للأسف لم ألتق بهم.. ولكنني سمعت عنهم.. جمعت الحكايات التي تروي عنهم حروفا متناثرة.. وقصاصات صحف ترسم بعض الملامح البسيطة ولكنها رائعة.. وروايات مختصرة ولكنها مذهلة.. وعلي مدي سنوات كانت التفاصيل الصغيرة وجمعها هدفا قصدت به أن أروي يوما قصص بطولات أهلنا في سيناء خلف خطوط العدو.. والتي مهدت لنصر أكتوبر وتحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي. فعلت ذلك حتي يعرف شبابنا أن سيناء ليست مجرد منتجعات سياحية في دهب ونويبع وشرم الشيخ.. أو مجرد رحلة ترفيهية إلي رفح والعريش وسانت كاترين.. بل هي أرض وجزء من وطن قاتل المصريون جميعا جيشًا وشعباً لاستعادته.. وكان في طليعتهم أهلنا في سيناء. -الحسنة رغم مضي سنوات طويلة علي هذا الحدث.. إلا أن التفاصيل تشهد بجرأة ووطنية أبطاله.. حيث صفع أهل سيناء قادة الاحتلال بقوة.. وتسببوا في فضيحة دولية لإسرائيل.. فعل أهل سيناء ذلك بالترتيب مع القاهرة وتنسيق مباشر مع الرئيس جمال عبدالناصر، في الإعداد لمؤتمر الحسنة في نهاية أكتوبر 1968 أيامها توهمت إسرائيل أنها نجحت في عزل قطاع من أهالي سيناء عن هويتهم المصرية.. وخيرتهم جولدا مائير بين الانضمام للدولة العبرية.. أو إعلان دولة مستقلة في سيناء.. فأبلغ المحامي سعيد لطفي عثمان أجهزة الأمن المصرية التي طلبت منه السفر إلي الأردن لمقابلة اللواء عادل فؤاد أو الموفد من قبل الرئيس جمال عبدالناصر.. وهناك تم رسم سيناريو المؤتمر.. وأقنع أهلنا في سيناء قادة إسرائيل بتنظيم مؤتمر ضخم تدعي له وكالات الأنباء والصحف العالمية.. بعدها فوجئت جولدا مائير وعلي الهواء مباشرة وأمام حشود إعلامية دولية ومحلية أن قادة أهلنا في سيناء يعلنون من علي المنصة التي بناها الإسرائيليون.. أن سيناء مصرية أرضا وبشرا.. وأن رئيسهم هو جمال عبدالناصر بعدها اعتقلت إسرائيل 120 من مشايخ وشباب سيناء وعلي رأسهم الشيخان بن خلف وسالم الهرش والمحامي سعيد عثمان. - الأشباح كان أغلبهم ينتمي إلي منظمة سيناء العربية التي ضمت الفدائيين المصريين من أهلنا في سيناء ومدن القناة... وكان قادة إسرائيل يسمونهم الأشباح.. وكانت المخابرات المصرية بعد نكسة 1967 قد قامت بالاستعانة بنحو 1100 بطل منهم وقامت بتدريبهم علي استخدام الألغام والمتفجرات والقنابل.. وأعمال الرصد والتجسس.. وتنفيذ العمليات الهجومية ضد القوات الإسرائيلية.. وحصل المئات منهم علي أنواط الامتياز من الرئيسين جمال عبدالناصر وأنور السادات.. ومنهم من حصل علي نجمة سيناء أو شهادة تقدير.. ومنهم من عبر قناة السويس في اتجاه العدو أكثر من 150 مرة.. ومنهم من توغل في عمق إسرائيل.. ومنهم من اختبأ في الجبال لسنوات يأكل أوراق الشجر ويدمر دبابات العدو.. ومنهم من نقل الصواريخ والألغام وأجهزة اللاسلكي إلي عمق سيناء مارًا بالوحدات العسكرية الإسرائيلية.. ومنهم من تعرض للأسر والتعذيب في السجون الإسرائيلية لسنوات طويلة ورغم ذلك زاد ارتباطهم بمصريتهم. وإذا تحدثنا عن منظمة سيناء العربية فلابد من ذكر اللواء عادل فؤاد الذي يعد بحق أحد أبطال العسكرية المصرية.. وكان الأب الروحي لهذه المنظمة الفدائية والتي قال عن أبطالها: لابد من تسجيل شهادة للتاريخ في حق أبناء سيناء.. وننصفهم أمام التاريخ وأمام أبنائهم وأحفادهم.. وأمام مواطنيهم من أبناء مصر.. .