تكريم مجلس اتحاد طلاب جامعة المنيا الأهلية    وزير التموين يستعرض جهود ضبط الأسواق وتوافر السلع    ميرتس يبدي تحفظا حيال إسهام بلاده في تأمين هدنة محتملة في أوكرانيا    الذكاء الاصطناعي يتوقع الفائز في مباراة النصر والاتحاد    بسبب السحر.. شاب يحاول قتل شقيقته بالقليوبية    المشدد 15 عامًا لمالك محل أحدث لزوجته عاهة مستديمة في القليوبية    الآلاف يشيعون جثمان الطفل "أدهم" ضحية أصدقائه في كفر الشيخ - فيديو وصور    أوس أوس يطلب من جمهوره الدعاء لوالدته: «ادعوا لها تقوم بالسلامة»    ننشر تفاصيل ختام فاعليات مهرجان أسوان الدولى لأفلام المرأة فى دورته التاسعة    ماذا قالت الناقدة ماجدة خيرالله عن حفل زفاف رنا رئيس؟    عمر طلعت مصطفى: ننسق مع وزارة الشباب والرياضة للاستفادة من الفعاليات الكبيرة للترويج لسياحة الجولف    جوندوجان يأمل في بداية مسيرته التدريبية كمساعد لجوارديولا    التايكوندو يتوجه للإمارات للمشاركة في بطولة العالم تحت 14 عام    تقرير: دي ليخت يقترب من الغياب أمام أتليتك بلباو    محافظ الفيوم يتابع موقف أراضي الدولة المستردة وآليات استغلالها بالشكل الأمثل    محافظ سوهاج يتفقد تركيب الأطراف الصناعية بمستشفى الهلال الأحمر | صور    مصر واليونان توقعان الإعلان المشترك بشأن الشراكة الاستراتيجية بين البلدين    بيدري مهدد بالعقوبة من يويفا بسبب تصريحاته ضد حكم قمة الإنتر وبرشلونة    روسيا تعتزم استضافة رئيسي الصين والبرازيل وآخرين بمناسبة ذكرى يوم النصر في الحرب العالمية    مبيعات أجنبية تهبط بمؤشرات البورصة بختام جلسة اليوم.. فما الأسباب؟    كانييه ويست ينهي مقابلته مع بيرس مورجان بعد أربع دقائق من بدايتها (فيديو)    ما حكم طهارة وصلاة العامل في محطات البنزين؟.. دار الإفتاء تجيب    وكيل وزارة الصحة بالشرقية يتفقد الخدمة الطبية بالزوامل المركزى    جامعة كفر الشيخ تشارك في منتدى «اسمع واتكلم» بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف    ضبط 3507 قضية سرقة تيار كهربائى خلال 24 ساعة    "الشباب في قلب المشهد السياسي".. ندوة تثقيفية بالهيئة الوطنية للانتخابات | صور    عدوان الاحتلال الإسرائيلي على طولكرم ومخيميها يدخل يومه 101    "التعليم" تعلن إطلاق مسابقة للمواهب في مدارس التعليم الفني    5 أبراج تُعرف بالكسل وتفضّل الراحة في الصيف.. هل أنت منهم؟    خلافات مالية تشعل مشاجرة بين مجموعة من الأشخاص بالوراق    بينها «أخبار اليوم» .. تكريم رموز الصحافة والإعلام في عيد العمال    وزير البترول: التوسع الخارجي لشركة "صان مصر"على رأس الأولويات خلال الفترة المقبلة    البابا تواضروس يستقبل وكيل أبروشية الأرثوذكس الرومانيين في صربيا    أوبرا الإسكندرية تقيم حفل ختام العام الدراسي لطلبة ستوديو الباليه آنا بافلوفا    كندة علوش: دوري في «إخواتي» مغامرة من المخرج    قطاع الفنون التشكيلية يعلن أسماء المشاركين في المعرض العام في دورته 45    تعرف على وضع صلاح بين منافسيه في الدوري الإنجليزي بعد 35 جولة    محافظ الدقهلية يلتقي المزارعين بحقول القمح ويؤكد توفير كل أوجه الدعم للفلاحين    إطلاق صندوق لتحسين الخدمة في الصحة النفسية