ليس الحوار الذى بين أيدينا الآن سعيا مباشرا لتكرار حوارات مشابهة حول العقائد فى الديانتين الإسلامية والمسيحية على مستوى الداخل المصرى.. فربما الأوضاع الثقافية والاجتماعية الحالية لا تسمح بالحذو على نفس السبيل، دون أن يكون هذا الأمر سكبا لمزيد من الزيت فوق لهيب الاحتقان! لكننا فى المقابل كنا نأمل أن تكون مصر - بلد الأزهر - هو بلد الاستضافة، لا كينيا، التى شهدت واحداً من الحوارات الأكثر رقيا بين العقائد، جرت بين كل من بادرو كاتريجا أستاذ الدراسات الإسلامية وسفير أوغندا لدى المملكة العربية السعودية، وديفيد شنك أستاذ مقارنة الأديان وتاريخ الكنيسة بجامعة كيناتا بنيروبى. وهى المناظرة التى تم تسجيلها فى كتاب منفصل ونشرت ترجمته «دار النشر الأسقفية» بعد أن كتب له المقدمة د. على جمعة مفتى الجمهورية. وإسهاما منا فى دعم روح التسامح وتقبل الآخر - سواء كان مختلفا أو مخالفا - ننشر أهم النقاط التى أثارها الأستاذان البارزان فى مناقشاتهما، مع المقدمة الكاملة التى كتبها د. على جمعة، لعلها تمثل جهدا متواضعا فى أمر نحسبه مهما. روزاليوسف مفتي الجمهورية يقدم المناظرة: رحلة البحث عن «كلمة سواء»! د. علي جمعة وضع الإسلام قواعد واضحة للعائلة البشرية، وأعلن فى صورة واضحة لا تحتمل اللبس أو التأويل أن الناس خلقوا جميعاً من نفس واحدة مما يعنى وحدة الأصل الإنسانى، فقال تعالى «ياأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا» «النساء:1»! وقال النبى محمد - صلى الله عليه وسلم - «الناس بنو آدم وآدم من تراب»، ولذلك فالناس جميعاً فى نظر الإسلام لهم الحق فى العيش والكرامة دون استثناء أو تمييز، ولا يصح أن يكون اختلاف البشر فى ألوانها وأجناسها ولغاتها ودياناتها سبباً فى التنافر والعداوة، بل إنه يجب أن يكون داعياً للتعارف والتلاقى على الخير والمصلحة المشتركة، كما أخبرنا الله عز وجل بقوله «ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا» «الحجرات: 13»، وميزان التفاضل الذى وضعه القرآن الكريم إنما هو فيما يقدمه الإنسان المؤمن من خير للإنسانية كلها «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» «الحجرات 13». لكل ذلك نظر الإسلام إلى غير المسلمين - وخاصة أهل الكتاب - نظرة تكامل وتعاون وبالأخص فى المصالح المشتركة على قاعدة من القيم والأخلاق التى دعت إليها كل الأديان، بل تلك التى حظيت بالقبول والرضا من بنى الإنسان. ودستور الإسلام فى التعامل مع غير المسلمين يتلخص فى قوله تعالى «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين» «الممتحنة: 8» ومن هذه الآية وغيرها، حدد الإسلام الأصول التى يجب مراعاتها عند التعامل مع الآخر، وقوام تلك الأصول هو التسامح الذى هو وثيق الصلة بالعفو الذى يعنى التجاوز عن الذنب وإسداء الإحسان وفعل الخيرات. ويرجع أساس النظرة المتسامحة التى تسود المسلمين فى معاملة مخالفيهم فى الدين إلى الأفكار والحقائق الناصعة التى غرسها الإسلام فى عقول المسلمين وقلوبهم، ومن أهم تلك الحقائق: وحدة الأصل البشرى - تكريم الإنسان - الاختلاف فى الدين أمر قدرى بمشيئة الله تعالى - المسلم غير مكلف بمحاسبة غيره من المخالفين له فضلاً عن إكراهه وجبره لمخالفة دينه - حث الإسلام على العدل الذى به ينتظم الوجود الإنسانى. عندما نقبل هذه المبادئ ندرك مدى قيمة هذا الكتاب الماتع الذى تشيع فيه روح التسامح، والاحترام، والود، والذى يوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن دائرة الاتفاق بين الأديان أكبر بكثير من دائرة الاختلاف، وأنه لم يعد هناك مكان ولا إمكانية للعزلة ولا الانعزال، لم يعد هناك إلا أن نعيش سوياً على هذه الأرض، وأن نصنع أسس الحوار كما أرادها الله - سبحانه وتعالى - وهذا جوهر ما نادت به مبادرة «كلمة سواء» كما هو ثابت فى آيات القرآن الكريم، والكتاب المقدس أن الإسلام والمسيحية يشتركان فى قيمتين فى غاية الأهمية؛ وهما حب الله وحب الجار. أدعو الله - العلىّ القدير - أن يبارك جهود المؤلفين، وأن يكون خطوة طيبة لتعزيز ثقافة التسامح، وترسيخ قيم الخير والسلام. د. علي جمعة