عاطف عواد احتدم الخلاف والجدل هذه الأيام بين مختلف التيارات السياسية حول مستقبل الدولة في مصر خاصة بعد قيام ثورة 25 يناير، ودخول أفكار واتجاهات وقوي إلي المعترك السياسي، والتي كانت تحرمه أحيانا وتفسق العاملين به أحيانا أخري، وأقصد البعض من التيارات الإسلامية، ومن عجب أن بعض العلمانيين رفعوا شعارات مدنية الدولة مستخدمين خطابا استقطابيا حادًا للهجوم علي أصحاب المرجعية الإسلامية، وكأن هذه المرجعية ضد مدنية الدولة وأطلقوا وصف الدولة الدينية والجمهورية الإسلامية لتخويف البعض من أصحاب هذه المرجعية باستدعاء النموذج الإيراني في الحكم. ورغم أن مصطلح الدولة المدنية غير منضبط بالقدر الكافي لأنه يأتي في مواجهة الدولة العسكرية وليست الدولة الدينية مع ذلك لم يعرف التاريخ الإسلامي نظام الدولة الدينية منذ ظهور الإسلام وحتي يومنا هذا، وهو الذي تؤكده الحقائق والتاريخ، فالرسول- صلي الله عليه وسلم- عندما أصبح حاكما لدولة المدينة التي تضم ديانات مختلفة حكمها علي أساس دستور المدينة الذي وضعه وقتها وعرضه علي الناس، وحقيقة الأمر أن الدولة الدينية نشأت في أوروبا والغرب، وكانت أسوأ نموذج استبدادي للحكم عرف وقتها بالتفويض الإلهي وهو أمر لا يعرفه الإسلام. ولأن الخطاب العلماني الغربي في مجتمعاتنا يعاني الانفصال عن نبض الشعوب، ولا يجد لديهم قبولا ويعجز باستمرار عن استمالتهم إلي ما يدعوهم إليه، فقد قرروا أن يخوضوا معركة تكسير عظام مع أصحاب المرجعية الإسلامية دون فرز أو تمييز وظلوا يرددون أن هذه المرجعية ستكون مدخلا للدولة الدينية، وهو قول مرسل ولا يقوم عليه دليل واحد لا من الإسلام ولا من التاريخ. ويظل شبح الدولة الدينية هو الفزاعة التي يستخدمها بعض العلمانيين ويلقونها علي عواهنها دون أن يدعموها بدليل يؤيدها أو برهان يثبتها، وتم غض الطرف عن الاجتهادات القيمة التي بذلت من قبل التيار الإسلامي وأصحاب الفكر التجديدي في العصر الحديث لتقديم نموذج حضاري إسلامي مدني. وللحق، فإن التخوفات التي يطلقها البعض، وإن كانت بغير دليل، إلا أننا في بعض الأحيان نجد لها مبررا بسبب أطروحات بعض فصائل التيار الإسلامي الذي لم يأخذ الوقت ولم يبذل الجهد الكافي للتأصيل الشرعي السياسي، واكتفي باستخدام الآيات القرآنية لبلورة رؤية سياسية وهو استخدام أحيانا يكون خارج السياق كالذي يتحدث عن الحكم بالحكمة والموعظة الحسنة، فيوجه أفكار الناس إلي أن الحكم للتيار الإسلامي سيكون بطريقة الوعظ والإرشاد، أو الذي يتحدث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيستدعي إلي الأذهان النموذج السعودي المرفوض لجماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تسيء أحيانا للدين وللحكم في آن واحد، ويظن المسلمون أنهم سيجبرون علي أداء الصلاة في ظل هذه الدولة بل وسيضربون بالعصا للانصياع، وكذلك يظن غير المسلمين أنهم سيجبرون علي ممارسة الشعائر الإسلامية. إلا أن هذه المقولات الساذجة التي يطرحها بعض العلمانيين وكذلك سطحية بعض اللاعبين الأساسيين علي الساحة الإسلامية، برر للبعض هجوماً كاسحاً علي كل من يستند للمرجعية الإسلامية في برنامجه دون تمييز، كالذي يتحدث عن الحدود باعتبارها فقط الطريق لتطبيق شرع الله، وحقيقة الأمر أن الحدود ليست هي شرع الله بل إن شرع الله هو قيم العدالة والمساواة والحرية وما الحدود إلا سياجا لحماية هذه القيم. ولهذا وذاك كان لابد للباحثين في هذا المجال والمراقبين علي الساحة السياسية من دراسة البرنامج السياسي لحزب الوسط، والذي يقدم نموذجا للدولة الحديثة ذات المرجعية الإسلامية كونه أول حزب طرح هذه الأفكار منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، طرحها في وقت كان الحديث عن فكرة المواطنة الكاملة والدولة