الأحداث المتسارعة والمفخخة المتلاحقة التى شهدها الشارع المصرى بعد زلزال 52 يناير فتحت الباب لسيل من الأسئلة التى لم تجد إجابات مناسبة وكثير منها راحت تبحث عن إجاباتها وسط ركام الشائعات والتخمينات وليست كلها بريئة أو عفو الخاطر. من هذه الأسئلة ماذا حدث لشباب الأقباط؟، ومرد السؤال التغيرات الحادة التى يشهدها الشارع فى فعل ورد فعل أولئك الشباب، فقد استقر فى المشهد لسنوات عديدة حالة السكون بل وحالة الانعزال والانكفاء على الذات والاتجاه لبناء مجتمع بديل داخل أسوار الكنيسة وجد من يدعمه بموروثات تراثية، كانت فى ظنى محاولة للحفاظ على الهوية وتبنى نسق المقاومة السلبية بعد أن هبت رياح عاتية مع حلول سبعينيات القرن العشرين، وفى سياق الانقلاب على المشروع الناصرى بإعادة إحياء الخلايا الراديكالية النائمة من التيارات الإسلامية كأيديولوجية بديلة تحل محل المد اليسارى والناصرى القائم فى تلك اللحظة، وكان من تداعيات هذا استهداف الأقباط عبر حزمة من الفعاليات الإجرائية والإجرامية بدأت بأحداث الخانكة على مشارف العاصمة ولم تنته بأحداث القديسين بالإسكندرية والعالم يستقبل نسمات العام الجديد 2011 وبالتوازى كان استبعاد الأقباط من المشهد الوظيفى والسياسى يتصاعد، وتخلله اعتقال البابا البطريرك فيما سمى بالتحفظ ضمن قرارات سبتمبر 81 العنيفة والتى كانت إيذاناً بأفول المرحلة الساداتية اغتيالاً. كان الظن أن هذا الخيار الانعزالى صار من ثوابت الشخصية القبطية ولم يلتفت إلى التغيرات التى بدأت تجد طريقها إلى الأجيال الجديدة من شباب الأقباط كان بعضها بفعل التطورات التى هبت على أجيالهم عبر النقلات التقنية المباغتة والتى أخذتهم إلى شبكات تواصل عابرة للمحلية والذات، وفضائيات عصية على الملاحقة والمصادرة والتحجيم، وكان بعضها بفعل إرهاصات تنويرية داخل المنظومة الكنسية سعت لإحداث ثقب فى جدار سيطرتها الفولاذى، وكان بعضها بفعل طبيعة تمرد المرحلة والاشتباك مع بعض من آليات المجتمع المدنى، ولعل المراقب بتدقيق يكتشف انعكاس هذا على تنامى تيار المواجهة العلنية والحادة لكل ما يعانيه الأقباط، والذى بدأ على استحياء بالأسئلة الغاضبة الموجهة للقيادات الكنسية داخل اجتماعات الشباب التقليدية، ثم تصعد درجة فتعقد المؤتمرات النوعية التى تناقش القضايا العامة داخل أسوار الكنيسة، وفى درجة تالية تسمع أصوات الاحتجاجات خلف الأسوار الكنسية عبر الهتافات واللافتات الاحتجاجية، والتى كانت مفاجئة حتى لآباء الكنيسة والذين بحكم تكوينهم سعوا لتهدئتهم لكن السهم كان قد نفذ، وتأتى أحداث كنيسة العمرانية لتدفع بالشباب الغاضب خارج أسوار الكنيسة ومواجهة قوات الأمن بشكل سافر وربما يرى فيه البعض بروفة لمواجهات 25 يناير. ولم يلتفت كثيرون إلى التجمعات الشبابية ذات التوجه اليسارى وذات التوجه الليبرالى والتى ضمت معاً الشباب المسلم والمسيحى فى الخمس سنوات الأخيرة والتى ترجمت رؤاها فى أعمال فنية مسرحية وأفلام صغيرة وأغانٍ، تنطلق منها فورة الشباب وتعرض على الناس منتجها الفنى الثورى المعارض والرافض للواقع المتردى، فى الشارع والمقهى وقصور الثقافة ومنتديات الجمعيات ومنظمات المجتمع المدنى، وربما فى هذه الفعاليات ولدت إرهاصات 25 يناير، كان الشباب المسيحى حاضراً بقوة يبدع ويشارك ويتفاعل ويتعلم ويتدرب ويرفع عنه الوصاية بإرادته المنفردة. على الجانب الآخر من النهر كانت الضغوط تتوالى وتتصاعد بما لا يطاق على الأقباط، بالمخالفة للتوقعات والتى عولت كثيراً على التداعيات المنتظرة لثورة 25 يناير والتى انطلقت بمطالبات محددة «تغيير حرية عدالة اجتماعية»، فإذا بها تصدم أيما صدمة مع هدم كنيسة قرية صول بمركز أطفيح بالجيزة، وحرق كنيستين بإمبابة، وتأتى المعالجات لتعمق الصدمة بعد أن انحازت للحلول العرفية فى إهدار سافر للقانون بل تستدعى رموزاً سلفية للسيطرة على حالة الغضب المنفلت عند شباب القرية الذى هدم الكنيسة، ولم يفوتوا الفرصة فجاء خطابهم استعلائيا يحض على قبول من حرقوا وهدموا بالتنازل وقبول تسليم الكنائس للأقباط، هكذا، وكان هذا صادماً بأكثر من وقع الحوادث الإجرامية نفسها. ثم تأتى القشة التى قصمت ظهر البعير، متمثلة فى أحداث قرية المريناب بأسوان، ليتكرر السيناريو ذاته بغير تغيير يذكر، زاد من وطأته التصريحات المفخخة لمحافظ الإقليم والمثيرة للعديد من الأسئلة خاصة فيما يتعلق بمعايير اختيار المحافظين ومدى وجوبية تمتعهم بالحس السياسى وملاءمتهم لمواقعهم، وهو أمر يجب أن يكون محل مراجعة وتدقيق. على خلفية هذه الأحداث تتناهى إلى مسامع الشباب ما تطرحه بعض القوى السلفية من تصورات لشكل الدولة التى يريدونها، وإعلانهم بعودة الأقباط إلى مربع الذمية وما يترتب عليه من التزامات، وما يطالهم من قذائف التكفير والتحجيم والازدراء من رموز هذه التيارات بغير أن يحرك أحد ساكناً. وعندما تصطف هذه المقدمات إلى جوار بعضها نستطيع أن نفهم ماذا حدث للشباب بشكل عام والقبطى على وجه الخصوص، وربما يكون السؤال الحالى وماذا بعد؟ ظنى أننا بحاجة إلى قراءة الواقع بعيون مفتوحة وفتح قنوات حقيقية وشفافة ومسئولة للحوار معهم وتجفيف المنابع التى تغذى الغضب، حتى لا يجدوا أنفسهم أمام خيار وحيد وهو النكوص عن الاندماج والارتداد إلى خلف أسوار الكنيسة مجدداً، ساعتها نكون قد دشنا الطريق إلى انهيار المجتمع ومن ثم الدولة.