجازي نجما بعيدا.. في أبعد نقطة.. والأكثر أنه يتواري تاركا البلد لظلام دامس أغرقه فيه نظام مبارك التعس. لاحظت في هذا اللقاء أن حجازي يستمع بشغف لأي «تفصيلة» جديدة عن المجتمع والصحافة وأن عينه تدمع بسرعة لو لاحظ أي انفعال، وأنه لا يحب أي كلام عنه وأنه يمتلك إرادة مذهلة تجعله يمسك لسانه في أي موضوع عن أشخاص وأنه يحب «جدا» الحكايات عن البسطاء. ولم يتحدث في هذا اللقاء أكثر من عشر دقايق قال خلالها كلاما في منتهي البساطة والصدق عن أنه ليس «معتزلا» للمجتمع بل يحب التعامل مع المجتمع بطريقته، وحتي عندما تحدث ببعض الغضب عن أحوال مصر قال برقة «الوضع الحالي ملي مصر بالأرازل ودول يعني الناس اللي دمها تقيل ومش حقيقيين لا في الخير ولا في الشر ولا في التأييد ولا في المعارضة ودول أنا لازم أبعد عنهم.. حقنا للصداع». أخبرني حجازي في هذا اللقاء بأنه سيترك القاهرة في غضون شهر وأنه سيعود إلي طنطا، وأعطاني عنوان شقته هناك وقال «الشقة إللي هناك جنب المدرسة التي كنت فيها في الابتدائي.. عاوز أشوفك هناك وده رقم تليفون الشقة بس خليه معاك ومتقولش لحد علي العنوان أصلا». قبل مغادرته إلي طنطا زرته مرة ثانية وقلت له «أنا أعرف أنك لا تحب إجراء أي حوارات مع الصحافة.. بس لازم نعمل حوار استثنائي».. وأجاب «أنا بحب الكلام معك.. هنتكلم زي ما أنت عايز تسميه حوار أو أي حاجة دا موضوعك».. وبالفعل أجريت معه الحوار ونشر في «نصف الدنيا» في عهد الكاتبة الرائعة والمبدعة سناء البيسي. عندما نشر الحوار وأثار ردود أفعال كبيرة لأنه كان الأول الذي يتحدث فيه حجازي عن حياته وعن أسباب عزلته وعن رأيه في صحافة مصر في عهد مبارك كان قد ذهب واستقر في طنطا وقبل أن أزوره هناك أخبرني فؤاد قاعود أن حجازي مبسوط من الحوار لأن لغة المقدمة أكدت له أن هناك في هذه الأجيال الجديدة من يكتب بصورة جيدة وبلغة صحفية غير تقليدية، شكرت قاعود علي هذا الكلام واتصلت بحجازي وزرته في طنطا وتكررت الزيارات حتي وصلت لأكثر من 50 زيارة وفي كل مرة كان الرجل متجددا ومتابعا لأدق التفاصيل في مصر، ويمكنني أن أتحدث عن حجازي في كتاب.. لكنني هنا أريد أن أتحدث في نقاط تشرح «سر» ومصدر تفرد هذا الفنان الأعظم. يحب حجازي مصر جدا ومصر عنده هي الناس البسطاء ويخفي دائما شعورا بازدرائه للنخبة التي تتكالب علي مغانم السلطة لكنه لا يتحدث عن أحد بسوء ،وأقسي تعبير سمعته منه عن جماعات المثقفين الملتصقين بأي نظام «غالبية المثقفين في مصر مجرد طفح علي جلد السلطة». يكن حجازي احتراما بالغا للتحريض والمجاهرة بالاعتراض وعندما سألته عن أفضل وأكثر من أحببهم في التاريخ المصري قال بابتسامة «كل الخارجين عن القانون».. وكان يقصد بالطبع قانون المجتمع الذي يصنع لإرضاء الأثرياء ولسحق الفقراء والمتمردين. الصحافة المصرية كوم واسم «روزاليوسف» و«صباح الخير» كوم تاني..