فقد كان لي شرف تكليفي في أوائل الستينيات بإعداد وتجهيز مسرح العمليات العسكرية في سيناء لصالح القوات المسلحة المصرية.. ومع بدء دراستي لأوضاع الطاقة البشرية في سيناء بعد حرب 1956 وجدتهم مواطنين بلا موارد.. وبلا خطة تنمية.. مواطنين يتأصل في نفوسهم أنهم مواطنون من الدرجة الثانية.. ويتهمون جزافًا بعمالتهم لإسرائيل أو احترافهم تجارة المخدرات والتهريب.. وأغلبهم مسجل في سجلات أطلق عليها القوائم السوداء.. وبعد دراسة متأنية اتضح أن هذه القوائم السوداء كان قد تم إعدادها بعد إزالة آثار عدوان 1956 اعتمادًا علي وثائق اتضح أن ما يسمي بالمكتب الخامس في جهاز المخابرات الإسرائيلي كان وراءها.. وكانت مهمة هذا المكتب الصهيوني هي تلطيخ سمعة أبناء سيناء.. وإلحاق العار بكل مواطنيها.. والتركيز علي خلق فجوة نفسية بين أبناء سيناء وقواتهم المسلحة من ناحية.. وبينهم وبين مواطنيهم من باقي أنحاء مصر من ناحية أخري.. وهكذا هداني الله بعد الدراسة إلي أن كل الشوائب التي علقت بأبناء سيناء.. وظروفهم النفسية السيئة كان وراءها الموساد.. ثم بدأت في تنقية القوائم السوداء وإزالة الفجوة النفسية.. وإعداد الأرضية الصالحة للاستفادة من أبناء سيناء في الأعمال القتالية ضد العدو علي أرض سيناء.. وكانت النجاحات المذهلة التي تحققت علي أيدي بعض شباب سيناء في المهام القتالية داخل إسرائيل في هذه الفترة أثرًا كبيرًا في تغيير المفاهيم السلبية عنهم.. وتشجيع أجهزة الأمن علي الاستفادة من معدنهم المصري الأصيل. فدائي حاولت أن أتخيل مشاعر هؤلاء الفدائيين وهم يفجرون المواقع الإسرائيلية.. أو يرصدون أهدافا خلف خطوط العدو.. وحاولت أن أتخيل مشاعر النساء من أهلنا في سيناء وهم يحملون المتفجرات وأجهزة اللاسلكي ويعبرون بها إلي رجال المقاومة في شمال ووسط وجنوب سيناء.. أو وهم يشاركون في عمليات قتالية.. بالتأكيد كانوا جميعا فدائيين يستحقون كل الإعجاب والاحترام.. لأنهم كانوا يحملون أرواحهم علي أيديهم مستعدين للتضحية بها في أي لحظة في سبيل الله والوطن.. ومن هؤلاء الرجال حرب حسن السطاحي الذي بدأ عمله الفدائي وهو في التاسعة عشرة من عمره وكان ذلك في عام 1969 وشارك في تنفيذ أكثر من 100 عملية فدائية.. كان من أهمها عملية قصف مستوطنة «نحال تكلا» والتي أسفرت عن تدمير عدد كبير من المباني ومخازن الأسلحة داخل المستوطنة.. وقتل عدد كبير من الجنود والمستوطنين.. وحصل علي خطاب شكر من الرئيس جمال عبدالناصر الذي أصر علي استقبال السطاحي وزملائه في القاهرة