وعلاج الإدمان    حزنا على زواج عمتها.. طالبة تنهي حياتها شنقا في قنا    مدبولي يُكلف الوزراء المعنيين بتنفيذ توجيهات الرئيس خلال احتفالية عيد العمال    وظيفة قيادية شاغرة في مصلحة الجمارك المصرية.. تعرف على شروط التقديم    وائل غنيم في رسالة مطولة على فيسبوك: دخلت في عزلة لإصلاح نفسي وتوقفت عن تعاطي المخدرات    وزارة الأوقاف تعلن أسماء المقبولين لدخول التصفيات الأولية لمسابقة القرآن الكريم    المراجعات النهائية للشهادة الإعدادية بشمال سيناء    سحب 49 عينة سولار وبنزين من محطات الوقود بالإسكندرية لتحليلها    آخر تطورات مفاوضات الأهلي مع ربيعة حول التجديد    ضبط المتهمين في واقعة تعذيب وسحل شاب بالدقهلية    مصر ترحب باتفاق وقف إطلاق النار في اليمن مع الولايات المتحدة    زيادة قدرتها الاستيعابية.. رئيس "صرف الإسكندرية يتفقد محطة العامرية- صور    «مستقبل التربية واعداد المعلم» في مؤتمر بجامعة جنوب الوادي    بتكلفه 85 مليون جنيه.. افتتاح مبنى امتداد مركز الأورام الجديد للعلاج الإشعاعي بقنا    عضو مجلس الزمالك: كل الاحتمالات واردة في ملف زيزو    أسامة ربيع: توفير الإمكانيات لتجهيز مقرات «الرعاية الصحية» بمواقع قناة السويس    اليوم.. الرئيس السيسي يتوجه إلى اليونان في زيارة رسمية    ما حكم إخراج المزكى زكاته على مَن ينفق عليهم؟.. دار الإفتاء تجيب    الأزهر يصدر دليلًا إرشاديًا حول الأضحية.. 16 معلومة شرعية لا غنى عنها في عيد الأضحى    عاجل- مصر وقطر تؤكدان استمرار جهود الوساطة في غزة لوقف المأساة الإنسانية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا لو حكمنا الآن عمر بن الخطاب ؟

قبل مايزيد على ثلاثة أسابيع وصلتنى رسالة عن تزايد القمامة فى أحد الأحياء.. شكوى عادية ومتكررة.. لكن الطريف فى مضمونها هو أن صاحبها حمل مسئولية المشكلة على (نظام الحكم) برمته.. واستعان فى التدليل على ذلك بمقولة شهيرة لأمير المؤمنين الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه: والله لو أن ناقة عثرت فى العراق لسألنى الله عنها.
وقررت أن أناقش الفكرة.. وهل هذه المقولة العظيمة المعبرة عن اتساع نطاق مسئولية الحاكم وصولا إلى أدق التفاصيل.. وكلها.. تصلح لأن تكون منهجاً وطريقة للحكم اليوم ؟.. غير أن مجموعة من المسائل العامة ضغطت على أجندتى.. فتأجل المقال إلى أن فرض نفسه من جديد.. بسبب ما جرى فى لقاء أخير لرئيس الوزراء مع مجموعة من شباب الجامعات قبل أيام فى بورسعيد.
شاب، للدقة طالب، أخذ دوره فى السؤال.. فلم يسأل الدكتور نظيف.. وإن ألقى عليه مايشبه التعليق أمام زملائه.. ذاكرا مقولة سيدنا عمر الشهيرة.. وقال لرئيس الوزراء : حين غرق الضحايا فى حادث العبارة أنا بكيت.. فهل أنت بكيت؟.. وعلق الدكتور نظيف على ما قاله الشاب.. بغض النظر عن طريقته فى طرح تعليقه التى خرجت عن سياق اللياقة الواجبة.. ودافع رئيس الوزراء عن نزاهة الحكم.. وعن أنه لايؤيد الفساد.. وأن كل قضايا الفساد تحال إلى المحاكم بأمر الحكومة.. فجهاز الرقابة الإدارية - مثلا- يتبع رئيس الوزراء.. ولم يتجهم وهو يبعد الشباب عن حالة التشاؤم.. ويؤكد لهم أهمية وطنهم وإنجازاته.. ونماذجه الناجحة.
