والشعب فى حالة ثورة على كل الأوضاع المتردية تأملنا المشهد الغنائى فوجدناه أكثر سوءا.. فما طفح به كيل الغناء المصرى فى المرحلة السابقة لا يمكن بأى حال من الأحوال أن نطلق عليه غناءً أو نسميه طربا، وإنما أقل ما يستحق أن يوصف به هو الغناء الجسدى الذى يخاطب الغريزة ويثيرها سواء من المطربات العاريات أو من مطربى هز الوسط!! فهل يمكن للثورة التى قامت للقضاء على كل ما هو فاسد أن تقضى على فساد الغناء والمغنيين وتصحح مسارهم؟! الثورات تفرز دائماً مناخاً جيداً من الحرية والإبداع يختلف كثيراً عن مناخ العصر الذى أطاحت به، فهى أى الثورات تأتى ومعها رياح التغيير لتسحق ما قبلها من أوضاع رديئة وفاسدة على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والفنية.. الفنون من أكثر الكيانات التى تترجم حالة المجتمع بدقة وتؤثر فيه، كما إنها من أكثر الكيانات التى تتلوث وتحتاج إلى حالة تطهير مستمرة للقضاء على الغث ومحاولة الحفاظ على السمين.. فى الساحة الفنية لا يتحقق التطهير إلا من خلال ثورات حقيقية، سواء كانت شعبية لحماية المجتمع ككل من الفساد العام ومنها بالتالى الفن أو ثورات فنية لحماية المجتمع بشكل خاص من الفساد الفنى الذى يتسبب فى إفساد الذوق العام. الثورات الفنية لا تنفجر بسهولة مادامت منظومة الفساد العامة هى المسيطرة والتى من مصلحتها الإبقاء على الوضع الفاسد فى كل كيانات المجتمع والمحافظة عليه ليظل ينخر فى جسده كالسوس، وليظل النظام الفاسد قائماً دون أن يعكر صفوه أحد إلى أن تتحقق الثورة الشاملة كما حدث وسيحدث إذا ما ظهر الفساد من جديد. الثورات الفنية وتحديداً الغنائية تزامنت مع الثورات الشعبية التى أفرزت نجوماً فى عالم الغناء تتناسب مواهبهم مع حجم ثوراتهم، ولهذا كانوا وظلوا واجهة مشرفة لها. فى ثورة 1919 كان «سيد درويش» واجهة مشرفة للثورة، للدرجة التى جعلته واحداً من معالمها بما قدمه لها من أعمال خلدته وخلدتها، ويكفى أغانيه التى صنعها أثناء عودة «سعد زغلول» زعيم الثورة أثناء عودته من منفاه فى المرتين اللتين نفى فيهما، الأولى من «مالطا» والثانية من جزيرة «سيشيل» بالمحيط الهندى، صحيح أن ظهور «درويش» الغنائى سبق أحداث الثورة، لكنها هى التى خلدته لمواقفه الوطنية التى أظهرها من خلال أغانيه التى كانت تمثل مرحلة فارقة فى تاريخ الأغنية المصرية صوتاً ولحناً وبكلمات صاغها بنبضه معه «بيرم التونسى»، هذه المرحلة الفارقة هى التى غيرت من ملامح خريطة الأغنية المصرية بعد انتشار حالة الفوضى الغنائية التى سادت المجتمع فى تلك الفترة نتيجة وجود الاحتلال الإنجليزى الذى نشر الفساد فى البر والبحر، والذى سمح بوجود أغان هابطة مثل «واجب ع الحلو يتدلع.. ويسوق دلاله ويتمنع.. وأنا قلبى عليك متولع.. إمتى أشوف وأتمتع» ل «فاطمة قدرى» و«تعالى يا شاطر.. نروح القناطر» ل «الست نعيمة» و«الخلاعة والدلاعة مذهبى» و«علشان