ليشكرهم بنفسه.. وحصل هذا الفدائي علي نوط الامتياز من الطبقة الأولي عام 1978 عندما كرم الرئيس السادات مجاهدي منظمة سيناء العربية. ومن أشهر قصص البطولة حكاية الفدائي موسي الرويشد الذي اعتبره البعض تنظيما سريا مستقلاً، حيث قام وحده بالاستطلاع خلف خطوط العدو.. ونسف أكثر من 30 مخزنًا إسرائيليًا للذخيرة والمعدات أثناء حرب أكتوبر وفقد إحدي عينيه وتهشم قفصه الصدري بعد تعذيبه لفترة طويلة في السجون الإسرائيلية.. ومن الأبطال البارزين أيضًا عبدالله جهامة الذي رأس جمعية مجاهدي سيناء (767 عضوًا حاليا) وكان له دور بطولي خلال حرب الاستنزاف حيث اشتهر بقدرته الفائقة علي خداع الإسرائيليين.. وقام بتدمير أعداد كبيرة من الدبابات والمعدات الإسرائيلية.. وجن جنون إسرائيل التي قامت بتحديد شخصيته وحاصرته لعدة سنوات في جبل الحلال حيث كان يقيم بإحدي مغارات الجبل وكان طوال هذه الفترة يأكل أعشاب الصحراء وأوراق الشجر ويدمر الأهداف الإسرائيلية إلي أن تمكن من الهرب. ومثلت مجموعات التجسس التي كونها أهلنا في سيناء عامل الحسم الأقوي لصالح القوات المسلحة المصرية، وفاقت قدراتها كل وسائل التجسس الحديثة ومن ذلك ما قامت به مجموعة الصيدلي حمودة الأزعر.. وهو من الأبطال الذين أعادوا صياغة تاريخ سيناء عقب نكسة 1967 وكان يملك صيدلية ابن سيناء التي تقع في شارع 26 يوليو بمدينة العريش.. وعقب النكسة أصبحت الصيدلية مقرًا للقاءات الفدائيين الذين كانوا يتبادلون فيها التعليمات بتنفيذ المهام القتالية، وكان منها تدمير الهدف «26 أ.ب»، وكان عبارة عن محطة محولات كهربائية تشمل 3 محولات ضخمة تمد معسكرات الجيش الإسرائيلي ومخازن أطعمته وذخائره بالتيار الكهربائي، وفي ليلة تنفيذ العملية كان قد تم تجهيز العبوات الناسفة في منزل عبدالحميد الخليلي وتم نقلها إلي مكان تنفيذ العملية، وفي الوقت المحدد قام كل من محمد عبدالغني السيد وعدنان شهاب البراوي بالإجهاز علي الحراس الإسرائيليين الثلاثة، وفي الحادية عشرة مساء ارتجت سماء العريش وأضاء ليلها انفجار مروع اختفت علي أثره المحطة من الوجود. أما ديب سيناء الفدائي عمران سالم عمران فقد شارك في تنفيذ أكثر من 150 عملية مع رفاقه ودمروا فيها دفاعات العدو في رمانة وبالوظة ومطار العريش وقطعوا خطوط الإمداد ونسفوا مستعمرة «نحال سيناي» التي كانت مقر القوات الهليكوبتر مما أسفر عن قتل 21 ضابطًا وجنديًا وتدمير 11 طائرة بالإضافة لتدمير مستعمرة الشيخ زويد ونسف محطة رادار.. وفي النهاية نقدم تحية إجلال وإكبار للفدائيات من نساء سيناء اللاتي قمن بالعشرات من العمليات القتالية المذهلة وباحتراف وحفظن سرهن حتي أن أولادهن لم يعرفن شيئًا عن أدوارهن البطولية إلا بعد أن كرمهن الرئيس السادات بعد نصر أكتوبر ومنهن فرحانة حسين سلامة وفوزية محمد أحمد الهشة والعشرات غيرهن. هل وصلت لشبابنا الذي لم يعاصر تلك المراحل الرسالة؟ أرجو ذلك.