وكما صفق الطلبة حماساً لجرأة زميلهم فإنهم صفقوا اقتناعا بإجابة رئيس الوزراء.. ولكن هذا الموقف العابر الذى أخذ حجماً كبيراً من تغطيات الصفحة الأولى فى بعض الجرائد يعود بنا إلى المسألة التى يجب أن تناقش بوضوح: هل العصر الحالى يمكن أن نستعيد فيه الحكم على طريقة خليفة المؤمنين عمر بن الخطاب.. نموذج العدل وقدوة الحسم والتقشف؟
الدعاية للدولة الدينية
مايدفعنى إلى هذا هو أن بعض التيارات المتطرفة تستخدم تلك العبارة وما يماثلها للتدليل على أن نموذج الحكم فى صدر الإسلام كان عادلاً للغاية.. وبالتالى فإن »الدولة الدينية« التى يسوقون نموذجها إنما تمثل للناس ترياقا ضد مايعانون منه.. وتقول لهم إن هذه الصيغة فى الإدارة هى الأصلح.. وهى التى يمكن أن تقدمها تلك التيارات إن حكمت أو بلغت السلطة بشكل أو آخر.
شاب فى مقتبل العمر حين يسترشد بمقولة الخليفة العظيم وهو يوجه ملاحظاته لرئيس الوزراء يفرض علينا أن نطرح تساؤلاً جوهرياً حول المعانى التى يؤمن بها الشباب ومن يمثلهم والأجيال الجديدة فيما يخص طريقة الحكم وتوزيع المسئوليات فى النظم الحديثة وتطبيق الديموقراطية فى العصر الحالى.
مبدئياً، لايمكن القول أن الطريقة التى أدار بها سيدنا عمر دولته كانت هى تلك الطريقة التى يجب أن تكون عليها الدولة الإسلامية فى مختلف العصور.. ففيما بعد اغتياله.. دارت عجلة الزمن.. وتوالى على المسلمين خلفاء من مختلف الفئات الذين حكموا كل منهم بطريقته.. حين كانت هناك خلافة متسعة عبر القارات.. بحيث إنه لايمكن القول بأن طريقة هذا أو ذاك من الخلفاء والأمراء تمثل المواصفات الكاملة لطرق الحكم العادلة خاصة أن كثيراً منها إن لم يكن أغلبها - فيما بعد الخلفاء الراشدين - لم تكن عادلة بالمعنى المفهوم للعدالة..أو كانت تتميز بقدر هائل من الانفلاتات والتجاوزات التى أدت إلى تناحر المسلمين أنفسهم.
وسيدنا عمر ذاته، يمثل حالة خاصة جداً، وربما استثنائية للغاية، ليس فقط فى التاريخ الإسلامى وإنما فى التاريخ الإنسانى كله، إلى الدرجة التى دعت كاتب (عبقرية عمر) (الأستاذ عباس محمود العقاد) لأن يخصص فصلاً كاملاً فى كتابه الأشهر بعنوان (عمر والحكومة العصرية) قال فى مستهله: »من الحقائق التى يحسن ألا تغيب عنا ونحن نقدر الأبطال من ولاة العصور الغابرة أنهم أبناء عصورهم وليسوا أبناء عصورنا، وأننا مطالبون بأن نفهمهم فى زمانهم وليسوا هم مطالبين بأن يشبهونا فى زماننا«.
