وسط الثورة الرقمية المتسارعة، لم يعد التواصل الاجتماعى مجرد وسيلة للبقاء على اتصال مع الأصدقاء، أو مشاركة الصور والفيديوهات، بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، يتحكم فى طريقة تلقى الأخبار، وفى تشكيل الرأى العام، وحتى فى تحركات الأفراد والمجتمعات. فمنصات مثل: (فيسبوك، إنستجرام، واتساب) التابعة لشركة (ميتا) لم تعد مجرد تطبيقات، بل هى قنوات تؤثر على عالم السياسة، والاقتصاد، وحتى الثقافة فى مختلف أنحاء العالم. ومع هذا النفوذ الهائل، تنشأ توترات متزايدة بين هذه الشركات العملاقة، والدول التى تسعى للسيطرة على تدفق المعلومات غير الدقيقة، من أجل حماية أمنها القومى، والحفاظ على السلم والأمن المجتمعى. لذلك، لجأت بعض الحكومات حول العالم إلى حجب تلك التطبيقات، أو تهديدها بالحظر لأسباب تتراوح بين حماية الأمن القومى، ومنع انتشار المحتوى غير القانونى، أو غير الأخلاقى، أو المحتويات التى تراها بعض الدول لا تتماشى مع ثقافة شعوبها. «روسيا» VS (واتساب) فى أحدث مواجة مع شرطة (ميتا)، فرضت «روسيا» قيودًا على الوصول إلى تطبيق (واتساب) للعديد من المستخدمين؛ محذرة من أن خدمة الرسائل قد تواجه حظرًا على مستوى البلاد ما لم تمتثل للأنظمة المحلية. وأبلغ مستخدمو (واتساب) فى «موسكو، وسانت بطرسبرج» منذ أيام عن تعطل إرسال الرسائل وبطء تحميل الصور والفيديوهات؛ بينما لا يزال بعض المستخدمين يعانون من انقطاعات. وقالت هيئة الرقابة على الاتصالات الروسية «روسكومنادزور» إنها فرضت إجراءات تقييدية على تطبيق (واتساب)، متهمة المنصة بانتهاك القانون الروسى بشكل متكرر؛ وزعمت -أيضًا- أن التطبيق يُستخدم لتنظيم وتنفيذ أنشطة إرهابية، وتجنيد مرتكبيها، بالإضافة إلى الاحتيال وجرائم أخرى ضد المواطنين الروس. كما أكدت الوكالة الروسية التى يرأسها «ليبوف يوريفيتش» أن الخدمة قد تُحظر تمامًا فى حال عدم امتثال الشركة للمطالب القانونية. ومن جانبها، وصفت شركة (ميتا) هذه الإجراءات، بأنها محاولة لحجب وسيلة تواصل -تعتبرها- آمنة لملايين المستخدمين فى «روسيا». ولم يتوف الأمر عند هذا الحد، إذ أكدت «روسكومنادزور» أنها ستحجب تطبيق (سناب شات)، وهو تطبيق مراسلة لتبادل الصور ومقاطع الفيديو والرسائل النصية؛ كما أعلنت السلطات الروسية فرض قيود على خدمة مكالمات الفيديو التابعة لشركة «آبل» (فيس-تايم)؛ مستندة إلى نفس الأسباب التى ذكرها لتقييد خدمة (واتساب، وسناب شات). يذكر، أن «موسكو» لم تبدأ صراعها مع شركات التكنولوجيا الرقمية الغربية الآن، بل سبق أن وقفت السلطات الروسية أمام عدد من تطبيقات للشركة فى السنوات الماضية. فعلى سبيل المثال، بدأت «روسيا» منذ عام 2014 فى الضغط على تطبيقى (فيسبوك، وإنستجرام) لإزالة محتوى -اعتبرته الحكومة- مخالفًا للقوانين المحلية، وكانت العقوبات تشمل حجب الخدمات مؤقتًا، أو فرض غرامات على الشركة. ثم فى عامى 2017 و2018، صُنف (فيسبوك، وإنستجرام) كمواقع متطرفة فى بعض المناسبات، ما أعطى السلطات الروسية الحق القانونى فى تقييد الوصول إليها. فى هذه الفترة، ظهرت -أيضًا- محاولات روسية لتشجيع المستخدمين على الانتقال إلى بدائل محلية، مثل تطبيق (MAX)، الذى توفره الدولة، وتهدف من خلاله إلى ضمان بيئة رقمية تحت الرقابة المحلية، وهو ما يوضح استراتيجية «روسيا» لتعويض أى نقص فى الوصول إلى المنصات الغربية.
