فيلم "المحطة الأخيرة" من إخراج ميشيل هوفمان الذي سبق له تقديم فيلم بسيط وشديد الروعة هو يوم جميلone fine day ولعب بطولته جورج كلوني مع ميشيل فايفرمنذ سبع سنوات تقريبا، وفي المحطة الاخيرة، يقدم المخرج لغة سينمائية بسيطة تخلو من التعقيد أو استعراض العضلات، ولكنه يلتزم بالدقة الشديدة في إعادة صياغة الفترة الزمنية التي شهدت السنوات الاخيرة من حياة الكاتب الروسي الاسطورة ليو تولستوي الذي توفي في عام 1910 وكان عمره وقتها 82 عاماً. ومع ذلك فالأحداث لاتدور حول ليو تولستوي وحده، وتستطيع أن تقول إنها عن زوجته الكونتيسه صوفي "لعبت دورها هيلين ميلين" ورشحت للأوسكار عن أداء تلك الشخصية المعقدة ! الازمة أو عقدة الفيلم يمكن أن تثير جدلا لو عرضت في مجتمع صحيح ومعافي، يولي اهتماماً حقيقياً بالقضايا الانسانية ويناقش تصرفات الانسان التي يمكن ان تؤثر سلبا أو إيجابا علي غيره ربما لبقية العمر!ولكننا اعتدنا علي الفرجة فقط وإن كان هناك مايمكن أن يزعجنا أو يدفعنا للمناقشه فلن يخرج الامر علي توافه الأمور وأقلها فائدة وأبعدها عن صلب الموضوع! كنت اتابع الفيلم مع ترجمه بالعربية وضعها شخص عربي، وفي احد المشاهد كتب تحذيرا احترس سوف يعرض مشهد ضد المبادئ الدينيه! وطبعا اصابني التحذير بدهشة فهل يلعب المترجم "حتي لو كان متبرعا بالترجمة"دور الرقيب؟ ويصدر أحكاما عن كون هذا المشهد يوافق مبادئ الدين أم لايوافقها، وخاصة أن المشهد لايزيد علي تبادل قبلات بين شاب ساذج لم يمر في حياته بأي تجربه عاطفية، وبين سيدة شابة تقتحمه وتعلمه فنون الحياة، وكيف يعبر عن رأيه ولايخشي في الحق لومة لائم! المشهد في حد ذاته يحمل مدلولات كثيرة ومعان إنسانية ليس بينها الاثارة الجنسية! السلام والحرب أما القضية التي يمكن أن تشغل بال المتلقي، وقد شغلت بالي فعلا، فهل يجوز للرجل أن يتبرع بماله من أجل الخير ضد إرادة زوجته التي عاشرته مايزيد علي أربعين عاما وأنجبت له من الابناء ثلاثه عشره؟ في الحقيقه كانت مشاعر الغيظ تتملكني وأنا أتابع محاولات المرأة "الزوجة" صوفي أن تثنيه عن عزمه، وخاصة قد اسلم قيادة شئونه الخاصة إلي "فلاديمير شيرتيكوف " وهو رجل يؤمن بقيمة ليو تولستوي ويقوم بالترويج لافكاره ويريد أن يخلق منه قديسا أو مسيحا ويحرضه علي أن يهب نتاج إبداعه الادبي"بعد وفاته" لصالح الفلاحين ! وقتها لم يكن أحد يتوقع أن تتحول رواية الحرب والسلام وأنا كارنينيا الي اشهر الكتب وأكثرها رواجا، وانتشارا حتي أن مجلة تايم عندما قامت برصد اهم عشر روايات حققت اعلي نسبة مبيعات خلال القرن العشرين كانت الحرب والسلام تحتل المرتبة الاولي، بينما احتلت انا كارنينيا المرتبة الثالثه! وتحولت كل منهما الي عشرات الافلام والمسلسلات بكل لغات العالم!ويمكن ان تصل عائدات أعمال ليو تولستوي الي عدة مليارات من تاريخ وفاته وحتي االلحظة الآنية، مما يجعل أحفاد أحفاده يعيشون في حالة من الترف والاستقرار، لمائة عام قادمة! غير ان حياة الرجل الذي كتب الحرب والسلام لم تعرف السلام مطلقا في السنوات الاخيرة التي سبقت رحيله. الوجه الآخر قد تظن أن أحداث الفيلم تكشف وجها قبيحا لكاتب عظيم، علي العكس تماما فالرجل "لعب دوره كريستوفر بلامر"، كان يعيش في حالة حب مستمرة مع زوجته الكونتيسه صوفي"هيلين ميلين"، وكانت تبادله الحب بل تسرف في حبها وتصل معه الي حالة من العشق الدائم حتي بعد أن تخطي الثمانين وأصبح شيخا متآكلا، ولكن الأزمة بينهما نتجت عن رغبته في التبرع بما تدره أعماله الادبية لصالح الفلاحين، وكان رأيها ان الفلاح يمكن أن تفسده الحياة الرغدة المترفة، ثم إنها كانت تدافع عن حقها وحق ابنائها وأحفادها، والغريب ان كبري بناتها كانت تؤيد رغبات والدها وتقف ضد منطق امها، مما جعل الكونتيسه في حالة هياج دائم، لدرجة الاقدام علي الانتحار اكثر من مرة!