ويقول العقاد عن ابن الخطاب مدللاً على رؤيته: »خذ مثلا أنه وهو أقدر المالكين فى عصره كان يقنع بالكفاف ويلبس الكساء الغليظ ويهنأ أبل الصدقة - أى يداويها بالقطران - ويراه رسل الملوك وهو نائم على الأرض نومة الفقير المدقع وهو يدخل الشام فينزل عن بعيره ويخلع خفيه ويخوض الماء ومعه بعيره، ويسافر مع خادمه فيساوى بينهما فى المأكل والمركب والكساء.. حاكم من حكام العصر الحديث لايصنع هذا ولايطالب بأن يصنعه هو وأبناء العصر الحديث على حق فيما ارتسموه لأنفسهم من السمت (الهيئة) والشارة لأن حاكم الأمة يحتاج إلى المهابة بين قومه وغيرهم من الأقوام وهذا حسن مشكور«.
العودة إلى الخلف
والمعنى أن لكل عصر حكامه وأساليبه.. ولكل زمن طريقته.. ولكل دولة منهجها فى إدارة شئونها.. والأساس فى الاختلافات هو أن نتفق على القيم الواجب اتباعها وإن تباينت الأساليب.. ففى كل زمان يسعى الناس إلى العدل.. وفى كل وقت يرغب الناس فى المساواة.. وفى كل عصر يريد الناس أن ينال الجميع حقه.. وأن يخضع الحاكم إلى المساءلة.. ولكن الطرق تتباين والأنظمة تختلف.. والحياة تتطور.. والمجتمعات تتبدل.. ومع حدوث التطور فإن الطرائق تتنوع.. ولايجوز أن نعود إلى عصور سحيقة بنفس طريقتها.. لأن العودة قد تهدر كل شىء وبما فى ذلك العدل الذى ننشده.
وللتدليل على ذلك نعود إلى واقعة شهيرة فى سيرة خليفة المؤمنين العظيم.. تلك التى تروى أن عمرا- رضى الله عنه- كان يعس فى المدينة فسمع صوت رجل وامرأة فى بيت.. فتسور الحائط.. فإذا رجل وامرأة عندهما زق خمر (الزق = الإناء).. فقال عمر: ياعدو الله! أكنت ترى أن الله يسترك وأنت على معصية؟ فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أنا عصيت الله فى واحدة وأنت فى ثلاث.. فالله يقول (ولاتجسسوا) وأنت تجسست علينا.. والله يقول (وأتوا البيوت من أبوابها) وأنت صعدت الجدار ونزلت منه، والله يقول (ولاتدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) وأنت لم تفعل ذلك.. فقال عمر: هل عندك من خير إن عفوت عنك
فقال: نعم، والله لا أعود.. فقال اذهب فقد عفوت عنك.
ومن المؤكد أنه لايمكن أن تطلب من أى حاكم الآن أن يسير فى المدينة لكى يعس بين الناس.. ويعرف أحوالهم من خلال التجسس عليهم.. كما أنه ليس من مهمة الحاكم الأكبر أن يتتبع إن كان الناس يتناولون الخمر فى بيوتهم أم لا.. أو ماهى طبيعة الخطايا التى يرتكبونها.. وحتى لو فعل وعثر على جرم فإن القانون لايعطيه الحق فى أن يعفو عن الناس إذا ما تعهدوا بعدم العودة إلى ما اقترفوا.. هناك أساليب أخرى للعفو يحكمها الإجراء الدستورى.. وهى صلاحية ليست متاحة للجميع.. ولايمكن اليوم أن يجد حاكما أو رئيسا مواطنا فى غرزة يدخن الحشيش.. فيقول له المواطن: لن أعود إلى هذا.. فيعفو عنه!
