تحقيق : موفق بيومى عبر أكثر من قرنين من الزمان ومنذ قدوم الحملة الفرنسية عرفت مصر المعاصرة العديد من الغضبات الشعبية التى تراوحت ما بين مجرد تنهدات محدودة ذات سقف غير عالى الارتفاع واحتجاجات محلية أو فئوية محددة تقف عند حدود مدينة أو إقليم لا تتخطاه، غالباً هو القاهرة، وتتوقف عند مطالب قطاع بعينه هو فى غالب الأمر الجيش، مروراً بأشباه الثورات ووصولا إلى الثورة الكاملة. ثورة عرابى المتأمل حتى لو بالقليل من الدقة، لما أعقب وصاحب هذه الوقفات الشعبية انتفاضات مؤقتة كانت أم ثورات مستمرة سرعان ما سوف يكتشف أن التفاصيل الدقيقة للأحداث تكاد تكون صورا كربونية متطابقة لا يفرق بينها سوى ما استحدثته الأيام من أسماء ومصطلحات وغالباً ليس أكثر. ها هى آلة الزمن ترجع بنا متوقفة عند الشهور التى تلت الثورة العرابية عام 1882 أو هوجة عرابى كما كانت تعرف حينذاك، وها نحن نقلب فى مجموعة من الأوراق التى سجل عليها التاريخ ما جرى ووثق لنا عبر سطورها ما كان، بعد أن أنتهى من القراءة أعيد عليكم ولكم ما قرأت لعلكم مثلى لا تتعجبون. على مبارك الواقفون فى وجه القطار يخطئ من يظن أنه يستطيع الوقوف فى وجه القطار الآن بكل سرعته وغضبه ويتمادى فى هلاوسه حتى يظن أنه سينجح فى وقف القطار بل وحمله بين يديه مغيراً وجهته ليعود من حيث أتى غير مدرك أن محطات الغضب ترسل بقطارات ذات اتجاه واحد تقذف بالظالمين ولا تعود. فى أعقاب خروج الشعب يومى 25 ، 26 يناير ظنت أجهزة الأمن التى تعتمد فى معظم معلوماتها على مرشدين ومخبرين لا يجيدون حتى القراءة والكتابة أنها قد تنجح فى إخماد الثورة بمنع التقاء الملايين، وأن هذا المنع سوف يتم بما أصدرته من أوامر مضحكة تقضى بألا يتوقف المترو فى محطة التحرير ثم وقف حركة قطارات السكك الحديدية على معظم الخطوط وتعطيل شبكة اتصالات الموبايل وخدمة الإنترنت. قبل أكثر من قرن وربع القرن حاول الجدود الأوائل والآباء الروحيون لأصحاب العقليات الأمنية، عفواً بل اللا أمنية، المعاصرة اتخاذ نفس الإجراء من خلال منع تدفق المواطنين إلى مدينة الإسكندرية التى تدفق منها جنود الاحتلال الإنجليزى رغم مرور شهور على قيام الثورة خوفاً من النار التى قد تكون مختبئة تحت الرماد فأصدرت أوامرها بمنع دخول المدينة إلا لمن يحمل موافقة أمنية مسبقة، ويقول النص الوثيقة «ترجمة إفادة واردة من مصلحة السكة الحديد إلى عطو فتلو أفندم ناظر الداخلية بتاريخ 26 يوليو سنة 1883 نمرة 7866 بإمضاء المسيو ترمان: أتشرف بأن أحيط علم عطوفتكم بأنه إجابة عما تطلبتموه عطوفتكم منا تلغرافياً فى صبيحة هذا اليوم أصدرت الأوامر إلى جميع المحطات بعدم إعطاء تذاكر لمن يريد التوجه إلى الإسكندرية بدون أن يستحوذ على تذكرة مرور مذكوراً عليها تصريح محافظ الإسكندرية. أفندم»! بعض المخاطبات الرسمية فى اعقاب الثورة رجال الخديو ومندوبو الاستعمار وقيادات الأمن البالية القديم منهم