وهو ماجعل حياتها مع تولستوي تصبح بعيدة عن السلام الذي يبتغيه رجل في نهاية العمر!حتي أنه قرر ان يتركها ويذهب الي مكان بعيد لاتصل اليه ويمنع اقترابها منه! صدام وصراع مع المشاهد الأولي من فيلم المحطة الاخيرة، نتابع الكونتيسه صوفي وهي تتسلسل الي حجرة زوجها وتدخل فراشه، بينما هو مستغرق تماما في النوم حتي تظنه قد فارق الحياة، وقد فعلت ذلك حتي يمكنها أن تحتضنه وتلوذ بصدره ربما لتعبر عن حبها له رغم الصدام والصراع المحتدم بينهما، وسرعان مانكتشف ان ليو تولستوي قد استعان بأكثر من شخص ليسجل دقائق حياته وتفاصيلها، ربما ليكون محلا للدراسة بعد وفاته، وهو الامر الذي يجعل الزوجة محاطة بمجموعة من الجواسيس يرصدون كل تحركاتها ويسجلون كل مايصدر منها أو عنها، وهو مايزيد مشاعرها سوءا وكإنها لاتملك من زوجها الا اقل القليل، ويستعين الرجل بشاب بسيط ليعمل سكرتيرا خاصا له"جيمس ماكافوي" ويصاب الشاب بحالة من الدهشة وهو يجد الرجل العظيم يعامله ببساطة وعفوية ويسأله عن بعض حياته حتي تنهمر دموعه من فرط السعادة، ويقع الشاب في حيرة بين حبه للكاتب الكبير، وإيمانه أن زوجته قد تكون علي حق، ولكن يحسم الصراع لصالح فلاديمير شيرتيكوف الذي ينجح في الحصول علي توقيع تولستوي علي وثيقة تنازل عن حقوقه المادية لدي الناشرين لتذهب لصالح الفلاحين!وعندما تسوء الحالة الصحية لتولستوي وهو في منفاه الاختياري، يطلب ان يشاهد زوجته ورفيقة عمره، فيقوم سكرتيره الخاص بإرسال برقية لاستدعاءها، وتصل بالقطار لتجد رجال الصحافة يحاصرون منزل زوجها، وتجد طريقها بصعوبة حتي تصل إليه وهو في حشرجة الموت، وتحتضنه وتعود بجثته في نفس القطار الذي حملها إليه، وتصدر منها ظل ابتسامة فقد انتصرت اخيرا علي كل معاونيه ورفاقه واستطاعت أن تنتزعه من بينهم، حتي لوكان جثة! الأكثر جاذبية الحديث عن روعة أداء هيلين ميلين يحتاج الي صفحات، فهذه المرأة التي تخطت الستين ورشحتها بعض المجلات الاجتماعية لتكون صاحبة لقب الاكثر جاذبية بين نجمات السينما!تقدم حالة فريده من الابداع الذي يتأرجح بين الرقة والشراسة والضعف والقوة، الاستسلام والدهاء ولم يكن غريبا ترشيحها لجائزة الاوسكار افضل ممثلة ولكن الغريب انها لم تحصل علي الجائزة، أما كريستوفر بلامر الذي لعب دور ليوتولستوي فقد تتعجب انه نفسه بطل فيلم صوت الموسيقي ولكن ثلاثين عاما مرت علي الفيلم اكسبته قدرا كبيرا من عبقرية الأداء، وخاصة في الادوار المركبه، ويبرز اسم جيمس ماكفوي بين افضل النجوم الشباب حيث استطاع أن يصمد أمام قوتين ضاربتين، ويلعب بإتقان وحرفة واضحة شخصية شاب قليل الخبرة بالحياة تضعه الظروف أمام تجربة شديدة الثراء تجعله ينضج في أشهر قليلة ويكتسب مالم يكتسبه في حياته السابقة! وتقول تترات النهاية إن الكونتيسة صوفي قامت بالطعن في وصية زوجها واستردت حقها في الاستمتاع بالثروة التي تدرها رواياته هي وأبناؤها وأحفادها فهل كانت علي حق ؟أعتد ذلك فقد أحبته رجلاً وليس قديساً!