وبغض النظر عن اللجاجة والقدرة على المجادلة التى تبناها هذا الشخص فى مواجهة أمير المؤمنين.. حين ضبطه فى هذا الوضع المخل داخل بيته.. فإن ما قاله لايمثل مخالفة قانونية فى العصر الحالى.. فى ضوء الإجراءات القانونية.. بمعنى أنه لايمكن الاستناد إلى آيات القرآن فى أن يذهب الناس بجرمهم إن فعلوا شيئا.. وفى العصر الحالى.. من حق جهات القانون - وليس الحاكم مختصاً بهذا - أن تقوم بتتبع أحوال الناس مراقبة وتجسسا إلا إذا كان لديها إذن قانونى بهذا.. ومن حقها أن تقتحم البيوت دون استئذان ودون تطبيق حكم الآية إن كانت النيابة العامة قد سمحت لها بذلك.. ولايمكن أن نطلب من الشرطة تدخل إلى معاقل المجرمين عبر الأبواب المشرعة وليس من خلال عمليات الحصار والاقتحام المعروفة لكى تكتمل الأركان ولا يهدر المجرمون الأدلة قبل أن يتم إلقاء القبض عليهم.
مهام الرئيس
اختلفت العصور إذن.. ومع اختلافها تباينت الطرق.. وتعددت الأساليب.. وتنوعت المهام.. وقد كان خليفة المؤمنين عمر فى وضعية زمنية تفرض عليه أن يكون قدوة.. وأن يبنى النموذج.. وأن يضع التقاليد والأسس.. مع انتقال الدين من مرحلة انتشار العقيدة إلى مرحلة بناء الدولة.. ولكن بالتأكيد ليس على أمير الناس الآن أن يكون من بين مهامه أن يذهب خلف سور كل بيت لكى يعرف ما يدور فيه.. فقد تشعبت وتعددت أساليب الإدارة.. وزاد السكان.. واتسعت الأماكن.. وتنوعت حتى أساليب مخالفة القواعد بحيث لايقوى حاكم على أن يقوم بذلك بنفسه.
هل يكون على الرئيس مثلا أن ينهى مقابلة مع أحد رؤساء الدول.. أو حتى يؤجلها لأنه قد جاءته إخبارية عن مواطن يسرق الدقيق فى أحد المخابز.. فيتنكر ويسير بين الطرقات إلى أن يصل لمكان الواقعة.. ومن ثم يضبط هذا الشخص.. ويقيم عليه الحد؟ بالتأكيد هذا كلام خيالى.. غير أنه كان يحدث فيما مضى من زمن.. وهل يكون على الرئيس - أى رئيس - أن يسير بين الناس مثله مثلهم.. يترجل.. ويراه رسل الملوك فى فقر مدقع؟ من المؤكد أن هذا غير مقبول اليوم.. بل إن الرئيس - أى رئيس - حين يقوم بذلك فإنه يعرض أمن البلد للخطر لأنه يعرض أمنه الشخصى للتهديد.. وحين يتعرض هو للتهديد فإن استقرار البلد يتعرض بدوره للاهتزاز.. ويكون مخلا بمسئولياته لو أنه فعل.
وقد أوقف سيدنا عمر تطبيق الحد على السارقين فى عام الرمادة.. حين تدهورت أحوال الناس.. وعانوا من أزمة اقتصادية بمقاييس العصر.. »وقد كان تطبيق الحد هو قطع يد السارق« أمر مثل هذا لايمكن أن يحدث اليوم وإلا كانت فوضى.. بمعنى أنه لايمكن تعطيل عقوبة السرقة لأن الناس تعانى من الضائقة.. والفقر ليس مبررا لأن يقوم الناس بارتكاب الجريمة.. ولو طبق هذا المبدأ اليوم فإنه يعنى أن يعم الارتباك حياة الأمة.. وأن يجدها اللصوص حجة لكى يعيثوا فى الأرض فسادا.. بحجة أنهم لا يجدون ما يأكلون.. أو ما يسد الاحتياج وفقا لمقاييس ذلك الاحتياج.
إن عدد السكان فى عصر خليفة المؤمنين لم يكن يناظر أعداد السكان اليوم.. ولا أعتقد أن الولايات الإسلامية برمتها كان إحصاؤها يماثل دولة إسلامية متوسطة الحجم من تلك الموجودة اليوم.. كما أن الجرائم التى كانت ترتكب فى تلك العصور تعتبر ساذجة بمقاييس الجرائم التى تقع الآن.. والتعقيدات فى شئون الحياة العامة أصبحت أصعب بكثير مما كانت عليه.. بحيث صار تنظيم الدول يتطلب قدراً هائلاً من التعقيدات الموازية التى تدير شئون الناس بحكمة مختلفة عما كانت عليه.