والحديث هم رءوس الفساد يشد بعضهم من أزر بعض. الغاضبون مع اللحظات الأولى لإدراك الشعب أن نظام مبارك قد دخل فى ساعات الاحتضار الأخيرة تدفقت جموع هائلة، ثواراً كانوا أو لصوصاً، لتخترق وتجتاز ما كان قبل ساعات خطا أحمر لا يجرؤ أحد على التفكير بمجرد التفكير فى تجاوزه، يخرج الناس من مقار الحزب الوطنى ودوائر الحكم وأقسام الشرطة وغيرها بكل ما تطوله أيديهم إما سلباً علنياً أو مجرد تعبير عن الغضب وبحثاً عن لحظة طالما يحلم بها ملأى بنشوة النصر، إنه نفس ما جرى قبل عشرات السنين كما تقصه علينا تفاصيل الوثيقة التالية: «ترجمة إفادة واردة من نظارة الأشغال العمومية إلى عطوفتلو أفندم ناظر الداخلية بتاريخ 16 أكتوبر سنة 1883 نمرة 147 سعادة على باشا مبارك ووردت لقلم الترجمة فى تاريخه: أتشرف بأن أفيد عطوفتكم أن حضرة مدير أشغال مدينة الإسكندرية أفادنى بإفادته الرقمية 6 الجارى نمرة 166 بالحالة الرديئة التى هى عليها سراية المرحوم سعيد باشا الكائنة بالمكس والفسقية الكبيرة المصنوعة من الحجر الصوان الموجودة أمام هذه السراية وإيبدروم القبارى القديم وقيل من حضرته بأنها آيلة للخراب فضلاً عن اختفاء ما بها من الأدوات بواسطة السرقات الجارى ارتكابها يومياً، وتداركاً من استمرار حصول التلفيات وإجراء السرقات يومياً بدون مبالاة أرجو عطوفتكم التكرم علي بإصدار الأوامر الأكيدة إلى محافظة الإسكندرية قصد تعيين أشخاص لخفر هذه الأملاك التابعة للحكومة. أفندم». الضريبة المؤقتة افتقاد الأمن وعبث اللصوص وفرض سطوتهم على الشارع واحد من الضرائب الثقيلة المؤقتة التى تدفعها الشعوب أثناء وعقب اندلاع الثورات فى أى مكان، وقد عشنا أثناء أحداث ثورة 25 يناير حالة من الانفلات الأمنى عمت معظم أرجاء مصر وربما مازالت بقاياها تطل برأسها هنا وهناك، وكان من مظاهرها قطع بعض الطرق الزراعية والصحراوية وبخاصة فى الصعيد وهو نفس ما صاحب ثورة عرابى كما تنبئنا وثيقتنا الجديدة التى يقول نصها: «ترجمة إفادة واردة من نظارة الأشغال العمومية إلى نظارة الداخلية بتاريخ 10 أكتوبر سنة 83 نمرة 146: أوردت مصلحة السكة الحديد بإفادتها الرقمية 8 أكتوبر الجارى نمرة 10063 أنها حررت للداخلية فى يومى 11 و 12 من شهر مايو نمرة 513 عن حصول نهب وسلب حصل من قطارات السكة الحديد فيما بين دمنهور وإيتاى البارود وذكرت بأن تكرار حصول أمور من هذا القبيل أو أوجبت المصلحة لدفع مبالغ وافرة نظير تعويضات عن الطرود التى فقدت وأنه بناء على المعلومات التى تحصلت عليها والتقارير المقدمة إليها من مفتشها يعلم علم اليقين أنه لا شك من وجود عصبة من اللصوص فيما بين أبو حمص وكفر الدوار وأنها تمتد يدها لحد الجهات الواقعة بين إيتاى البارود وإسكندرية ثم تطلب المصلحة المذكورة اتخاذ الطرق الفعالة الشديدة لمنع تكرار حصول النهب المماثل لهذا مع ضبط الفاعلين ومعاقبتهم بناء عليه نرجو من عطوفتكم إصدار الأوامر