ما انت بالك رايق.. مفيش ولا ليلة بتجينى فايق» ل«فتحية أحمد» و«هات القزازة واقعد لاعبنى»، فكان لابد من قيام ثورة للقضاء عليهما الإنجليز والغناء الهابط!! فى ثورة 1952 كان «عبدالحليم حافظ» هو عنوان ثورة يوليو والمتحدث الغنائى باسمها، للدرجة التى وصفت فيها أغانى «حليم» بأنها وثيقة لأحداث الثورة. مجىء «عبدالحليم حافظ» بعد الثورة كان بمثابة الفجر الجديد للأغنية التى كانت تتكىء على عكازين هما «أم كلثوم» و«محمد عبدالوهاب» لكنهما فى تلك الفترة كانا محسوبين على النظام الملكى البائد، فتم اتخاذ موقف ضدهما فى بداية الثورة ليكون «حليم» هو وجهها المشرق، وإن كان وجود «أم كلثوم» و«عبدالوهاب» على قمة الساحة الغنائية وقتها لم يمنع من وجود حالة من الغناء الردىء، وهى الفترة التى أعقبت الحرب العالمية الثانية عام 45 وحتى قيام الثورة والتى انتشرت فيها كباريهات عماد الدين وروض الفرج، إلى جانب انتشار أسطوانات الأغانى الهابطة مثل «لأ والنبى يا عبده.. بينى وبينك كلام إيش وصله لامك يا عبده» و«إرخى الستارة اللى فى ريحنا لحسن جيراننا تجرحنا» ل«منيرة المهدية» إلى جانب ظهور «شكوكو» و«فكرى الجيزاوى» فى دويتو «اتفضل قهوة.. لسه طافحها» وأغنية «شكوكو» فل عليك.. ورد عليك وهى نفس الحالة التى كانت عليها الفترة التى أعقبت نكسة 67 حتى أكتوبر 73 ،رغم أن فترة ما قبل النكسة هى الفترة التى كانوا يطلقون عليها العصر الذهبى للأغنية لوجود أكبر كوكبة غنائية اسماً وموهبة مثل «أم كلثوم» و«عبدالوهاب» و«عبدالحليم» و«فريد الأطرش» و«محرم فؤاد» و«صباح» و«شادية» و«فايزة أحمد» و«نجاة» و«محمد قنديل» و«محمد رشدى» وغيرهم، ولكن بعد النكسة تبدل الحال بعد أن أصيب المجتمع بحالة «توهان» أقرب إلى الغيبوبة التى لم تفقده توازنه فقط، وإنما أفقدته وعيه الكامل، فبدت الحياة متخبطة بشكل عام، وبالتالى عاش الفن وتحديداً الغناء مرحلة فى غاية الصعوبة والسوء بعد أن هبطت على الساحة أغانى «أحمد عدوية» و«كتكوت الأمير» وأغانى «السح الدح أمبو» و«ألو يا مانجة ألو» والتى كانت سبباً فى إفساد الذوق العام لركاكة كلماتها ومعانيها وتدنى مستواها الفنى، والمؤسف أن هذه الأغانى فى تلك الفترة العصيبة التى أفرزتها نكسة 67 حققت أرقاماً خيالية فى معدلات التوزيع وصلت إلى رقم المليون أسطوانة وهو ما يعنى أن نسبه التوزيع ليس لها علاقة بالجودة، وهو ما لم يتحقق لنجوم كبار من أصحاب المواهب الحقيقية الذين تواجدوا فى نفس الفترة وما قبلها، لتأتى حرب 73 التى كانت بمثابة ثورة عسكرية وإنسانية ومعنوية وتاريخية لاستعادة الكرامة المصرية ولبث الروح الوطنية والانتماء ولنعيد صياغة أنفسنا من جديد، ولتعيد لنا توازننا الذى افتقدناه على أيدى النكسة، ولتصحح الأوضاع فى عالم الغناء وليعود للساحة الغنائية بريقها مرة أخرى، وليظهر جيل جديد من أصحاب المواهب الحقيقية من أمثال «محمد