الناقة والعصر
وإذا ما عدنا إلى مقولة سيدنا عمر حول الناقة التى يمكن أن تعثر فى العراق ويكون هو مسئولا عنها.. حسبما قال رضى الله عنه.. ورددها هذا الشاب فى واقعة رئيس الورزاء.. ولايتوانى خطباء المساجد عن أن يرددوها فى كل يوم جمعة وغيره.. ويقولون (رضى الله عنك يا خليفة رسول الله (ص).. عدلت فرضيت وأرضيت وآمنت ياعمر).. فإن علينا أن نمعن النظر فى المسألة بمزيد من التدقيق.. حتى لا نلهث وراء أحلام بعيدة بل ومستحيلة ونكون كمن يطارد سرابا لن يأتى أبدا.
ذلك أن سيدنا عمر نفسه قد عدل خير عدل.. ولكنه لم يأمن.. إذ اغتيل فى نهاية حكمه.. متعرضا لمؤامرة شهيرة.. ولم يعد العدل هو الضمانة التى على أساسها يمكن أن يأمن أى حاكم أن التزم بالعدل.. ففى العصر الحالى توجد أمور عديدة يمكن أن تجعل الحاكم غير آمن.. أيا ما كان مستوى نزاهته وشفافيته.. إذ هناك مؤامرات الدول والإرهاب.. والأهم أن تعقيدات الحياة يمكن أن تدفعهم إلى أن يقوموا بما لا يمكن توقعه ضد أى مشهور.. فما بالك بحاكم.
ثم إن الدساتير والقوانين توزع الآن المسئوليات على عناصر الإدارة وأطرافها.. بحيث إنه لم يعد ممكنا للعقل أن يقبل أن يكون الحاكم - رئيساً أو ملكاً أو سلطاناً.. أيا ما كان نظام الحكم - أن يقبل فكرة أن هذا الحاكم مسئول بنفسه عن عثرة ناقة أو حمار أو حادث سيارة وقع فى بقعة نائية.. أو حتى فى مكان ملاصق لمقر حكمه.. إذ أن الحاكم له مهام محددة.. تشمل الخطوط الرئيسية لرسم السياسات العامة والقرارات الكبيرة والمناهج العريضة غير التفصيلية.. فى حين أن هناك أطرافاً أخرى.. حدد لها القانون مهامها بقدر تنوعها وتدرجها.
إن الحاكم الذى يكون مسئولا عن كل شىء ليس فقط حاكماً خارج قدرة احتمال المنطق.. ولكنه أيضا يكون حاكما غير مقبول بالمقاييس الديمقراطية الحديثة.. ويعتبر ديكتاتورا.. نافيا لكل قيم الشراكة والتشارك فى الإدارة وتحمل مسئوليات الحكم.. ويجعل الأمة كلها غير متحملة للمسئولية فى أى من مهامها.. طالما أن هناك فرداً واحداً سوف ينال كل الحساب أو كل الثواب.. ناهيك عن أنه نموذج مستحيل يعنى ترديد الحديث عنه أننا نريد أن نذهب بعقول الناس فى غياهب بعيدة وغير ممكنة.
توزيع المسئوليات
أنا هنا لا أريد أن أخلى مسئولية الحكام عن عديد من المشكلات وإبعادهم عن نطاق المسئوليات.. ولكنى أريد أن أسجل مجموعة من الملاحظات التى تستوجب الانتباه ونحن نقارن بين هذه الترديدات التى تعود بنا 41 قرنا إلى الوراء.. وبين واقعنا اليوم.