التى تستصوبونها لقطع دابر الأشرار وحسم الأمور المغايرة. أفندم». مبارك ما أعظم الثورات وأنبلها وما أحقر الراكبين عليها والمتسلقين. ياما فى الحبس مظاليم «مظاليم المحابيس» ملف مهم سرعان ما تمتد إليه يد وعين أى ثورة لتعيد فتحه وقراءته ومثلما تعالت أصوات عشرات الألوف من سجناء الرأى المخالف واستجابت لها القيادات الجديدة لتصفية وغربلة رهناء السجون وإخراج أسرى بدرومات وغرف فئران أمن الدولة، لا أعاده الله بصورته السابقة، حاول الاستعمار الوليد منذ 1883 أن يجمل صورته ويدعى بدء تنفيذه لأحد عناوينه المعلنة لتبرير الاحتلال وهو إنهاء المظالم وإحلال الديمقراطية وإجراء العدل وتطبيق المساواة حتى مع المخالفين فى الرأى والمناهضين للنظام كما نقرأ فى الوثيقة الأخيرة لهذه الحلقة والتى تقول: «إلى سعادة إبراهيم باشا رشدى. حيث يوجد الآن بعض أشخاص مسجونين فى سجن إسكندرية متهمين بارتكاب جنايات مختلفة أثناء الحوادث الثوروية الأخيرة التى وقعت بالقطر المصرى كما يعلم لحضرتكم من الكشف المرفوق طيه أسماؤهم وقد زار من عهد قريب حضرة الماجور ماكدونلد سجن مدينة إسكندرية المذكورة وأجرى بعض التحقيقات عن قضايا هؤلاء المسجونين وقد تأثر بأخزخانه - أى علاج - بالكشف طيه عن الملحوظات التى أبداها جناب الماجور بهذا الخصوص بناء عليه المرجو من حضرتكم الذهاب حالاً إلى الإسكندرية والشروع من دون تأخير فى تحقيق القضايا المقامة على الأشخاص البادى ذكرهم ولهذا الغرض يسوغ لحضرتكم أن تطلب للحضور أمامكم أى شخص ترى لزوم استجوابه ومن بعد إجراء التحقيق إذا اتضح لحضرتكم عدم صحة التهمة المقامة على أى شخص من المسجونين أو عدم امكانية الحصول على شهادات مؤيدة للتهمة فيسوغ لكم إصدار أمر بالكتابة إلى المحافظ بالإسكندرية بإخلى - إخلاء - سبيل الشخص حالاً وبمعرفة سعادة المحافظ يصير إطلاقه وإذا اتضح لكم ثبوت أى تهمة وأنه توجد شهادات تؤيد ذلك فالشخص أو الأشخاص المسجونون يصير إبقاؤهم بالسجن وعلى ذلك تحرر أوامر بالكتابة ممضياً منكم واضحاً فيه اسم الشخص أو الأشخاص المذكورين مقتضى إبقاؤهم بالسجن لحين محاكمتهم أمام مجلس الاختصاص والأوامر التى تحررها لا ينبغى أن تشمل إلا كل قضية على حدتها وأما التحقيقات فيصير إجراؤها من الكتابة بكل قضية بمفردها سواء كانت تلك القضية تختص بشخص واحد أو جملة أشخاص مثلاً إذا كان ثلاثة أشخاص متهمين بقتل شخص واحد بالاشتراك معاً فيعمل عنهم قضية واحدة وأما إذا كان ثلاثة أشخاص متهمين بقتل ثلاثة مختلفين فيعمل عنهم ثلاث قضايا أعنى ثلاثة تحقيقات والأوفق أن يبتدأ بتحقيق القضايا الجزئية أما مصاريف سفريتكم فهى على طرف الحكومة ويحتسب لكم يومياً جنيه واحد نظير مصاريف انتقالكم فى هذه المأمورية ولا يحتاج الحال إلى إصدار أمر خلاف ذلك فإن هذا يكون كافياً للشروع فى تأدية مأموريتكم على وجه ما ذكر». عجباً ما أشبه الليلة بالبارحة ومازالت للحكايات بقية.