منير» و«على الحجار» و«هانى شاكر» و«عفاف راضى» ومن بعدهم «محمد الحلو» و«محمد ثروت» و«نادية مصطفى» و«مدحت صالح»، ورغم إفراز هذه الأسماء الموهوبة إلا أنهم لم يستطيعوا المحافظة على نجوميتهم واستمرارهم على الساحة الغنائية لفترات طويلة مثلما فعل «سيد درويش» و«عبدالحليم حافظ» اللذان أفرزتهما ثورات وخلدتهما إلى يومنا هذا، باستثناء «محمد منير» الذى يعتبر «صوت مصر» والذى مازال محافظاً على مكانته وبقوة وبتميز وتفرد، وكذلك «هانى شاكر» وإن كانت ظروفه الخاصة وسوء تفكيره هما اللذان أوصلاه إلى حالة من التخبط فى سنواته الأخيرة وخاصة مرض ابنته «دينا» رحمة الله عليها، ولكن يبقى «هانى شاكر» صوتاً رائعاً لا يقل موهبة ولا إحساساً عن «حليم»، وهو الذى هدد مكانته الغنائية فى يوم من الأيام. ولكن هل الأصوات التى أفرزتها ثورة 25 يناير 2011 وعلى رأسها «حمزة نمرة» و«رامى جمال» قادران على إثبات ذاتهما وتحقيق نجوميتهما والمحافظة عليها عبر السنين المقبلة، أم إن الأمر سيختلف ويصبحان هما ومن جاء معهما من الأصوات الأخرى أمثال «رامى عصام» و«ماهر زين» و«هانى عادل» مجرد ظاهرة وستتلاشى مثلما حدث مع بقية أصوات ما بعد أكتوبر 73 الذين تاهوا فى لحظات ضعف نفسى، إما بسبب التكاسل أو بسبب البحث عن المال وإما لسوء التفكير رغم ما يملكونه من أصوات لا تخطئها الأذن مثل «مدحت صالح» الذى يسمونه عدو النشاز و«محمد ثروت» الذى يسير على المقامات كما يسير القطار على القضبان و«على الحجار» الذى تهتز لحنجرته الجبال و«نادية مصطفى» التى تمتلك إحساساً يكفى المئات و«محمد الحلو» الملقب ب«فقى» الغناء المصرى نظراً لحلاوة صوته وامتلاكه الجيد لأدواته الغنائية و«محمد فؤاد» الذى وصل إلى مرحلة ومكانة كادت تهدد فى وقت من الإوقات مكانة واسم «عمرو دياب» ومثلهم من الجيل الذى يليهم «أنغام» و«إيهاب توفيق» و«مصطفى قمر» و«خالد عجاج» الذى «كسر الدنيا» بأغنيته الشهيرة «وحشتنى» للرائعة الراحلة «سعاد محمد» والتى قفزت به إلى مصاف نجوم الدرجة الأولى لكنه سرعان ما فرط فى نجوميته.. هؤلاء رقصوا على السلالم باستثناء «أنغام» التى تحاول جاهدة وكأنها تتسلق الجبال أن تحافظ فقط كمجرد محافظة على وجودها!! «حمزة نمرة» و«رامى جمال» وغيرهما من أصوات ثورة يناير يجب أن يصمدوا فى وجه الغناء الهابط الذين جاءوا من أجل القضاء عليه والمتمثل فى الراقص اللولبى «سعد الصغير» وبقية مطربى هز الوسط الذين يبحثون عن الثروة لأنهم ببساطة لا تعنيهم الثورة التى لا يعرفون معناها بقدر ما تعنيهم الثروة. صمود الأصوات الجديدة الجيدة هو الذى سيحقق لهم الانتصار على الغناء الهابط وهزيمته بالضربة القاضية ولتكون ثورتهم عليه دافعاً لثورتنا الينايرية الكبرى لكى تكتمل بانتصارنا على الأحوال المجتمعية الهابطة التى تحيطنا من كل صوب وحدب والتى لا تقل أبداً عن حال الغناء الهابط التائه بين الثورة والثروة!!