بين ضجيج المهرجانات التى تنير الشتاء السينمائى، وتقلبات السياسة العالمية التى تتسرب بخفة إلى قلب الفن، تتهيأ هوليوود للحدث السينمائى الأهم عالميًا، إذ يمضى قطار الأوسكار نحو محطته ال98، حاملًا معه ملامح موسم غير مسبوق من حيث الزخم، وتنوع الأعمال، واتساع خارطة المنافسة الدولية، والأحكام الجديدة التى تعيد تشكيل لغة الاعتراف الأكاديمى. ففى 15 مارس 2026، وفى موسم تتراكم فيه المؤشرات إلى أن الصناعة أمام مرحلة مفصلية، تتبدى ملامح التغيير فى القرارات التنظيمية الجديدة، بداية من الكم العابر للحدود من الأفلام المتأهلة، وصولًا إلى التنافس الشرس للسباقات داخل فئات التحريك، والوثائقى، والفيلم الدولى، مرورًا بطبيعة الملفات السياسية التى تتسرب من شاشات السينما إلى منصة الجوائز الأهم فى العالم. الكاستينج.. اليد الخفية فى بناء الشخصيات إن إضافة جائزة للكاستينج ليست مجرد قرار إدارى، بقدر ما هو اعتراف بواحدة من أكثر العمليات الفنية تعقيدًا وعمقًا؛ ف(مخرج الكاستينج) –مثلما هو معروف فى عالم الفن- أو (مدير اختيار الممثلين)، هو فنان من طراز خاص خلف الكاميرات، لأنه المسئول عن اختيار الوجوه، والتقاط الكاريزما المناسبة للدور، ورسم الكيمياء بين الأبطال، ليقدم للسينما أجسادًا وأصواتًا تعيش فى الذاكرة. زخم استثنائى وتنوع جغرافى وسياسى أعلنت الأكاديمية أن 201 فيلم وثائقي، و86 فيلمًا دوليًا، و35 فيلم رسوم متحركة مؤهلة لنيل جوائز الأوسكار هذا الموسم، فى أرقام تعكس ارتفاع سقف المنافسة. اللافت للنظر، هو تصدر الحروب الخطوط السردية فى الفئتين الدولية والوثائقية، مع أعمال تركز على الحصار، الدمار، الصمود، والأسئلة الأخلاقية. وللمرة الأولى منذ سنوات، تبرز القضية الفلسطينية تليها الحرب الأوكرانية فى سباقات المنافسة فى مؤشر على أن السينما تعكس العالم المرتبك الذى نعيشه. الفيلم الدولى.. 86 دولة تتنافس والحرب كلمة السر تتنافس هذا العام عشرات الدول فى فئة الفيلم الدولى، إذ تميل الدول إلى إرسال أفلام تعبر عن نفسها، وعن أزماتها، وعن صورتها. ومن بين هذه الترشيحات، برزت أفلام تنتمى بشكل مباشر إلى عالم الحروب، والاحتلال، والتهجير.