فمن ناحية لايمكن الوثوق بأن مقولة خليفة المؤمنين عمر بن الخطاب حول مسئوليته عن الناقة التى يمكن أن تعثر فى العراق قد طبقت بخلاف كونه رضى الله عنه قد أعلن ما فيها من مبدأ يريد أن يطبقه على نفسه.. وبغض النظر عن المقارنة مع العصر الحالى فإن سيدنا عمر لم تكن لديه الأدوات الكافية لكى يحيط ويلم بأحوال كل العباد فى جميع أسقاع الولايات الإسلامية التى كان يديرها.. ومن ثم أفهم أن ما قال رضى الله عنه كان يقصد به إرساء المبدأ قبل أن يكون هدفه هو التطبيق العملى لذلك المنطق.
ومن ناحية ثانية فإن العصر الحديث قد أدى إلى نشوء أنظمة تتوزع فيها المهام ما بين السلطة المركزية والسلطات المحلية المختلفة.. وبحيث يكون لكل منها مهامه.. كل بقدره.. وفى كثير من الدول التى تتبع النظام الفيدرالى لا يكون للحاكم تدخل فى شئون الولايات الخاصة كما هو الحال مثلا فى الولايات المتحدة.. كما أننا فى مصر نسعى إلى أن تكون هناك أعباء أقل على السلطة المركزية ونحاول فك الاشتباك العتيد بين المركزية وزيادة مهام السلطات المحلية.. لأن الناس فى المحافظات تعانى من انشغال السلطة المركزية بعيدا عن تفصيلات حياتها.
ومن ناحية ثالثة فإن سيدنا عمر تحدث عن أن الله هو الذى سوف يحاسبه عن تلك الناقة التى يمكن أن تكون قد عثرت فى العراق.. فى حين أننا لايمكن أن نقبل اليوم بحاكم يكون حسابه عند الله وحده.. هذه مسألة تخصه بينه وبين الله.. ولكن فى العصر الحديث لا يكون مطلوبا منا انتظار أن يعاقب الحاكم من السماء.. وإنما نحن نحاسبه بأساليب مختلفة من بينها التصويت فى الانتخابات.. فمن لم يفلح كان أن واجهه التصويت المضاد.. وكان أن روجع من مجلس الشعب ومن مختلف آليات المحاسبة العصرية.
وبالمثل، فإن الطالب الذى قال لرئيس الوزراء أنه بكى حين وقع حادث العبارة.. فهل بكى رئيس الوزراء؟ إنما كان يسأل عن تعاطف لاينبغى أن يكون هو فقط المطلوب فى مثل تلك الكوارث الكبرى.. إذ ما الذى سوف يفيدنا لو أنه بكى تعاطفا.. وتأجل مثلا الحساب القانونى لمن ارتكب الجرم الأكبر فى الواقعة.. تلك أو غيرها.. إن ظهور المسئولين البكاة الدامعين على الشاشات - التى لم تكن موجودة على أى حال فى عصر سيدنا عمر - لن يكون كافيا لإعفائهم من المسئولية.
وبالتالى فإن الشاب كان يبحث عن معنى ليس هو المقبول فى عصر حديث يسود فيه القانون.. وإن كنت أجد فى هذا الحديث فرصة مناسبة لكى أشير إلى أن الطريقة التى أديرت بها عملية المحاسبة فى كارثة العبارة مازالت تجد لدى الناس بشكل عام أصداء غير إيجابية.. وحتى بعد أن دارت عجلة القانون وصدر الحكم ضد صاحب العبارة فإنهم لايقتنعون بأن ما جرى كان كافيا بالشكل الملائم.
إن ثقافتنا العامة، تلك التى يعبث بها بعض خطباء المنابر، والذين يقودون الناس إلى عصور غابرة لن تعود، تحتاج إلى مزيد من الانضاج والتوعية، وإفهام الرأى العام أن هذا النموذج الذى يسوق بينهم على أنه خلاصة العدل والأمان والاستقرار.. إذا ما طبقنا الحكم على طريقة خليفة المؤمنين عمر بن الخطاب.. هو نموذج بعيد وغير قابل للتطبيق العصرى.. بل إن تطبيقه قد يكون مشكلة كبيرة لأنه لا يتواءم إطلاقا مع متغيرات العصر وتعقيدات المجتمعات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.