كلما وقعت أحداث دامية بين الأقباط والمسلمين في مصر ترتفع أصوات البعض طالبة الحماية الأمريكية للأقباط، ويذهب أقباط المهجر وخاصة في أمريكا ليتظاهروا أمام السفارة طلبا لتلك الحماية، ولقد انقسم الكثيرون من الأقباط نحو هذا المطلب، فمنهم من يعتبر أن مثل هذه المطالبات ليست من الوطنية في شيء ومنهم من يعتبر أن هذه المطالبات شرعية تماما لأنها تحمي الأقلية القبطية من الاندثار سواء بسبب الهجرة المتزايدة نتيجة للتوترات الطائفية أو بسبب أن الأعداد تتناقص لأن المسيحيين بطبيعتهم لا ينجبون الكثير من الأطفال أو لأن هناك أعدادا تلجأ إلي الدين الإسلامي حماية لنفسها أو لأسرتها من الضغوط.. بين هذين الرأيين الرئيسيين نجد آراء أخري متدرجة بداية من رفض الحماية الأمريكية وانتهاء بضرورة انفصال المسيحيين في محافظة أو اثنتين، وبالطبع هناك هيئات ومنظمات لحقوق الإنسان وهيئات كنسية ودينية تشجع مثل هذه التوجهات، والحقيقة أن كل رأي من هذه الآراء له مبرراته وأسانيده وتزداد هذه المبررات والأسانيد كلما كانت الأحداث أقوي وأعنف وأكثر سخونة، ولا شك أن ظهور السلفيين علي سطح الأرض وعنفهم الصادم لجموع الشعب المصري بل والمنطق الذي يتحركون به ويتحدثون إنما يلقي بالرعب لا في قلوب المسيحيين فقط، لكن في قلوب من هم ضد الدولة الدينية والمنادين بالديمقراطية الليبرالية من المسلمين أيضا، حيث يعتبرهم السلفيون مرتدين، ولقد كان في تحركهم لهدم الأضرحة وحرق الكنائس علامة ضخمة لما هو آت في المستقبل لكل من يخالفهم العقيدة والفكر والتوجه، وكذلك كان لظهور الإخوان بتنظيمهم الشديد وقدرتهم علي حشد الجماهير وتحالفهم مع السلفيين وقع الرعب في قلوب من يخالفونهم العقيدة أو الرأي أو الفكر أو التوجه، ولكي لا نقوم من حفرة لنقع في ساقية طبقا للمثل الشعبي المصري علينا أن نقيم التدخل الأمريكي لحماية الأقلية القبطية في مصر ومدي نفعها وجدواها، وهل ستكون فعلا للمصالح أم للضرر، وهنا علينا أن نضع بعض الملاحظات الهامة بشأن هذا الأمر: أولا: إن القوي العظمي وعلي مدي التاريخ لم تتدخل لحماية الأقليات لوجه الله، فمن المعروف تاريخيا أن القوي العظمي تتدخل في شئون الدول عند اقتسام الغنائم، لكنها بالطبع لابد أن تجد مبررا للتدخل للحصول علي الغنيمة، وأفضل مبرر هو حماية الأقليات، وقد تم ذلك عندما أصبحت الإمبراطورية العثمانية «الرجل المريض» كما أطلقوا عليها حينئذ، فعندما ضعفت الخلافة العثمانية وبدا في الأفق أنها تنهار ظهرت الأضداد الثلاثة كما يقول المؤرخون: الغرب ضد العرب، المسيحية ضد الإسلام، الكنيسة الرومانية ضد الكنيسة الشرقية.. هذه الثلاثة أضداد كانت متوحدة في زمن قوة الدولة العثمانية لكن عند انهيار الدولة أعلنت القوي الأجنبية حمايتها للأقليات فأعلنت فرنسا حمايتها للكاثوليك، وأعلنت روسيا حمايتها لليونانيين الأرثوذكس، وقد رفض أقباط مصر هذه الحماية من منطلق وطنيتهم، وأعلنت أمريكا حمايتها للأرمن الأرثوذكس، وكانت أمريكا في ذلك الوقت قوة ناشئة، وهكذا قامت الحملة الفرنسية علي مصر، وسيطرت روسيا علي منطقة البحر الأسود وقطعتها من الدولة العثمانية، ثم سيطرت إنجلترا علي معظم الشرق الأوسط واقتسمت العالم العربي مع فرنسا طبقا لمعاهدة سايكس بيكو واتضح في النهاية أن كل هذه الحرب والتدخلات في شئون الدول لم تنفع أو تنقذ الأقليات، لكنها استولت علي ثروات هذه الأمم وكان احتلالها عسكريا واقتصاديا وانتهي الأمر بإضعاف الدول وليس حماية الأقليات. ثانيا: إنه علي مدي التاريخ كانت الحروب توسعية استعمارية بدعاوي دينية، فالحروب الصليبية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر أتت إلي الشرق بدعوي استرداد القدس من المسلمين وحماية المسيحيين من الغزو الإسلامي، لكن الحقيقة أن هذه الحروب والغزوات كانت بسبب خلافات الأمراء في مقاطعاتهم سواء في فرنسا أو إنجلترا والكساد الاقتصادي الذي ساد أوروبا في ذلك الوقت لذلك كان لابد من دعوة دينية لشحذ الهمم وقبول متطوعين كثيرين، وكان للكنيسة في ذلك الوقت دور رئيسي في إعطاء صكوك غفران لمن يتطوع في الحرب لإنقاذ أورشليم فيقدم لهم الصك الذي يضمن دخولهم إلي الجنة، وهكذا اصطبغت الحرب بالصبغة الدينية والدين منها براء وهو نفس ما فعلته الدولة العثمانية عندما توسعت في الغرب ووصلت إلي النمسا ويوغوسلافيا نحو البلقان وارتكبت مذابح فظيعة ضد الصرب الأرثوذكس وضد الأرمن بدعاوي دينية، وبالطبع لم يكن الأمر كذلك بالمرة،كانت هذه الحروب سببا في انهيار الدولة العثمانية لأنها كانت حروبا توسعية اقتصادية ولذلك يمكن القول أنه لا يوجد في التاريخ ما يسمي بالحروب الدينية لكنها حروب سياسية توسعية بصبغة دينية. ثالثا: إن الاستعمار الحديث أكثر ذكاء، ففي السابق كانت الدعاوي الدينية وحماية الأقليات الدينية تثير حماسة شعوب الدول العظمي للقربي الدينية، لكن في العصر الحديث لم تعد الدعاوي الدينية أو القربي الدينية تلاقي قبولا عند الأجيال الجديدة، لكن ما يلاقي إقبالا شديدا وقبولا ضخما في العالم ككل هو الدفاع عن حقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب، وهكذا حل مصطلح محاربة الإرهاب والحقوق محل محل حماية الأقليات الدينية التي تشارك الدول العظمي ديانتها، وهكذا حدث في حرب فيتنام وفي البوسنة، حيث وقفت أمريكا ضد الأرثوذكس الصرب لصالح المسلمين، ثم تدخل أمريكا لتحرير الكويت ثم غزو العراق وإسقاط صدام حسين، والسؤال هو: هل استطاعت أمريكا حماية مسيحيي العراق أم حاربتهم؟ وما هو الموقف الأمريكي اليوم من الثورة السورية والليبية واليمنية؟ ولماذا تتدخل لصالح الثورة في مكان ولصالح الديكتاتور في مكان آخر؟ إنها المصلحة يا عزيزي القارئ ولذلك علينا أن نفكر بمنطق هل من مصلحة الأقلية القبطية في مصر أن تطلب الحماية من القوي العظمي أم أن مصلحتها في التمسك بوطنيتها كما كانت علي مدي التاريخ سواء عندما طلبت روسيا حمايتها أو عندما أرادت إنجلترا استغلالها أو عندما استطاعت أن تعلن موقفها بوضوح في ثورة 1919 ودستور 1923 والصلح مع إسرائيل؟ --- إن الأقلية القبطية في مصر هي في أشد الحاجة اليوم للتفكير بهدوء وحكمة وهي تتطلع إلي مستقبل تكون فيه شريكا حقيقيا في الوطن معلنة مصريتها حتي النخاع كما كانت وستظل دائما وكما استشهد كثيرون منهم علي يد الغزاة من الرومان وحتي الصهاينة لأجل مصريتهم، وعليهم الآن أن يصبروا حتي تزول الغمة الحالية وتبقي مصر للمصريين حقيقة دون تفرقة، وذلك لن يكون إلا بنجاح الثورة، علي أن يدرك الجميع أن أمريكا سوف تتدخل في حالة تحول مصر إلي حرب أهلية أي دولة رخوة أو فاشلة، وسوف تتدخل بأكثر من حجة من أهمها محاربة الإرهاب وحماية السلام العالمي، فهل من الأفضل أن يكون الأقباط في الطرف الذي يطلب الحماية فيصبح خائنا للوطن ويكون موقفه في منتهي الحرج علي الرغم من أن كل دعوته لأمريكا لن تجدي شيئا، ويوم أن تتدخل أمريكا سوف تكون لأسباب أخري ولن يخسر سواكم فهل نفيق وندرك المستقبل قبل أن يقتحمنا؟