الدول فى مواجهة تطبيقات (ميتا) الصين إن «روسيا» ليست الدولة الوحيدة التى انتابها القلق من نوايا (ميتا) وتطبيقاتها، إذ اتخذت العديد من الحكومات حول العالم خطوات وإجراءات لحماية أمنها القومى؛ ويأتى على رأس القائمة «الصين»، التى حظرت بالكامل جميع تطبيقات (ميتا)، بما فى ذلك: (فيسبوك، إنستجرام، واتساب) منذ عام 2009 تقريبًا. وكانت الحكومة الصينية تسعى -حينها- للسيطرة على تدفق المعلومات وحماية البيانات المحلية، وهو ما أدى إلى ولادة بدائل محلية قوية، مثل (WeChat)، و(Douyin). إيران من جانبها، تحظى «إيران» بتاريخ طويل من القيود على منصات (ميتا)، خصوصًا خلال الاحتجاجات، لتقليص النفوذ الرقمى الغربى الذى يسعى للتأثير على الرأى العام، وفقاً لتصريحاتها. ففى عام 2009، حجبت «طهران» خدمات (فيسبوك، وإنستجرام، وواتساب) جزئيًا أو كليًا، بزعم منع نشر محتوى يثير الاضطرابات. وفى عام 2019، فرضت الحكومة الإيرانية حظرًا على منصات (ميتا) لفترات طويلة، إلا أن الحكومة رفعت الحظر عن (واتساب) كخطوة أولى لتخفيف القيود على الإنترنت فى ديسمبر 2024. تركيا أما «تركيا»، فسبق أن هددت وفرضت قيودًا على تطبيقات (ميتا) بين عامى 2014 و2020؛ ففى عدة مناسبات، حجبت الحكومة التركية (فيسبوك، وواتساب)، إلى جانب (يوتيوب) التابع لشركة (جوجل) جزئيًا أو هددت بحظرها، بسبب محتوى -اعتبرته- مخالفًا للقوانين المحلية المتعلقة بالكلام المسىء، أو التحريض على العنف. باكستان وبالنسبة ل«باكستان»، فهى لم تختلف عن سابقيها، إذ حجبت مؤقتًا تطبيقات (ميتا) فى فترات محددة، خصوصًا فى عامى 2017 و2020، بسبب انتشار محتوى -وصفته- بغير لائق، حيث لجأت الحكومة إلى الحجب المؤقت لإيقاف المعلومات التى اعتبرتها مهددة للنظام. البرازيل وفى النصف الآخر من الكرة الأرضية، اتخذت «البرازيل» مواقف مشابهة، إلا أن الصراع مع (ميتا) وتطبيقاتها كان -غالبًا- قانونيًا، ففى عامى 2015 و2016 أصدرت المحاكم البرازيلية قرارات بحظر (واتساب) لفترات قصيرة، بسبب رفض الشركة التعاون مع التحقيقات القضائية، وتسليم بيانات المستخدمين. تطبيقات (ميتا) الأكثر حظرًا فى العالم فى أحدث إحصائية نشرتها منصة «ديجيتال جورنال» العالمية -فى أكتوبر الماضى- حول منصات التواصل الاجتماعى المحظورة، أوضحت أن أغلب تطبيقات (ميتا) تتعرض لأشرس أنواع الحظر الجزئى والكلى لأسباب متنوعة. فيحتل (فيسبوك) المرتبة الأولى كأكثر التطبيقات شيوعًا، وفى المقابل يواجه أوسع قيود عالميًا؛ إذ يتعامل مع المنصة أكثر من 3 مليارات و500 مستخدم نشط شهريًا. ورغم هذا الانتشار الهائل، لا يزال (فيسبوك) غير متاح فى 7 دول، وهى «الصين، إيران، كوريا الشمالية، ميانمار، روسيا، تركمانستان، وأوغندا». أما (واتساب) فيحتل المركز الثانى بقاعدة مستخدمين تُقارب (فيسبوك)، إذ يبلغ عددهم أكثر من 3 مليارات و300 مستخدم. ومع ذلك، يواجه تطبيق المراسلة حظرًا فى 5 دول، وهى: «الصين، كوريا الشمالية، سوريا، قطر، والإمارات». وفى المركز الثالث يحتل (يوتيوب) فى قائمة الحظر العالمية، حيث يبلغ عدد مستخدميه النشطين شهريًا مليارين و700 مليون مستخدم؛ كما يجذب الموقع اهتمامًا كبيرًا على الإنترنت، حيث يبحث عنه المستخدمون نحو 10 ملايين مرة شهريًا للحصول على مزيد من المعلومات. ولكن، رغم شعبيته، يخضع (يوتيوب) لحظر كامل فى «كوريا الشمالية»؛ بينما يواجه قيودًا جزئية فى كل من دول: «ألمانيا، الصين، تايلاند، وماليزيا». وبالنسبة لتطبيق (إنستجرام) فيحتل المركز الرابع، بنحو مليارى مستخدم شهريًا حول العالم. ومع ذلك فإن هذه المنصة، التى تُركز على الصور، محظورة فى 4 دول، وهى: «الصين، فيتنام، كوريا الشمالية، وتركيا». «الاتحاد الأوروبى» يعاقب على (إكس) فى مواجهة من نوع أخر، بعيدًا عن شركة (ميتا)، فرض «الاتحاد الأوروبى» -منذ أيام قليلة- غرامة قدرها 120 مليون يورو، أى نحو 140 مليون دولار على منصة (إكس) -المملوكة لرجل الأعمال الأمريكى «إيلون ماسك»- بسبب خرقها لقوانين المحتوى على الإنترنت، وهو أول تطبيق لقانون الخدمات الرقمية الأوروبى الذى يدخل حيز التنفيذ. وقال «بريندان كار»، رئيس لجنة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية، إن: «هذه الغرامة تمثل استهدافًا مباشرًا للشركات الأمريكية الناجحة، بسبب قدرتها على التفوق فى السوق الرقمية»؛ مضيفًا أن «الاتحاد الأوروبى» يفرض ضرائب على الأمريكيين لدعم قارة تعيقها لوائحها الخانقة، فى إشارة إلى القوانين التنظيمية التى يفرضها الاتحاد الأوروبى على الشركات الرقمية الكبرى. رد المفوضية الأوروبية لم يتأخر كثيرًا، إذ أوضحت أن قوانينها تهدف إلى حماية المعايير الرقمية والديمقراطية، وأن الهدف ليس استهداف الشركات الأمريكية، بل ضمان محاربة المحتوى الضار، وغير القانونى على الإنترنت. كما أوضح المسؤولون الأوروبيون أن التشريعات الجديدة لا تميز ضد أى جنسية أو شركة، بل تسعى لتعزيز الشفافية والمساءلة على منصات التواصل الاجتماعى. وفى الوقت الذى سعت فيه منصات أخرى، مثل (تيك توك) إلى تجنب العقوبات من خلال تقديم تنازلات، استمرت (إكس) فى رفض التفاوض حول بعض النقاط، مما زاد من توتر العلاقة مع الجهات التنظيمية الأوروبية. على كل، هذه الغرامة تعكس تحولاً كبيرًا فى كيفية تعامل الحكومات مع الشركات الرقمية الكبرى، وتكشف عن التحديات المستمرة فى الصراع على السيطرة على المحتوى الرقمى فى الساحة الدولية. فى النهاية، يمكن القول: إن هذه الصراعات تظهر أن عالم التواصل الاجتماعى أصبح ساحة للصراعات السياسية والقانونية بين الشركات العالمية والدول التى تحاول فرض سيطرتها على المعلومات والمستخدمين. ومع استمرار التوسع الرقمى، ستستمر هذه الحروب الرقمية بين الحكومات والشركات الكبرى، لتشكل تحديًا مستمرًا لكل مستخدم يسعى للبقاء متصلاً بحرية وأمان فى عالم رقمى متقلب يسعى لتوجيه الرأى العام العالمى. Untitled-2_copy