عز الدين شكرى.. الصديق القديم الذى يظهر فجأة ثم يختفى طويلا.. أراه مرة كل عدة سنوات.. يستطيع بعد دقائق قليلة أن يجعلنى أقبل غيابه الطويل، ويتواصل معى كأننا كنا بالأمس معا نتجول فى شوارع القاهرة.. كان يبحث عن نفسه بدأب.. وفى إحدى فترات غيابه الطويل عنى سمعت فى تجمع للمثقفين فى وسط المدينة من يقول متهما إياه، بأنه غريب جاء ليدير العمل كأمين عام للمجلس الأعلى للثقافة وأنه جاء من جهة سيادية كانت قد أوفدته للعمل بالأمم المتحدة. كان مهماً اللقاء به وطرح كثير من الأسئلة عليه.. قلت له: أنت بتعبير د. عماد أبوغازى وزير الثقافة شخص خارج نطاق القبائل الثقافية التقليدية، فأين كنت؟ وما هى بداية اهتمامك بالعمل الثقافى؟ أجاب: أنا لم أكن فى يوم من الأيام عضوا فى أى جماعة ولا قبيلة ثقافية وسأعيش وأموت فردا بذاتى، أنا أحب العزلة وأشق ما أجده فى هذه الوظيفة هو اضطرارى للتخلى عن عزلتى فالوظيفة التى أديرها مشكلتها أنها تمثل الثقافة كعمل للحرية والسلطة هى عمل من أعمال السيطرة. فقلت له: فى تقديرى أنت فى موقف متناقض فقد مارست العمل السياسى، والسياسة هى فن الممكن، وفن البحث عن المصلحة والقوة، أما الثقافة فهى فن المستحيل والبحث عن الخيال والأحلام. فأجاب: أنت وضعت يدك على معضلة حياتى كلها، فقد عشت حياتين منفصلتين، ففى عملى الدبلوماسى لا يعرف عدد كبير من زملائى أننى أكتب وقد اندهشوا جدا عندما عرفوا ذلك عام 7002 عندما رشحت روايتى غرفة العناية المركزة لجائزة البوكر. فقلت له: ربما كان تكرار سفرك هو ما دفع البعض للاعتقاد بأنك غير متورط فى الواقع المصرى؟ فأجاب: كيف.. أنا من عائلة فشير فى المنزلة وغرابة الاسم جزء من غرابة قدرى ولا أعرف معناه لكن ليست لى أصول أجنبية. أنا تربيت فى المنصورة وتعلمت فى التعليم العام المجانى وأنا أقدره للغاية، وعندما حضرت للقاهرة كانت إقامتى بالمدينة الجامعية وفيها قابلت مجموعة مازالوا أصدقاء حتى الآن: الوزير المفوض بدر عبدالعاطى والكاتب الصحفى إبراهيم عيسى وعمرو خفاجة، البعض ذهب لليمين والبعض لليسار، وغيرهم ممن تفرقت بهم السبل. * قلت له: لم أندهش كثيرا عندما علمت بعملك فى المجلس، فقد عاصرتك وأنت تمارس التمثيل للمسرح بالجامعة. هل كنت تريد أن تمارس التمثيل؟ - لا، كانت وسيلة لممارسة العمل العام، كنت قبل أن أكتب الرواية أريد أن أصبح كاتبا مسرحيا. ها أنا الآن بوزارة الثقافة، أرجوك تذكر عندما كنت أبحث عن اتصال بالعمل العام فى وقت كان النظام السياسى السابق قد احتكر العمل العام له ولأتباعه، ولقد كان أقرب مجال للعمل العام السياسى دون الانضمام للحزب الوطنى هو السلك الدبلوماسى لكنى قبلها عملت فى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاقتصادية كمساعد للدكتور أسامة الغزالى حرب. * كيف إذن جاءت الخارجية؟ - كان هناك إعلان ونجحت أنا ابن الطبقة المتوسطة وأهلى كلهم إما فلاحون أو صيادون أو صغار تجار أو مهنيون عاديون ولا يوجد بالعائلة أى شخص من كبار رجال الدولة، كان قبولى بالخارجية مفاجأة مذهلة لى. * لقد أثنيتك وعددا من الأصدقاء عن الاستقالة منذ سنوات عندما شاهدتك - كما تظهر لى فجأة بميدان الجيزة - ممسكا بالاستقالة؟ - السبب إسرائيل كان نقلى الإجبارى للسفارة هناك، وقبلها حصلت على معادلة للدكتوراه وقررت الانضمام لجامعة حلوان ولكن صعوبة الجامعة وإقناع السفير صلاح عيسى لى بأن رؤية إسرائيل من الداخل عمل وطنى يستدعى فهم ذلك المجتمع من قرب جعلنى أخوض التجربة، عملت هناك عامين، عام مع السفير محمد بسيونى ثم مع السفير إيهاب الشريف رحمه الله. * كيف ترى تلك التجربة؟ إن ما تعلمته من العمل بسفارتنا المصرية بتل أبيب لا يقدر بثمن خاصة أن كل علاقتى بقضية فلسطين قبل ذلك كانت أشعار محمود درويش. * ما هى السفارات المصرية الأخرى التى عملت بها؟ - عملت عامين بفرنسا وهناك أنجزت رواية «مقتل فخر الدين» ثم ذهبت فى إجازة بكندا لأنجز الماجستير والدكتوراه وفى كندا كتبت «أسفار الفراعين» وكانت أكثر حظا من الرواية الأولى رغم أنها طبعت «تحت السلم»، أما الطبعة الثانية فيتولى طباعتها «محمد هاشم» عن دار «ميريت».. ضحكت وقلت له: دبلوماسى وتأتى من الهامش الثقافى وتطبع رواياتك «تحت السلم»، فأجاب: كنت أخاف من «أسفار الفراعين» لأنها رواية تخريبية.. المهم مسارى المهنى بالخارجية كان نصفه إجازات انتهت بالعودة للعمل بالمعهد الدبلوماسى بالقاهرة وكان وسيلة للتواصل مع عدد من المثقفين الذين استعنت بهم للتدريس للدبلوماسيين فى المجال الثقافى، ومن هنا بدأت علاقتى بعدد منهم مثل د. عماد أبوغازى ود. أحمد مجاهد وحلمى النمنم. ود. سمية رمضان وغيرهم. بعدها عملت بالأمم المتحدة فى دارفور ثم فى منظمة إدارة الأزمات وهى منظمة غير حكومية كنت فيها مديرا لملف الصراع العربى - الإسرائيلى ثم عدت للعمل لمكتب وزير الخارجية أحمد أبوالغيط الذى تكرم بالموافقة على إجازة مفتوحة بسببها أعمل الآن بالجامعة الأمريكية إلى أن كلفنى د. عماد أبوغازى بمسئولية المجلس. * هل ستسهم فى دعم سياسة مصر الخارجية عبر الثقافة؟ - مصر تحتاج لسياسة خارجية جديدة تماما، أما عن دور الثقافة فسيكون حاضرا جدا وتحديداً فى أفريقيا فدورنا غائب تماما هناك ونحن فى أفريقيا لا نملك المنح أو المنع، وإنما نملك التأثير الثقافى كقوة فاعلة. * وما صحة ما يتردد عن فصل المجلس عن الوزارة وإعادة هيكلته؟ وهل الوقت مناسب الآن لذلك؟ وهل سيعطل مشروعنا الوطنى فى دعم نشر ثقافة الديمقراطية لدى الأغلبية الصامتة؟ - لا نحن فى ثورة وإعادة الهيكلة والبناء للمجلس لا يعوق أية مشروعات أخرى هى استجابة لمطالب التغيير المشروعة، وبوضوح الوزير كلفنى بإعادة النظر فى دور المجلس، وسوف يكون مبدئيا لرسم السياسة الثقافية ومتابعة تنفيذها. * هل تثق فى النخبة؟ - النخبة تتغير كما يتغير كل شىء فى مصر، فلا تحفزها وأتركها تفعل ما تشاء. * قلت له، أنا لا أحب استمرار النخبة دون قصد فى تنفيذ خطة النظام السابق الذى وضعها فى مواجهة مع التيار الدينى، فماذا ستفعل فى خطتك للحوار مع الأغلبية الصامتة الميالة للشعار الدينى فى مصر؟ - سنذهب للأحياء الشعبية والأطراف ولن نعمل ضد أحد، فالتيارات الدينية مثلها مثل الليبرالية والعلمانية جزء من ثقافة المجتمع المصرى. * هل سنرى خططا منظمة تخرج المثقفين فى مصر من دائرة الحوار المغلق للتأثير فى المواطن؟ - ابتسم قائلا: هذا محض خيال طبعا لكنه ممكن. خيال قابل للحدوث فى روايتى غرفة العناية المركزة النخبة ضحية ومذنبة، فممثلو النخبة الأربعة فيها سقط عليهم المبنى.. كنت أراهم موتى لكنهم فى يناير خرجوا مع الجميع من تحت الأنقاض فالنخبة الآن عليها أن تختار بين أن تموت أو تتغير لا تقلق عليها. قلت لنفسى أقلق منها فقد اعتادت أن تتلقى التكليف من الدولة طوال مشروع التحديث منذ محمد على وحتى الآن. * وما هو دور وزارة الثقافة فى الحوار الوطنى؟ قال: الحوار الوطنى لم يبدأ بجدية، والآن نحتاج لوقفة حاسمة تجمع القوى الوطنية للحوار حول نقاط محددة تجيب عن مجموعة من الأسئلة من يضع القرار النهائى للفترة الانتقالية وما هى القوانين الحاكمة لها؟ ماذا تريد القوى الوطنية للحفاظ على مشهد التوافق؟ وهذا ما سيجعل مصر تهدأ تماما وهذا هو دور الحكومة، وليس دور وزارة الثقافة وحدها، بل يجب أن تلعب كل مؤسسات الدولة والمجتمع أدوارها بدقة قلت لنفسى ها هو د. عز الدين شكرى فشير، جاء به القدر لأمنيته الأولى فى شبابه الباكر وهى العمل بالثقافة والكتابة والفنون، أدركته حرفة الكتابة فهل يستطيع حقا أن يحقق حلم هذا الجيل بمقدرة ومهارة وإدارة الثقافة المصرية.. فلننتظر!