وعندما يحكي عنهم ينفعل وكأنه يسترجع أنقي وأفضل أيام وبشر عرفهم «إحسان عبدالقدوس كان يتصل بي ويسألني يا حجازي أنت علي مكتبك طيب أنا جي لك «ويقول» الصحافة بدون احترام بالغ للموهوبين تفقد معناها وحيويتها ولهذا كان يعتبر ما يحدث في صحافة دولة مبارك نوعا من التمثيل الرديء فاقد الحياة. كان يري عبدالناصر أفضل زعيم مصري «كل ما يقال منذ السبعينيات عن ديكتاتورية عبدالناصر لم ينجح في أنني وغالبية الناس من البسطاء نشعر بابتهاج لو سمعنا خطابا له ونعتبر من يتحدث عنه بخير رجل جدع وابن بلد.. وخطأ عبدالناصر في أنه لم يقم دولة وترك الحكم للسادات الذي أنشأ نظاما معاديا للناس استمر مع مبارك وهو نظام عسكري قمعي لا يمكن أن يحقق شيئا للبلد». مفتون ومجنون حجازي بالشعر والموسيقي وكل صور الثقافة الرفيعة.. ومؤمن بالإنسانية.. ولا يري أي فائدة من الحديث عن التاريخ وأمجاد العرب فيه لأن الواقع يحتاج تغييرا بآليات جديدة. وهو لا يتحدث عن الدين وإنما يمارس جوهره بأقصي درجات الانضباط.. لا يكذب مطلقا ولا يغتاب أحدا.. ويري جوهر الدين والفكر كله.. الحرب علي التخلف والظلم والقمع والانتصار للفقراء. لا يتحدث في أي موضوع بمباشرة.. مرة بتلميح لطيف.. ومرة بحكاية.. عندما سألته عن الفارق بين صحافة مصر في مجدها وبين هراء صحافة مبارك.. صمت لحظات وقال «بعض المجلات زمان كانت تكتب علي غلافها.. مجلة اجتماعية فنية ذات مغزي.. ودلوقتي معظم المجلات والصحف ليست ذات مغزي إطلاقا.. أصحابها لا يعرفون ماذا يريدون أن يقولوا للمجمتع من الأصل وعندما كنت غاضبا ذات مرة من أكاذيب رئيس تحرير تافة للغاية وقلت له «كيف يمكن العمل في ظل مناخ صحفي أشبه بحفلة تنكرية.. هذا الكائن يكتب عن عمر سليمان شعرا ويدعي أنه يعارض مبارك لم يرد وقال هل سمعت من قبل هذه الأغنية وذهب وقام بتشغيل أغنية قديمة لكارم محمود تقول «يا ضنين الأمس موفور الغد»! لم يتوقع حجازي ثورة يناير ولكنه قال لي أكثر من مرة «لن يكتب التاريخ عن مبارك سوي جملة.. وكانت البلاد تعيش لحظة انحطاط».. وهذه اللحظة في رأيه طالت لكنها أيضا ستختفي في غمضة عين. وقال «الخوميني عندما سألوه عن الثورة قال إنها فقط نزول الناس للشارع»، وعندما سألته هل تحب الخوميني قال «لا أحب عنصريته في بعض الأوقات لكنني دائما أحب من يدعو الناس للنزول إلي الشارع»! الله يرحم حجازي.. فنانا وعظيما وخلاصة أنبل وأجمل وأرقي وأعظم ما في شخصية مصر والمصريين.. أظنه الآن يرسم الطير والملائكة والأنهار في الجنة ويتذمر للحظات لأنه لا يجد ما يعترض عليه ويؤدي دوره ورسالته من خلاله.. اطمئن تماما يا أستاذ حجازي ف«رسالتك» قد وصلت!