المدنية وحق المرأة وغير المسلم في تولي جميع المناصب القيادية في الدولة، وأن الكفاءة هي المعيار الأوحد والوحيد في إدارة الدولة كانت أفكارا جديدة وصفها بعض الإسلاميين أنفسهم بالأفكار العلمانية والخارجة عن دائرة الفكر الإسلامي، وشكك في مصداقيتها بعض العلمانيين، ووقف حزب الوسط بمشروعه بين شقي روحي لكنه ناضل ولايزال لإنجاح هذا المشروع. واستنادًا لهذه الأفكار نرفض فكرة الحكم بالحكمة والموعظة الحسنة، لأن هذا مكانه الوعظ والإرشاد، ولكننا سنحكم بالقانون ونعلي من شأنه، فالدولة الحديثة من وجهة نظر الوسط دولة مؤسسات ودولة قانون ولا تعتمد في الأساس علي أشخاص بقدر ما تعتمد علي القوانين الحاكمة والهيئات والمؤسسات، وفي اختيارها للأشخاص القائمين علي الإدارة وتطبيق القانون تعتمد مبدأ الكفاءة وكفي، فالليبرالي والعلماني الكفء خير للدولة من الإسلامي غير الكفء والمسيحي الكفء خير من الإسلامي غير الكفء وهكذا. والمرجعية الإسلامية في برنامج حزب الوسط لا تخرج عن إطار التأكيد علي ضرورة التمسك بمبادئ ومقاصد الشريعة الإسلامية في تنظيم الشئون العامة للمجتمع والدولة ومقاصد الشريعة تعني المفاهيم الكلية كالحرية والعدالة والمساواة والتكافل الاجتماعي والكرامة الإنسانية، وهو ما اصطلح عليه بكلمة النظام العام. ولا يخلو الأمر من تفصيل، ففي الحديث عن الكرامة الإنسانية نجد أساس هذا المبدأ في قول الحق تبارك وتعالي: «ولقد كرمنا بني آدم» وتكريم الإنسان في الإسلام سابق علي ارتباطه بأي دين أو عقيدة، وهذا يعني أن الإنسان مكرم بذاته ولذاته وليس لانتمائه السياسي أو عقيدته الدينية، ويعني أيضًا أن كل سياسة أو قانون تنتهك كرامة الإنسان هي انتهاك الإسلامية الدولة أو لمرجعيتها أو إهدار لشرعية السلطة التي تقوم علي شئونها بنفس القدر التي تنتهك به الكرامة الآدمية. والمرجعية الإسلامية من منظور حزب الوسط وبرنامجه هو إعلاء لقيمة العقل، وإلغاء كل قيد علي الفكر والإبداع، فلا ندعو للجان رقابية تحد من إبداع العقول ونرفض ما يسمي لدي البعض بالرقابة الشرعية من قبل رجال دين، فالجميع يخضع لسلطان القانون وحسب. وكذلك فإن برنامج حزب الوسط وهو التجربة الرائدة والأولي والتي تلتها تجارب تتقارب منه حينا وتبتعد عنه أحيانا أخري يرفض السلطة الدينية، والتي تعني فرض وصاية أو رقابة علي الضمير والمحاسبة علي النوايا، فالإسلام يعتبر التسلط علي ضمير الفرد أو عقيدته عملا غير مشروع وأن حرية الاعتقاد مكفولة بنص قرآن يتلي ويتعبد به مصداقا لقول الحق «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». ومن هذا المنطلق يقر برنامج الوسط التعددية الدينية وحماية المخالفين في العقيدة وتجريم أي عدوان يقع عليهم أو علي دور عبادتهم بسبب عقيدتهم، ومن باب أولي إقرار التعددية الفكرية والسياسية بل أكثر من ذلك نحن نؤمن أن النموذج التركي كان أحد عوامل نجاحه هو الضغط العلماني الموجود هناك، والذي كان له أثر كبير في ضبط إيقاع الإسلاميين بل ورفع الوسط شعار حقوق أهل الذمة قبل أهل الملة وهو من تبني مقولة أن الجزية في ذمة التاريخ. فنحن نرفض الإقصاء السياسي والاستبعاد الاجتماعي، وأن الأوطان لا تملك طرف الاستغناء عن أي من أبنائها بمختلف توجهاتهم السياسية وعقائدهم الدينية. وأصبحنا ندرك أن النظام الديمقراطي هو أفضل ما أنتجت الأفكار البشرية حتي الآن للحكم يعد مطلبًا سياسيًا وحسب، وإنما أصبح مطلبا اقتصاديًا فالديمقراطية تعني المساءلة والمحاسبة لمنع الفساد باعتباره العائق الأكبر في جذب الاستثمارات، ومطلبا أمنيا لتجنيد الجماهير للتصدي لمحاولات الاعتداء علي السيادة الوطنية، ومطلبا ثقافيا وحضاريا لتأكيد هوية الدولة في مقابل اتجاهات العولمة التي تريد اكتساح كل الهويات، ومن هذه