ومن أهم تلك الأفلام (فلسطين 36)، الذى يروى تفاصيل الثورة العربية الفلسطينية الكبرى التى اندلعت عام 1936، هو عمل درامى تاريخى يستحضر لحظة مفصلية فى الصراع الفلسطينى مع الاستعمار البريطانى، فبذكاء بصرى وتوازن سردى، تعيد مخرجة الفيلم «آن مارى جاسر» إحياء لحظة 1936، حين بدأ الفلسطينيون انتفاضتهم الكبرى ضد الانتداب البريطانى، ومشاريع التهجير والاستيطان اليهودى. كما يبرز فيلم (صوت هند رجب) وسط حفنة من الأفلام، ليروى من جديد قصة الطفلة الفلسطينية التى أصبحت رمزًا للمدنيين الأبرياء خلال إحدى جولات القصف فى «غزة» خلال العدوان الإسرائيلى الأخير؛ مُقدما صوت الطفولة كرسالة إنسانية قوية، وهو الفيلم الذى تلقى -عند عرضه فى مهرجان تورونتو السينمائى الدولى - تصفيقًا طويلًا من الجمهور؛ وفى مهرجان برلين السينمائى، حصل الفيلم على إشادات واسعة من لجنة التحكيم، كما عرض الفيلم فى مهرجانات أوروبية أخرى، حيث تم تكريمه ضمن فئة الأفلام الوثائقية الإنسانية. أما الفيلم الأوكرانى (2000 Meters to Andriivka)، فيعد واحدة من أقوى المحاولات الفنية لاستيعاب الحرب الروسية–الأوكرانية، إذ يركز الفيلم على بلدة «أندرييفكا»، وهى واحدة من المناطق التى تعرضت لدمار هائل، فيقدم العمل صورة لرحلة ألفَى متر فقط، لكنها مسافة تختصر فيها معركة من أجل البقاء؛ وقد اعتبره النقاد فيلمًا وثائقيًا صادمًا وواقعيًا للغاية، يعكس رحلة الإنسانية وسط الدمار. الوثائقى.. السياسة والحروب تتصدر المشهد مع 201 فيلم، تعد الفئة هذه من أكثر المنافسات شراسة منذ عام (كوفيد- 19)، مع أعمال تتناول الحروب والصراعات والقضايا الإنسانية، ومن بين تلك الأفلام، فيلم (Israel Palestine on Swedish TV 1958-1989)، وهو وثائقى أرشيفى يكشف تغطية الإعلام السويدى للصراع الفلسطيني–الإسرائيلى عبر عقود، ويعيد تشكيل الرأى الغربى عن القضية. وفيلم (Mr. Nobody Against Putin) الذى يسلط الضوء على جهود الدعاية الروسية، والرئيس «فلاديمير بوتن»، مقدما شهادة فنية على السياسة والإعلام. وأيضًا فيلم (In Waves and War) الذى يسلط الضوء على محاربين أمريكيين يعانون اضطرابات ما بعد الصدمة، حيث يظهر أثر الحرب فى الجندى حتى بعد توقف القتال ومسارات الشفاء غير التقليدية. ارتفاع سقف التنافس فى الرسوم المتحركة يعد تنافس 35 فيلمًا من نوعية أفلام التحريك على الوصول إلى الأوسكار، قائمة ضخمة تشير إلى ازدهار هذا النوع من الأفلام، وارتفاع سقف التنافس. ومن بين الأفلام المرشحة، يأتى فيلم الأنمى اليابانى (Demon Slayer: Infinity Castle) الذى بات –رسميًا- الأعلى تحقيقًا للإيرادات فى التاريخ، بعد أن حصد على أكثر من 6 مليارات و600 مليون دولار عالميًا، فضلًا عن كونه أعلى فيلم دولى (غير هوليوودى) يحقق أرباحًا كبيرة فى الولاياتالمتحدة، ما يجعله قوة لا يستهان بها. كما يبرز فيلم (KPop Demon Hunters)، من إنتاج (Sony Pictures Animation)، كإحدى أبرز ظواهر منصات البث اللافتة بعد أن صار الأكثر مشاهدة فى تاريخ (نتفليكس). ويتألق –أيضًا- فيلم (Arco) بإنتاجه الفنى العالى الذى جعله المفضل لدى النقاد فى المهرجانات الأوروبية، حيث فاز بجائزة (كريستال) لأفضل فيلم طويل فى مهرجان (آنسى الدولى للرسوم المتحركة) أحد أهم مهرجانات أفلام التحريك. فى النهاية، يمكن القول إن هذا الموسم من الأوسكار يبدو أنه لا يقتصر على الاحتفال بالتميز الفنى، بل يشكل منصة لرصد العالم كما هو، بداية من الصراعات والمقاومة، وصولًا إلى الإبداعات البشرية التى تتحدى الظروف. وفى دورة الأوسكار ال98، يتقاطع الفن والإبداع، مع السياسة والحرب فى لوحة سينمائية متكاملة، لتؤكد أن السينما لا تزال أداة قوة، وصوتًا للحقيقة التى تستحق أن تُروى.