القناعات كانت الحاجة إلي أطروحات فكرية وسياسية تتفق وهذه القناعات، وتوظفها لصالح الأمة والجنس البشري، ومن هنا كان حزب الوسط الذي ينطلق من أن العالم تسوده في هذه المرحلة الراهنة حضارة إنسانية واحدة، وأن مختلف الحضارات والثقافات أسهمت في بنائها، وأن الغرب ليس كياناً واحدًا، وأن العالم الغربي عنده تجارب معرفية وحضارية كثيرة يجب الاستفادة منها، وأخذ الصالح منها والمناسب لمجتمعاتنا ونعمل معا فيما يسمي «بالمشترك الإنساني العام»، وموقفنا من الغرب لا يتسم بالقبول الكامل الذي يقترب من الإذعان أو الرفض الكامل الذي يرفض إعادة التقييم والمراجعة المستمرة، فلدينا رؤية تسمح بإقامة علاقات مع بقية دول العالم وفق معايير احترام المصالح المتبادلة والعدالة. أما عن الاتفاقات والمعاهدات الدولية، فنحن لا نهدم تلك المعاهدات والاتفاقات، ولكننا ملتزمون بها ونحترمها لكوننا لسنا خارج المنظومة الدولية، إلا أننا أيضًا ومن غير الطبيعي أن يكون التزامنا من جانب واحد، فكل معاهدة لها طرفان والتزامات متقابلة، حقوق وواجبات، وبقدر حصولنا علي الحقوق سيكون التزامنا بالواجبات، ونحن ملتزمون مادامت الأطراف الدولية ملتزمة وتطبق اتفاقياتها معنا دون إهدار لكرامتنا أو انتهاك لسيادتنا أو إجبارنا علي مواقف صادمة لأمتنا أو مخالفة لقناعتنا بحق الشعوب جميعا في الحرية والاستقلال وإدانة الاستعمار من أي طرف لأي بلد مهما كان وهو موقف مبدئي تجاه الجميع. والمرجعية النهائية هي أمر حتمي ومن لا يقرر لنفسه مرجعيته النهائية سيقررها له الآخرون أو سيتبني بدون وعي مرجعية ما دون إدراك لتضميناتها بالنسبة له. ولهذا نري أن طريق الإصلاح الذاتي ينبني علي قيمنا الحضارية وخصوصيتنا الثقافية المستمدين أصلاً وأساسًا من الدين الذي يؤمن به المصريون كافة إسلاما كان أم مسيحية، ونري أن مرجعية الحضارة العربية الإسلامية هي محل احترام بنيه جميعا. واجتهاداتنا بشرية تستضيء بمقاصد الشريعة الإسلامية العامة وكلياتها الأساسية وتظل اجتهادات تحتمل الصواب والخطأ، وتنتفي عنها القدسية وقابلة للرد والنقد والمراجعة ومفهوم المواطنة هو الضابط الأساسي في العلاقة بين أبناء الوطن الواحد. ومن ثم، فإن تطبيق مبادئ العدالة والمساواة والحرية والشوري هي تطبيق شرع الله في نظرنا، أما القوانين والنظام العقابي في أي مجتمع خاضع للنقاش ودائما العقوبات يكون الهدف منها هو الردع لعدم وقوع الجريمة والحفاظ علي قيم المجتمع وأمنه وآمانه وحيثما تحقق هذا الهدف فثم شرع الله. ومهما اختلفت القوانين في تحديد العقوبات فإن شرطها أن تكون رادعة بما يحقق الأمن والأمان للمجتمع. كما يري الحزب ضرورة إدماج الأخلاق في سياسات الإصلاح، وإن الإصلاح الأخلاقي يجب أن ينظر إليه لا باعتباره دعوة إلي مكارم الأخلاق فحسب، وهو هدف في ذاته ليس بالقليل، وإنما باعتباره مشتركا أعظم بين مختلف مداخل العملية الإصلاحية وشرطا ضروريا ولازما لنجاحها في الواقع. وبالنظر والتدقيق فيما يطرحه الوسط لشكل الدولة الحديثة ذات المرجعية الإسلامية، والتأكيد علي حق المواطنة واحترام وتفعيل قيم ومبادئ الشريعة الإسلامية يكون قد رسم صورة لدولة مدنية بكل مقوماتها دون خوف، أو ما يحلو للبعض إثارته لتخويف الناس بإطلاق مصطلحات الدولة الدينية والجمهورية الإسلامية أو الإمارات الإسلامية واستدعاء نماذج لا وجود لها علي أرض الواقع في مصر التي تتميز بخصوصية ثقافية حضارية عربية وإسلامية مختلفة، ولا يمكن استدعاء تجارب أخري لتطبيقها علي أرض الواقع المصري المميز، فلا التجربة التركية رغم إعجابنا بها تصلح بتفاصيلها ولا التجربة الإيرانية التي نؤكد علي رفضها جملة وتفصيلا يجب استدعاؤها ولكن تجربة مصرية خالصة. المحامى بالنقض وعضو الهيئة العليا لحزب الوسط